التحية لرجل.. بقامة الوطن!!
د. عمر القراي :
لقد وضعتني إدارة “مركز الخاتم عدلان للاستنارة” في مأزق حقيقي، حين طلبت مني كتابة مقال عن بروفسير محمد الأمين التوم، بمناسبة تكريمه بواسطة المركز، كشخصية سودانية التزمت نهج الاستنارة، وأسهمت في دفع مسيرتها في هذه البلاد.. فلو أني رفضت التصدي لهذه المهمة الصعبة، لاعتبر ذلك نكوصاً عن واجب، ما كان لمثلي أن يتقاعس عن مثله.. ولو قبلت التكليف، وتطاولت الى عليائه، مقصراً عن مآثر الرجل، لظن بعض الناس أنني إنما أرد جميلاً، كونه قد رشحني لوظيفة مدير المركز القومي للمناهج، ثم لم يتردد لحظة، في الوقوف بجانبي في مواجهة قوى الظلام، بشجاعة نادرة، قصّرت عنها قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين، والأحزاب السياسية، والحكومة الانتقالية، وسائر المثقفين السودانيين.. ولم يؤازرني فيها إلا آباء وأمهات التلاميذ، وخيار المعلمين والمعلمات، وغمار الناس، من أبناء وبنات هذا الشعب الواعي، الذي رفض زيف الهوس الديني، دعماً لقضية العلم والاستنارة.
لا أود أن اتحدث عن بروفسير محمد الأمين التوم كأكاديمي متميز، وباحث متمكن، من الرعيل الأول من المتفوقين، الذين ابتعثتهم جامعة الخرطوم، لإكمال درجة البكالوريوس ببريطانيا، وحين أكملوا دراستهم الجامعية، منحتهم على نفقتها فرصة التحضير للماجستير والدكتوراه في عدد من الجامعات البريطانية العريقة، لتخلق منهم النواة الأولى لهيئة التدريس الوطنية المؤهلة، ومن هؤلاء بروفسير فاروق محمد إبراهيم، وبروفسير محجوب عبيد طه، وبروفسير محمد عبد الكريم أحمد وغيرهم.. ولقد حازوا أعلى الدرجات في الزمالة في جامعات أمريكية وسويدية وغيرها، مما أهلهم للبقاء بتلك البلاد المتقدمة، والعمل بمؤسساتها العالمية. لكنهم تركوا ذلك وراء ظهورهم، وعادوا للوطن، يدفعهم عشق عميق، ليردوا له يد سلفت ودَينٌ مستحقُ. ولما كان لبروفسير التوم عطاء متميزاً على المستوى العالمي، في مجال الرياضيات، نال عدداً من صور التكريم الدولي، جعله من قلة على مستوى العالم، يحق لها أن تشهد توزيع جائزة نوبل للعلوم.
ولم يكتف بروفسير التوم بالعمل كأستاذ جامعي، ومؤسس لمدرسة العلوم الرياضية بجامعة الخرطوم. لكنه انخرط في العمل العام، وصاول الأنظمة الدكتاتورية، ولم يتردد في مواجهة النظام البائد ورموزه في جامعة الخرطوم، وفي الندوات العامة التي تقيمها منظمات المجتمع المدني. وعانى كغيره من الشرفاء من الفصل والتشريد، واسهم في التنوير الذي جاء بثورة ديسمبر العظيمة. وكان من قبل من الذين استنهضوا اتحاد أساتذة جامعة الخرطوم، للنهوض بدوره التاريخي، في انتفاضة مارس/ أبريل المجيدة التي أطاحت بدكتاتورية نميري.
على أن الذي يهمني في شخصية بروفسير محمد الأمين التوم، وأود لأبنائنا وبناتنا، صنّاع ثورة ديسمبر أن يعرفوه، هو أنه رجل حر، لا يتبنى رأياً إلا عن قناعة، فإذا تبنّاه لا يساوم فيه ابداً، مهما كانت المخاطر، ومهما بذلت المغريات. وهذه الحرية الفردية، أمر عزيز المنال، حتى أن الشاعر العارف قال:
تمنيتُ على الزمان مُحالاً * أن ترى مُقلتاي طلعة حر
هذه الحرية الداخلية، التي يتمتع بها محمد الأمين، جعلته في سلوكه الشخصي، إنسان ديمقراطي.. وهي خصلة نادرة بين المتعلمين والمثقفين السودانيين. ففي فترة عملي معه في وزارة التربية والتعليم، التي امتدت لعام وعدة اشهر، كان يفضل أن يعقد اجتماعاً لكل كبيرة وصغيرة. وكان في تلك الاجتماعات يناقش كل الآراء، ولا يقبل إلا التي يسندها المنطق، دون النظر لصاحبها، ومكانته ومستواه وخبرته. لقد شهدته أكثر من مرة، يحاور مدير مكتبه، بدلاً من أن يوجهه، وينزل عند رأيه، وهو شاب قد يكون في عمر أبنائه. ثم إنه لا يغلق باب مكتبه، ولا هاتفه، ويرد على كل من يتصل به، من المعلمين والآباء والامهات، حتى أخذ مرة زمناً طويلاً، وهو يحاول أن يرد على سؤال، لرجل بسيط في قرية في أحد اصقاع السودان، يسأله لماذا لم ينجح ابنه في الامتحان، مع أنه كان دائماً من الناجحين!! هذه الصفات التي تميز شخصية التوم، تدل على معيشته اليومية للتواضع الفكري.. و”التواضع هو أصل الخلق الرصين، الذي يسوق إليه العلم الصحيح”.. التواضع الفكري هو أن تشعر الآخرين حولك، بقيمتهم من خلال اهتمامك الحقيقي بهم، واحتفائك الصادق بآرائهم، وافكارهم، ولو اختلفت معها!!
بروفسير محمد الأمين احمد التوم ليس أكاديمياً عادياً، ولا هو موظف خدمة مدنية تقليدي، وإنما هو شخص مفكر.. والمسؤول المفكر أندر من الكبريت الأحمر!! كنت اقابله كل يوم في الوزارة، وكان غالباً ما يطرح عليّ كل ما قابلته فكرة جديدة!! يكفي أن الرجل في عام واحد، غير هيكل الوزارة المترهل الى هيكل رشيق، يقوم على الوصف الوظيفي. ووضع قانون جديد للتعليم العام لسنة 2020م، وقانون جديد للتعليم الخاص. وأعان إدارات التعليم في الولايات، أن ترفع ميزانيات تنمية، بدلاً من ميزانية المنصرفات التي كانت ترفعها كل عام. واشرف على تنقيح وتطوير، مقررات منهج المرحلة الابتدائية من الصف الأول الى الصف السادس. ونافح داخل مجلس الوزراء، حتى رفع التعليم من الدرجة التاسعة الى الدرجة الثانية، في هرم أوليات الإنفاق الحكومي، التي قدمتها وزيرة المالية السابقة المكلفة للمجلس. وهو الذي أصر على تنفيذ شعار مجانية التعليم. ووفر عن طريق المانحين مبلغ 2 دولار لكل تلميذ في العام، فإذا كان بالمدرسة 1000 تلميذ تُسلّم 2000 دولار، تستخدمها لتوفير احتياجات المدرسة، بدلاً من أن ترهق بها كاهل المواطنين. وهو الذي ناضل حتى ألزم الحكومة، والمانحين، بتوفير الوجبة المدرسية. وصاول وزارة المالية، حتى وفر مبالغ طباعة الكتاب المدرسي الجديد. وإليه يرجع الفضل في تحسين وضع المعلم، ورفع مرتبه في التعيين للخريج الجديد من 3 ألف جنيه الى أكثر من 16 الف جنيه في الشهر. وهو الذي قدم مقترح إعطاء طالب كلية التربية راتب أثناء الدراسة، حتى ترفع نسبة القبول لكليات التربية، ونضمن من ثم تخريج معلمين مؤهلين. وهو الذي وضع فكرة تشييد مدارس نموذجية، من حيث المباني والمحتوى، تسمى مدارس مهارات القرن الواحد وعشرين، ووجد لها التمويل من الخارج والمهندسين السودانيين الذين سيقومون بتنفيذها. ولقد أدخل لأول مرة نظام إدارة تعليم إلكتروني، يربط بين كل المدارس في جميع أنحاء السودان والوزارة، وآباء التلاميذ.. وبدأ بالفعل تطبيق النظام من دارفور ليعمم في جميع انحاء السودان. وهو الذي استطاع أن يوفر تدريب افتراضي لمئات المعلمين بواسطة شركات ومنظمات ومتطوعين سودانيين من الخارج، قدموا كبداية تدريب في اللغة الإنجليزية، ووضعوا خطة للتدريب في الرياضيات.
إن بروفسير محمد الأمين التوم رغم صلابة مواقفه، وقوة شخصيته، إنسان بسيط، يسمع النكتة أو الطرفة أو المفارقة، فيضحك من كل قلبه، ويقهقه بصوت عال، ويهتز كل جسده في براءة تلحق ببراءة الأطفال!! ويسمع الخبر المحزن أو تقصير المسؤولين في حق الشعب، أو جرائم النظام البائد، فتكسو وجهه سحابة من حزن عميق، تحتل كل مشاعره، وقد تسقط دمعة من عينيه!!
حين قامت لجنة قوى الحرية والتغيير الأولى، التي كتبت الوثيقة الدستورية، بنشر أسماء مرشحيها للمناصب المختلفة، أذكر أن كل المرشحين لقوا من يعترض عليهم في وسائط التواصل الاجتماعي، ما عدا محمد الأمين التوم. وذلك لأن الشعب السوداني يعرف له مواقفه، وصلابته، ويقدر كفاءته العلمية، والبحوث العديدة التي كتبها عن اصلاح التعليم.
لكن قوى الحرية والتغيير لم تعد هناك. وإنما بقى اسمها وزال رسمها، واحتلت مكانها شخصيات دون قامة الحرية ودون قامة التغيير.. وبرزت المجموعات الحزبية، والحركات المسلحة، تلهث وراء الكراسي. مما دفع الحكومة الضعيفة، للرضوخ للمحاصصات، ردّة عن مبادئ الثورة، واهداراً لأهم مكتسباتها. وهكذا وجدنا وزارة التربية والتعليم، التي يعتمد عليها الشعب في تنشئة الأجيال، عظمة نزاع بين أفواه الطامعين فيها بلا قدرة ولا كفاءة!!
إن بروفسير محمد الأمين التوم لا يفقد شيئاً إذا ابعد عن وزارة التربية والتعليم. لكن الوطن يفقد اصلاح التعليم، والثورة تفقد مبدأ النزاهة واحترام الكفاءة، والتعبير عن مصلحة المواطنين، أتفعل الحكومة التي ينبغي أن تعبر عن الثوار كل لذلك، لإرضاء مجموعات صغيرة، قدمت مصالحها الضيقة، على مصلحة الوطن العريض؟!
التحية لبروفسير محمد الأمين التوم. التحية لرجل بقامة وطن عملاق يتقدمه أقزام.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …