أرمدان كبي بن عباس
جعفر عباس :
كنت في نحو الثامنة من العمر عندما وجدت نفسي مطالبا بالصوم لأثبت انني “راجل”، وفي اول يوم في رمضان استبسلت حتى منتصف النهار، ثم توجهت الى النيل مع اقراني، ونزلت في الماء وانتعشت وسبحت ثم غصت، ووجدت الماء أكثر برودة، فقلت لا بأس في شفطة بسيطة ولا أحد يراني، وشفطت، وشفطت، حتى صارت الجرعة البسيطة كبيسة، ثم أحسست أن هناك خطأ في قانون الطفو الخاص بأرخميدس، لأنني صرت عاجزا عن تحريك اطرافي كي ابقى طافيا، وحسب أحد كبار السن انني على وشك الغرق وسحبني الى الشاطئ، واستلقيت على الرمل الناعم في وضع جنيني، وجلست واضعا رأسي بين رجلي فإذا بالماء ينساب من فمي لا إراديا، والجميع من حولي ينفجرون ضاحكين مستهزئين واطلقوا علي لقب “أرمدان كبي” وأرمدان هو رمضان، فاللسان النوبي لا يخرج صوت الضاد والعبارة بأكملها تعني “فاطر رمضان”، ولسبب لا يعلمه إلا الله لا توجد كلمة نوبية واحدة تبدأ بحرف الراء، وصار اسمي أرمدان كبي بن عباس، على مدى عديد الرمضانات التالية، وكنت في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة حيث كان عمري نحو 13-14 سنة، عندما أعلن المدرس ان “يوم غد” هو اول رمضان، فصاح أحد الزملاء بما معناه: مبروك الشهر للجميع ما عدا “أرمدان كبي”، فتساءل المدرس عن سر التسمية، وما أن عرف تفاصيلها حتى هاج وماج ولعن خاش اهلي لأنهم وعلى حد قوله يكلفون عيالهم شططا بإرغامهم على صوم أيام كاملة وهم في سن الطفولة باسم “المرجلة”
التعليم عندنا يقوم فقط على التلقين و”الحفظ”، وأعود بالذاكرة الى المرحلة التي بدأت فيها تعلم الأمور الدينية، ولا أذكر ان مدرس الدين قدم أمامنا بيان بالعمل حول كيفية الوضوء، فقد كنا فقط مطالبين بحفظ فرائض وسنن الوضوء عن ظهر قلب، ونحن لا نعرف مثلا ما المقصود ب”الفور والدلك”، و”مسح صماخ الأذنين”، وكنت أحسب ان مدرس الدين كافر لأنه كان يسمي بيت الله “الكعبة”، وكعب/ كعبة تعني “سيء/ سيئة” في العامية السودانية، وأيقنت ان المدرس من كفار قريض عندما سمى بيت الله ب”الحرام”، ولم يكلف نفسه قط ان يشرح لنا المقصود ب”حرمة” بيت الله.
لم أفهم بعض نواقض الوضوء إلا بعد دراستها بسنوات: ما المقصود ب”ما يخرج من السبيلين”، ما هما السبيلان؟ هل هما شيء غير مكان توفير السقيا للمارة بلا مقابل؟ ثم هاك: دخول حشفة الذكر او قدرها من مقطوعها في فرج المرأة!! هكذا كان النص الذي لصق بذاكرتي وعمري نحو تسع سنوات دون أن أعرف من معاني مفردات الجملة سوى “المرأة”، وفي كتاب للتربية الإسلامية حول مبطلات الصوم لصبية في سن العاشرة في عصر دولة عمر البشير الاسلامية: “تناول الطعام عمدًا … والاتصال الجنسي مع الزوجة أو غيرها”، ولا يشير النص من قريب او بعيد الى أن الاتصال الجنسي بغير الزوجة “أكبر” من عدم الصوم بغير عذر شرعي؟
وأعمارنا نحو 13 سنة درسونا شيئا اسمه الجنابة/ الغسل، وكنا نعرف انه يكون حسب المقرر المدرسي: غسل الأعالي قبل الأسافل والميامن قبل المياسر!! تلك مفردات لم نسمع بها وبالتالي لم نفهم معانيها، ثم درسونا زكاة الإبل وكنا نعرف متى تكون الزكاة ببنت لبون ومتى تكون بجدعة، بينما لم نكن نعرف في شمال السودان ما هي الإبل ومنا من عاش ومات ولم ير ناقة او بعيرا إلا في الصور، وأذكر يوم طلب منا مدرس أن نردد انشودة طلع البدر علينا، أخذا في الاعتبار اننا جميعا في حجرة الدراسة كنا نوبيين لا توجد في لغتهم حروف/ أصوات الثاء والحاء والخاء والذال والزاي والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين، وبدأنا ننشد: تلأ البدر ألينا/ من سنيات الوداء …جئت شرفت المدينة/ مرهبا يا هير داء، ولم نفهم لماذا انفجر مدرسنا غاضبا وشتمنا: يا عجم يا بجم يا غنم، سيد الخلق خير داء، لو الداء فيه خير يشيلكم من وِش (وجه) الدنيا، حسبما استنتجنا في سنوات لاحقة بعد ان تحسُّن رصيدنا من اللغة العربية، ولو كان تربويا حقا لوجد لنا العذر، وسعى لتقويم ألسنتا، وقد كان يعرف اننا نقول إن ليلة “الغدر” خير من ألف شهر، ولم ننتبه الى خطئنا إلا بعصامية جعلتنا “نقلقل القاف ونغيِّر الغين تغييرا”
في مقال للأستاذ فهمي هويدي عن حال التربية الدينية في مدارس مصر، دخل أحد الموجهين التربويين إلى حجرة دراسة لرصد أداء معلمة التربية الدينية، وفوجئ بها تقول لتلاميذها إن الأنصار هم ” نصارى” يثرب، ثم قرأت على الصغار سورة “الكافرون” بصوت عال، وتوقفت فجأة وقالت إن هناك خطأ مطبعياً تجلى في تكرار الآية “ولا أنتم عابدون ما أعبد”، وبكل “ثقة” طلبت من التلاميذ شطب الآية قبل الأخيرة في السورة، وهناك سيدة كانت تقف في كواليس مسرح، وبنتها تتأهب للصعود عليه لتخوض منافسة لاختيار ملكة جمال، مرتدية ما قلَّ ودلَّ من الملابس التي تكشف تضاريس الأنوثة، ونصحت الأم البنت: ادخلي المسرح برجلك اليمين واقري سورة الفاتحة
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …