حين تنفست البرجوازية الصغيرة الصعداء
عبد الله علي إبراهيم :
حين رأيت لجنة تفكيك هدفاً لسهام من اليمين واليسار خلال الأيام الماضية تذكرت حكاية لي مع المرحوم محمد عثمان الوهباني، الأستاذ السابق بجامعة الخرطوم، الذي له نظر في العبث والعابثين لا يخيب. حكى لي عن يوم له في ليبيا التي عمل فيها لبعض الوقت. قال لي إنه عاد ذات يوم من الجامعة فإذا بأهل حلته جميعهم في الشارع: الكبير شايل الصغير، والأعمى شايل المكسر. وكل منهم قد ملأ عِبه بحجارة من سجيل. وعينك ما ترى النور إلا والكل قد صوب حجارته نحو لمبات الشارع. كشكلن. كشكلن. كشكلن. حجري وحجرك. كشكلن كشكلن. تتفقع اللمبات الواحدة بعد الأخرى. ولما عدّموا الأعمدة نفاخ النار عادوا إلى دورهم.
سألت الوهباني:
-ليه يا وهباني عملو كده.
ونظرت في وجه فإذا به اكتسى باشمئزاز أعرف أنه مما يصيبه متى كان السؤال ما في محلو. وقال بعد صمت: يا عبد الله انت لسه في وهمك بتاع الجبهة الديمقراطية في الجامعة. ناس تتفق على تكسير لمبات شارعهم بهذه البسالة دحين عندهم سبب تفتكر. تفتكر يكون سببم على اللمبات شنو؟ ذنبها شنو؟
ولم أحر جواباً. فأضاف:
-والله إلا كان عايزين يتنفسو الصعداء.
وضحكت. ولا يملك محادث الوهباني إلا أن يضحك وكفى رحمه لله.
وتصورت الوهباني يحكي لي عن صحافيينا يميناً ويساراً حجر وحجرك على لجنة تفكيك.
سهير عبد الرحيم كشلك كشلك
فتحي فضل كشلك كشلك
أحمد وداعة كشلك كشلك
مزمل أبو القاسم كشلك كشلك
الطاهر ساتي كشلك كشلك
ضياء البلال كشلك كشلك
محمد عثمان إبراهيم كشلك كشلك
عادل الباز كشلك كشلك
ما اللمبة التي أراها في لجنة تفكيك التمكين التي اجتمع عليها صفوة الرأي من الضفتين؟ إنها عندي أول محاولة في الدولة جعلت مساءلة أداء وكسب رجل الدولة وامراتها شاغلاً مؤسسياً.
فلا أعرف ثورة سبقت رتبت لمثل لجنة تفكيك التمكين برغم محاولات غيرها الحثيثة لإرساء مبدأ المحاسبة. فحققنا بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤ مع قادة انقلاب ١٩٥٨ وحتى مع المدنيين ممن شاركوا فيه مثل عبد الله خليل. وتناكر العساكر التهمة ورموها فوق عبد الله خليل. ولم يقصر عبد الله خليل في الرد بالمثل. وستخجل لهؤلاء الضباط العظام يتنكرون ويتماكرون على بعضهم البعض متى قرأت كتاب التحقيق في انقلاب ١٧ نوفمبر. وانعقدت لجان كونها مجلس الوزراء الانتقالي للتحقيق في فساد مثل الذي وقع في بناء قرى أهل حلفا بعد ترحيلهم، وفي مصدر تمويل جريدة الصحافة وغيرها. وأزاح مجلس الوزراء موظفين كبار خدموا النظام كطرف فيه مثل محمد أحمد أبو رنات رئيس القضاء الذي كانت أول صور اشتراكه في الانقلاب تقديم أحمد خير المحامي للواء حسن بشير نصر صبيحة يوم الانقلاب لتدبيج بيانات الانقلاب.
ولم يبلغ كل هذا ميسه. فتناصر الوطني الاتحادي وحزب الأمة والإخوان المسلمون للردة بالثورة. فأطاحوا بحكومة أكتوبر الأولى قبل اكتمال ستة شهور الفترة الانتقالية تحت تهديد جمهرة الأنصار التي استدعوها للعاصمة بقيادة مختار الأصم. فتوقفت لجان التطهير. ورفض حلف الثورة المضادة محاكمة أعضاء المجلس العسكري الانقلابي المخلوع المعتقلين في سجن زالنجي بذريعة عهد قطعوه لهم في المفاوضات ألا يحاكموهم متى تنحوا. وهذا كذب. فلم يتنحوا حناناً. فقد حاصر الضباط الأحرار القصر بقيادة اللواء الباقر أحمد لاحقاً، وفرضوا عليهم مغادرة الحكم كما فصله أستاذ القانون الأمريكي كليف تومسون، المحاضر الشاب بكلية الحقوق بجامعة الخرطوم حينها، في يومياته التي كتبها خلال الثورة. وصدرت منذ شهور معربة من دار المصورات. ورفض البرلمان للنائب العام عرضه بدء محاكمة الانقلابيين بتلك الذريعة.
وكان عزم ثورة إبريل ١٩٨٥ (دعنا من بلاهة انتفاضة دي كأن الانتفاضة درجة سفلى في الثورة). فاعتقلت مجلس قيادة انقلاب مايو سوى المخلوع الأول أب عاج الذي آثر المنفى على الوقوف في المحاكم دفاعاً عن حلف الشعب العامل. وأمرت المحاكم التي انعقدت بسجن أعضاء المجلس كما نظرت في قضايا فساد وخيانات وطنية مثل تسفير الفلاشا.
وتعاور على تجميد هذا الإجراءات، بل الردة عنها، جماعة الإخوان المسلمين بعد صعودهم السياسي بعد خمول بفضل المجلس العسكري، وأول استيلائهم على الحكم في 1989. فأطلقوا سراح ضباط انقلاب مايو وتحالفوا معهم ومع فلول الاتحاد الاشتراكي. وأهانوا الثورة بإرجاع نميري من القاهرة معززا مكرماً. وأعادوا تسمية كلية لأركان حرب باسمه، ورتبوا له تشييعاً رسمياً لدى موته استحقه بيد الدولة القوية. فكأن انقلابيّ الإنقاذ قدموا السبت في انتظار الأحد.
غير خاف إن الطبقة السياسية، البرجوازية الصغيرة، التي تعاورت الحكم يساراً ويميناً منذ ١٩٦٩ لا ترغب أن ترى المساءلة نهجاً مؤسسياً يلجم الحاكم دون اللصوصية. فيكفي أن تسمع الإنقاذيين يحتجون على محاكماتهم الجارية ك”بدعة” غير مسبوقة كأنهم أول من انقلب لتعرف تبيت هذه الطبقة ألا تخضع للمساءلة في الحكم. فالحكم لم يخلق لهذا التقييد. فالغنى غنى والما غنى يركب هنا كما قال زين العابدين محمد أحمد عبد القادر عضو مجلس انقلاب مايو.
ومعروف عن هذه الطبقة في العالم الثالث، في قول العالم الأمريكي إيمانويل ولرنستاين، أنها تطمع في أن تكون، وبسرعة، برجوازية بلد ضعيف التكوين البرجوازي. وسبيلها إلى ذلك استباحة المال العام من موقع الحكم والإثراء بالنتيجة. وهو ما تلخصه العبارة الإنجليزية transforming power into wealth . وهي خطة كرهها شعبنا ثلاث مرات بحسه الاجتماعي والديني العميق بالمساواتية (egalitarian). فكلما أنبت الزمان طبقة ترسملت من اللصوصية، وأرادت الشرعية لنفسها في المجتمع غصباً، زعزع أوتادها وعم نيله وفرخت وزة.
ونواصل الحديث عن البرجوازية الصغيرة التي تنفست الصعداء
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …