‫الرئيسية‬ آخر الأخبار هلاوس البرتقال/ ذائقة الموت
آخر الأخبار - نصوص - أبريل 4, 2021

هلاوس البرتقال/ ذائقة الموت

د.سارة صلاح :
سرد
السقف كان مرصوفًا بمحصول برتقال.. لا أدري لما ذلك؟ ألأنني أحبه؟ تجربة أكل البرتقال رحلة من الطعوم اللاذعة بتحدٍّ، وحلوة تنسيك لسعة الطعم اللاذع، همزة حموضته تُعطيك تنبيهًا للحياة.. هو ذا البرتقال.
لا أدري لما قفز البرتقال إلى منطقة الحُلم؟ أذكر أنني قبل دخولي حجرة العمليات، كنت أتابع مسلسل (الغابة
La Foret ) الفرنسي.. لطالما شُدهت بأناقة اللغة الفرنسية، وصوتها ونغمة كلمتها.. دومًا ما ينشطُ لي حس داخلي بأنهم يتباهون بها في خضم لقطات الشرطة ومطاردة المجرمين، ولكمات الأنداد؛ فحتى سبابهم موسيقى، تبًّا لي هههههه.. وفي إحدى دقائق الحلقة ظهر الممثل يصب لنفسه عصير برتقال، وهو يتحدث لابنه عن الفتاة المقتولة.. تركتهما يثرثران بشأن الفتاة ذات الستة عشر عامًا ووحشية جرم القاتل وركض الشرطة وراء ذيل أدلة باهتة.. لم أسمع ما قالاه حقيقةً، كنت منجذبة إلى شكل كأسه المضرجة بالبرتقال، متسائلةً: كيف له أن يرشفه في كأس قهوة سوداء؟! شرطي أعمى ليس إلا، لي اعتقاد أن معصور البرتقال يجب أن ينظر إليك مختالًا بلونه الغسقي.. ليقفز على لسانك ويقدم لك متعة التذوق دون مضاهاة. لاحقًا ذهبت الزوجة لتغسل كأسًا، لحظتُ بجانب المغسلة تعليقة استيل لرص البرتقال في حرارة الحجرة، ما جعلني أفكر: كيف تخرج البرتقالة المسجونة من الإطار الإستيلي وتجاهلت الزوجة الممثلة وما تقوله؟ معظم المشهد المصور لم أنتبه لتفاصيله، سُجنت في تفصيلة البرتقال وكيف يا تراه طعمه؟ أهو مثل طعم تروبيكانا الحادق مغموسة فيه جيلاتينيات البرتقال المنثورة؟
جاءتني الممرضة حين حان وقت الجراحة.. اجتاحني خوف مثلج ومُرجف لكني ادعيت التماسك ولجدية ما
يدور، غطتني الممرضة، غطت وجهي، أو غطتني حتى لا يراني رجل.. الرجال كانوا يرونني في موقف
إشارات المرور والتبضع، أيختبئ المرء حين يرشح لجراحة ما؟! في الطريق من غرفتي إلى “عالم
الجراحة”، بدأت اختصاصية التخدير في سؤالي عن حالتي، وهل أحمل أمراضًا مزمنة، وهكذا أسئلة. أدركت حينها محاولاتها لتشتيت ذهني المرتعب حتى تلقمني جرعة من ماء الموت (كاتامين).
– ماذا؟!
– نعم ماء الموت كما قلت لك.
حشدت الموت في وريدي الهزيل، لسعني قليلًا كلسعة لهب عود ثقاب مقدوح لإضاءة فتيل فانوس مهترئ،
لكنه يعمل لافظًا أنفاسه الأخيرة، ليُدوِّن كرامته قبل هزيمته بالموت. منذ تلك اللسعة نظرتُ إلى إضاءة طاولة الجراحة. كانت مُغطَّاة بنبت البرتقال الذي يبرقُ بلونه الزاهي، لم أقوَ على قطف غابة البرتقال على بعدٍّ
كطولي تمامًا، لو أنني وقفت على أمشاط رجلي.. حتى تجريد التفكير في الحركة سُلبته. أخذ البرتقال في
الإزهار والبريق، وأخذت أنتشرُ بالاسترخاء كذرات العطر المنطلقة في الجو، حينها طرق ذهني الذاهل أنني في البرزخ/ أو كما خُيل لي، حبست داخل (جثتي)، لم أسمع صوت الجراح، ولا نكات المخدرين، ولا عبث أدوات الجراحة بجسدي؛ حتى صوتي لم أسمعه.
في مكان ببياض الثلج، جهاد زوجي – ظهره – كان ساهمًا في وجهي، يبدو أنَّه كان غائصًا في بئر ما محادثًا شخصًا ما، فشلت في ندائه، شُللت في كل شيء. كنت أركض في دهليز مُرصَّع بتناثر أضواء النيون البيضاء، مزجاة في بذلة بيضاء حدها ركبتي، أركض في هذا الدهليز اللامتناهي من الضوء والنهاية، أضواء من النيون المستطيلة تسطع ببرود وهدوء دون وميض، أوتنطفئ لظلمة خاطفة. حين اختفى بستان البرتقال، أدركت أنَّ الموت في الجوار، جعلتني أركض وأصرخ بلا صوت. زكم الخوف الدهليز وعطنه بطزاجته، ذاب الرعب داخلي دون فاصل أدركه كنهي، زقومٌ ما كان يولد مع نبضات قلبي اللاهثة. ركلت الجدران حولي أملًا في أن توقظني اختصاصية التخدير.. تجاوزتني تمامًا.
تجربة الموت تخيِّب تسلسل أي خيط لاسترداد ملل حياتك المعتاد، ابتداءً في اجترار دقائق الفرح وانتهاءً
بندب ما كان مسودًا في لحظات تنفسك.
بقيت هناك في الدهليز الملعون، إلا أنَّ أضواء النيون بدأت في الاضمحلال والذوبان في الظلام، ففضلت استعانة لمسي لتحسس جدران الدهليز إن كانت – هي كذلك – تنوي ذوبانًا، فابتلعها الهواء، وفي كنه الثانية أصبت بالسقوط. توسلت عقلي في محاولات بائسة في التجديف حولي، إلا أنَّه يبدو كأنني ملفوفة كقطعة شرنقة صغيرة، تقاعس الهواء عن تحريكها خلاله. وفي كسر حاد من اللحظة، غرقت فناديت لجهاد؛ بيد أنه تجاهلني، أو لم يلتقط صوتي.
ذاب ضوء خافت خول لي أن أرى أجسادًا تتهاوى وتسبح في خفوت الضوء. مطر من الأجساد الممطورة
بالماء، كانت معلقة بدرجات شعاع الشمس المتسلل للمنطقة. يقتضيني قلق كسير، في فساحةٍّ مرهبة من
السكون والوحدة.. الكثير معلق على مخامد الغضب، وحُنْجُرة لم يُبَحَّ صوتُها بعدُ. اتجهت إلى مكانهم علني
استشفُّ قصة تشابهني وطريقًا للخروج. فغمرتني رائحة المسك تُعتق أنفي وصدري. التقيت أحدهم، تبادلنا الابتسامات والسلام؛ ثم بدا منفرج النفس ومبتهجًا، تعلوه كبرياء ساطعة، فانكمشت بخجلٍّ فاضحٍّ ومُخْزٍّ، دون مُبرر. ضرب على يدي وشدني، فسبحنا لنرى المزيد من المعلقين، والمزيد كانوا يُحلقون من الأعلى بين ريش الضوء نزولًا باتجاهنا. وأثناء غوصنا، كان الرجل يهدر دمًا فيحتقن أنفي بمزيدٍ من المسك. تعجَّبت من ذلك، يبدو أنني آثمُ كثيرًا، أو أنَّ الله حزين مني لأتعفن بما يكفي قدري من الإثم، تؤلم عيني محاولات البحث عن بصيص هزيل من الحقيقة دون ترديد صدى صدئٍ، وأنا كمن جرشت ساقيه قدر ثاقل.. فأعجبني الانهزام.
أتأرجح بين الله واللاشيء، وأمشي القهقرى، فيتغضن عقلي بالكثير من الازدحام والإيقاع اللحظي. كنا مُغطين بغيوم من الرصاص، يسقط أحدهم مع كل رصاصة عابرة.. التفت برجٌ يطل من السطح؛ يشبه برج الاتصالات بشارع النيل. ويزداد عبق المكان بالمسك.. وأزداد تعفنًا وتجعدًا. زُمرٌ من الخلق كلٌّ منهم مربوط بصخرة تسافر به بسرعة إلى القاع. كلما اقتربت من جموعهم، ازدادت نداءاتهم لمن هم خارج البحر. الموت ثلجٌ متحرك، وشبح بارد، يصورونه في السينما بشخص أزرق وقبيح!! نمتْ تساؤلات كثيرة بداخلي؛ لما لا يكون حلوًا، يحاربونه بأقراص السيبراليكس وكبوسلات الفلوكستين.
رأيتُ غمامة لمجموعة من الممرضات يتحلقن حولي. حين أفقت، ينتزعن لصاقات إبر المحاليل، ويحقنني
بمحاليلَ أخرى. صفعت إحداهن جنبي: “ناقصنا عيانين نفسيين!”.
ثمّ أطلقنني للريح على نفس السرير. فتحت لاصقة جرحي، مزكوم بالنمل يثير الحكة كغيره من الجروح
القديمة على بطني، ظهرت بتكرار زياراتي للأطباء لألم يحدّق بي، بعد أن اختبأت رصاصة بجوف أخي في قيظ ظهيرة تظاهرات ديسمبر. وتوالت الجراحات ليكشفوا عن مصدر الألم. كان الأطباء يأكدون عدم وجود طيف. اقترح أحدهم أنَّه حزن تمظهر في شكل ألم سحيق.

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …