‫الرئيسية‬ آخر الأخبار موت اللغة و عجز الكلام أمام هول الفجيعة المتجددة المتكررة
آخر الأخبار - مارس 1, 2023

موت اللغة و عجز الكلام أمام هول الفجيعة المتجددة المتكررة

د. بكري الجاك :

هنالك متلازمة معروفة تسميThe Frog-Boiling Syndrome أو متلازمة الضفدع الذي يغلي، و تقول الحكاية أن الضفدع لا يمكن طبخه اذا تم رميه في ماء ساخن، الشعوب التي تعودت على أكل الضفادع تعلم أن طريقة طبخها تبدأ بوضعها في اناء به ماء بارد و من ثم وضع الاناء في نار هادئة ثم زيادة درجة الحرارة تدريجيا. الحكمة المستقاة من التجارب تقول أنه اذا تم وضع الضفدع في ماء ساخن سيقفز، أما في الماء البارد سيجلس الضفدع سعيدا بطبخه في هدوء و صمت. المدلول المعرفي للمتلازمة أن الناس لا تشعر بالتغيرات التدريجية التي تحدث من حولها و أن اي كائن بامكانه التعود علي كل شيء اذا تم تدريجه سواءا كان ذلك التصالح مع الأوساخ في البيئة المحيطة أو في الذات أو التعوٌّد علي الطقس أو القبول بالروائح النتنة أو التصالح مع القبح كأمر عادي لأنه تم تدريجه. و هذا ما يوضح عادة دهشة العائدين الي السودان بعد كل فترة بما في ذلك الذين يغادرون لأيام او شهور محدودة حين تجدهم يتحدثون عن مدي اتساخ شوارع المدن في البلاد بشيء من الدهشة التي قد تذهل الناس الذين تعودوا علي هذه المناظر بشكل يومي.

في سنوات خلت و ابان مشاركة لي في رحلة عمل الي مقديشو لعدة ساعات حيث كان القتال في أوجه، توقف القتال عند آذان الظهر حين وصولنا و عاود ما أن انتهت الصلاة و تكرر الأمر نفسه عند صلاة العصر، و في هذه الزيارة الخاطفة تحدثت الي رجل في الستين من عمره علي قدر من التعليم عن مدي قدرته علي التعايش مع مثل هذه الظروف من حرب و موت و عدم استقرار، فقال لي هل سمعت يوما أن السمك قد ضاق ذرعا بالبحر لأن هنالك عاصفة، قلت لا، فقال اذا مكثت طويلا ستجد في أمر النجاة كل مرة متعة تعطيك احساسا بالانجاز. و بعد ذلك باعوام و ابان عمل لي في مركز لبناء السلام في اسمرا كنت قد التقيت معوث بريطاني للقرن الافريقي و كان يسأل عن طرق احلال السلام في الصومال، في الاجتماع الرسمي قلنا الحديث الرسمي المٌنمّق و المٌبوّب و المدعوم بنظريات فض النزاعات، الحديث الذي لا أجد له جدوي الا في الكثير من التقارير الطويلة التي يكتبها أصحاب الياقات البيضاء لتعقيد ما هو بسيط لاضفاء شرعية علي مرتباتهم الفخيمة. و في المساء كان اللقاء الغير رسمي في ضيافة السفيرة البريطانية و قام المبعوث بالسؤال مرة أخري، و حينها قلت له كما يقول الناس حين يرغبون في الحديث بحرية Of the records اي خارج السجل الرسمي أن افضل طريقة لاحلال السلام في الصومال في ظني أن تقوم جلالة الملكة أو اي جهة معنية بالبحث عن جزيرة هادئة يفضل في البحر الكاريبي و احضار كل القيادات التي تشارك في الحرب و تركهم في هذه الجزيرة لمدة ستة أشهر و منحهم فرصة التعرف علي الحياة و من ثم سؤالهم بكل بساطة عن ماذا يريدون، حٌجتي كانت أن الحديث عن السلام مع من لا يعرف معني السلام هو محض ترف نظري، فجل قيادات الحركات التي كانت و ما زالت تقاتل في الصومال وٌلدت و ترعرعت علي أصوات الرصاص و كما قال لي الرجل الستيني ماذا يضير السمك ان ضربت البحر عاصفة؟

العلاقة بين متلازمة الضفدع الذي يغلي و صناعة السلام في الصومال أن لاشيء يدهش البتة حتي الموت و العنف و القتل متي دٌرّج و أصبح أمر معتادا. و من هول الفجيعة يمكن للغة أن تموت كما يموت الناس و أن الكلام لا يقول شيء سوي محض همهمات اشبه بحركة تروس اعتيادية في اي آلة تتحرك و كأنه فعل لا ارادي، لكنه خالي الوفاض من أي معني. بالأمس و اليوم رغم انني شهدت ردة فعل عاطفية قوية (في ظاهرها) من العديد من السودانيين في داخل و خارج البلاد علي عملية القتل التي تمت في وضح النهار و أمام شاشات التلفونات في موكب الثورة السودانية الذي خرج بالأمس مناديا بالحق في الحياة الكريمة و مطالبا بمدنية الدولة و بوقف العبث المنظم بمقدرات البلاد، الا أن كل ما قيل لم يعدو سوي انه كلام و البيانات التي ما تزال تتري تملأ الفضاء كانت هي اشبه برائحة الموت من أن تضيف معني أو أن تٌعبّر عن هول الفجيعة، فهي لا تقول شيئا مثلها مثل صمت الضفادع التي تسعد بالجلوس في قعر الاناء وهي تٌطبخ في كامل صمتها و بهائها و قِلة حيلتها.

خلاصة القول أن الأمر الذي جعل انسان بكامل قواه العقلية و بكامل أهليته التي مكنته من العمل كشرطي لكي يقوم باطلاق الرصاص هكذا و بكل فجيعة و دون أن يرمش له جفن علي طفل بالكاد يكون قد بلغ الحلم هو ما لا يمكن تفسيره بأن الافلات من العقاب وحده ما يدفع مثل هذا الشرطي احتراف القتل و كأنه نزهة في حديقة عامة، فمنطق الاشياء يقول أن الغالبية العظمي من الناس (اي كانت مهنهم) وازعها الذاتي هو الذي يمنعها من القتل و التسبب في الأذي و ليس الخوف من القانون، بل في تقديري ما يفسر هذا السلوك هو استسهال الحياة و استرخاص الموت في المخيال الاجتماعي السوداني و في سياق الظرف الاجتماعي و السياسي الذي حولّنا الي ضفادع تجلس علي ماء بارد بما في ذلك ذاك الصنم الأجوف الذي يعتقد أنه يسيطر على درجة حرارة الماء و يزيدها بتدرٌّج. أمام هذا الهول من الفجيعة المتجددة المتكررة لم يعد هنالك ما يقال فقد ماتت اللغة و عجز الكلام.

1 مارس 2023م

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …