نحو غيرة مبتكرة لأفضل البشر
عبد الله علي إبراهيم :
ظل الغرب والمسلمون في نطاح متكرر حول أعمال مسماة إبداعية منذ رواية سلمان رشدي “آيات شيطانية” (١٩٨٨) المسيئة لرموزنا . وأشتد هذا النطاح وشذّ بعد 11 سبتمبر 2001 كما تجسد ذلك في توالي الرسوم والأفلام الهازئة بسيرة أفضل البشر. وبدا هذا النطاح كدورة معادة قال الدكتور على المزروعي إنها نطاح سخري: فالغرب في غاية الدهشة لعمق غضبة المسلمين للإساءة للمصطفى بينما المسلمون، من جهتهم، مروعون بتجرد الغرب من الحساسية تجاه رموزهم وتاريخهم. وتتابعت هذه الدورات وتسارعت.
ترافق مع احتجاجنا على الفيلم المسيء للمصطفى في ٢٠١٢ وقائع ستخرج بنا، متى أحسنا تحليلها، إلى استراتيجية طويلة المدى في الغيرة للمصطفى نكسر بها الحلقة المفرغة من الفعل وردة الفعل. وسيكون هذا التثقيف في المعنى الذائع من مصطلح الثقافة الذي جاءنا من “تثقيف العود” بمعنى جعله سديد الإصابة. فقد حوت هذه الوقائع الغربية صنوفاً من ازدواج المعايير الذي هو سمت أهل الشوكة وامتيازهم. ومتى أخذنا بناصية هذه الإمكانات ثقفت الشارع المسلم، ووطنت غيرته الشماء في استراتيجية طويلة المدى لتوقير رموز ديننا.
ترافقت مع ثورتنا على الفيلم المسيء أربع وقائع اتصلت بصورة ما بما نحن بصدده من غثاء الغرب عن رموزنا. فصدر كتاب لسلمان رشدي عن تجربته في العيش مختبئاً من ملاحقة فتوى روح الله الخميني في 1989 بردته عن الاسلام ووجوب قتله لنشره “آيات شيطانية”. كما صدر حكم قضائي فرنسي بإدانة صحيفة فرنسية نشرت صوراً عارية لأعالي دوقة كمبردج زوجة الأمير وليام حفيد ملكة بريطانيا. ودشن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند نصباً تذكارياً لضحايا المحرقة اليهودية في فرنسا كما افتتاحه هو نفسه لقسم الآثار الإسلامية في متحف اللوفر.
حللت هذه الوقائع في مقام آخر لاستخلاص معرفة منها من شأنها أن تثقف الغيرة على أفضل البشر. أردت للنبي غيرة تخفت فيها سورة الغضب واحتجاج الشارع المسلم (الذي تعاديه حتى الحكومات المسلمة وتعنف معه) إلى علم محيط بالغرب يوطننا في إنسانيتنا الإسلامية، وإلى تقوى خليقة بالمسلم القوي بلا حاجة إلى انفراط الجأش. وسأكتفي هنا بما أمكن استخلاصه من كتاب رشدي.
صدر في ٢٠١٢ كتاب رشدي “جوزيف أنطون: ذكريات” الذي روى فيه حياته الخفية طلباً للنجاة من فتوى الخميني بحل دمه في 1989. قال فيه إن مسألته نجمت من صدام لإيران الموسوسة من الغرب الذي أصبحت فيه حرية التعبير سليقة. وأراد رشدي من الغرب أن يواجه الأصولية الدينية التي لا تتورع من إعدام الكاتب مثله. ومن أبواب الكتاب الهامة إشهار خجله من توبته غير النصوح أمام علماء دين مسلمين بعد مناصحتة في أعقاب صدور روايته “آيات شيطانية”.
من قرأ سيرة المصطفى في “آيات شيطانية” صدقت عنده كلمة لكاتب غربي قال فيها إن بعض الأشياء في بعض الأوقات أهم من الفن”. ولم استجل قيمة هذه العبارة إلا بعد تدريسي كتاب “آيات شيطانية” ضمن مقرر عن الإسلام والغرب بجامعة ميسوري بالولايات المتحدة. فبعد قراءة طلابي لنص “حادثة الإفك” من سيرة ابن هشام قال لي أحدهم إنه بينما رد دان براون في “شفرة دافنشي” (2003) الاعتبار لمريم المجدلانية العاهرة نجد أن رشدي جعل من امرأة شريفة عاهراً.
ومن وضاعة رشدي، شاتم الرسول وبيته، أنه لم يصبر على القذف بحقه صبراً ألزمنا به، باسم حرية التعبير، وهو يهاتر رموزنا هتراً في روايته. فلجأ للقضاء يطلب 11 مليوناً إسترلينياً رداً لاعتباره من شرطي إنجليزي كان ضمن طاقم حراسته أيام تخفيه خوف عواقب فتوى الخميني. وكان الشرطي وصف رشدي في كتاب له بأنه “نذل، كريه، وبخيل، ومغرور، وعديم اللطف إلى درجة” حتى أنه طلب “حق الايجار” من الحكومة البريطانية لقاء إيواء طاقم حراسته بمنزله. ووصف رشدي كتاب الشرطي بأنه محض قذف لا تظله حرية التعبير. وكفل القانون مثل دعوى رشدي بالقذف ضد حارسه القديم طالما كان حياً. فالقذف بحق الأموات عندهم لا يكون. فلا يمكن لمسلم، مثلاً، ان يُقَاضي شاتم نساء الرسول حسبة أمام محاكم الإنجليز. ولكن بوسع الحي ان يقاضي روائياً كرشدي بالقذف.
ولن تجد هذه القاعدة الحقوقية تصمد كثيراً. فأموات الهولوكوست مستثنون لا يجوز القذف بحقهم. فليس بوسع أحد أن يشكك في عددهم وإلا وقع تحت طائلة عداء السامية. فسبق لمحكمة سويسرية الحكم، في اعتلال فاضح للمعايير، على المؤرخ البريطاني ديفيد إيفرنج بالسجن سنوات ثلاث لأنه أنكر أن للنازيين غازاً في معسكرهم الدموي بأوشيويز. وحوكم بمقتضى قانون صدر في 1992 يجرم من أنكر، أو خفف. أو اتفق له إيجاد أعذار لجرائم النازية ضد الإنسانية. وهي جرائم بحق أهلها الأموات.
واضح أن خلافنا مع الغرب في هذه الحالة ليس بين كافر بحرية التعبير مثلنا (جدلاً) ومؤمن متيم بها مثل الغرب. فكل ما في الأمر أن الغرب يَعُد الإساءة للأحياء قذفاً بينما نريد نحن أن يشمل القذف الأحياء حسبة. وعليه فالقاعدة الحقوقية موضوع نظرنا تحكمية تولدت من خبرة الغرب الخاصة في عصمة الأحياء، دون الأموات، من الابتذال. ومتى ما أردنا لمبدأ حرية التعبير أن يكون إنسانياً سابغاً صح أن يستصحب خبرات بشرية أخرى ساوت بين الأحياء والأموات في الصون من القذف، بل ربما غَلَّبت الأموات على الأحياء في الشأن. فلا غلاط أن حرية التعبير مبدأ نبيل. ولكن متى جعله الغرب معياراً، في قول محمد أركون، يقيس به حظه من التحضر من حظنا من التسفل كف أن يكون مبدأ للإنسانية جمعاء، بل ضرباً من نظرية النشوء والارتقاء من البدائية حتى الحضارة.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …