غياب عمومية الدولة؛ غلبة عنصرية السلطة
محمد فاروق سلمان:
(لا يوجد طريق مختصر لمواجهة العنصرية في مجتمعنا بمسمى: عنصرية “الاسلاميين”.)
من المهم الوعي بتجذر العنصرية في المجتمعات قبل تشكل الدولة الوطنية، وبدرجة كبيرة لا يمكننا اغفال ان الدولة القومية قامت وفق انحيازات عنصرية بدرجة كبيرة، وفق التشكل الاول (والمستمر) للدولة في اوروبا، والذي ساهم في نشأة ظاهرة الدولة الحديثة في العالم وفق انحسار الاستعمار بشكله التقليدي ونشأة الدولة البعد استعمارية post colonial state، ولا يمكننا ان نرجع العنصرية في مجتمعاتنا للظاهرة الكولونيالية، وبكل ما حملتها هذه العقيدة من عنصرية، وحدها. فالمسالة “الهوياتية” في تشكل اي مجتمع كان يتم تحفيزها بعناصر كاللغة والدين والثقافة والدم او القرابة kin hood، والتي شكلت نواة القبيلة وحتى مفهوم الدولة القومية في اوروبا قامت وفق الاخذ بهذه العناصر مع تفكك مفهوم الدولة الامبراطورية، ويجب ملاحظة دور الاستعمار في تشكل الدولة القومية كضرورة حتى داخل اوروبا مع نهاية الالفية الاولى، قبل تشكلها الحديث والنظام السياسي الذي تشكل بعد انهيار الاقطاع ثم الماغناكارتا في بريطانيا وحتى الثورة الفرنسية، ثم لاحقا الثورة الصناعية والتي اتاحت عقيدة كولونيالية بخلاف الفتوحات الدينية، التي شكلت نسق للاستعمار تاريخيا قبل ذلك بما في ذلك الفتوحات الاسلامية انتهاءا بالامبراطورية العالية العثمانية، والتي تفككت رسميا في تاريخ احدث، تزامن مع نهاية الحرب العالمية الاولى مع نهاية العشرية الثانية للقرن الماضي.
هذه المقدمة لا بد منها مع اطلالة العنصرية او بقاياها، كدلالة لـ”تخلف” المجتمعات وفق او عن شروط عالم اليوم، والذي تاخذ فيه الدولة الوطنية شكل مختلف، كمشروع عمومي، تتساوى فيه الحقوق تأسيسًا على حق المواطنة، ومنذ اعلان الحقوق والحريات بعد الثورة الفرنسية وظهور مصطلح العقد الاجتماعي، الا ان الوعي بالدولة الوطنية كدولة عمومية inclusive state(١) بوجودها الحديث، او كغاية حتى ان لم تتحقق، ارتبط بالنظام السياسي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وفق التسليم بحق الشعوب في تقرير مصيرها أي حقها في الاستقلال، وتنامي “الايمان” بالديمقراطية، والتي شكلت ايدولوجيا سياسية برعت مدارس فكرية مختلفة في تناولها: وذلك من خلال قيمة الديمقراطية نفسها في تحرير الانسان، واتاحة فرص متساوية عبرها وفق ارث تاريخي للتفاوت والصراع الاجتماعي، وخضوعه لشروط مختلفة في مقدمتها الاقتصاد والثقافة والدين والعنصرية أيضا (٢). بعد ان فقدت البشرية اكثر من خمسين مليون في تلك الحرب لنكون العالم الذي عليه الان: أكثر اختلافًا وتفاوت، واقدر على النضال لتحقيق الحرية والمساواة في بحثه عن السلام والعدالة.
“الاسلاميين” في السودان من النسخ الاكثر تطورا للاسلام السياسي، في عالم اليوم، وكانوا الاقدر على الوصول للسلطة والبقاء فيها لثلاث عقود، ولا يجب ان نعتبر تغير ملامح المشروع الذي حملهم للسلطة ، والبقاء فيها من خلال نسخ متعددة، خلال سنوات حكمهم، والأبرز هنا: المفاصلة فيما بينهم في ١٩٩٩، وتوقيع اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية في ٢٠٠٥؛ فقط كتعبير عن قدرتهم على التكيف والبراغماتية كسلوك سلطوي محض. ولكن وبشكل اساسي يعود هذا لاشكاليات المشروع نفسه واطاره النظري العمومي والذي فشل في اعادة تعريف السلطة بشكل ثوري لتحقيق قيم ناضلت البشرية لتحقيقها، لا يمكننا انكار دور الدين حضاريا في تعزيز هذه القيم في التاريخ البشري واستناد مشاريع الاسلام السياسي عموما(٣)، وعندنا في السودان، لهذه القيمة التاريخية واشواق بعثها في مغالطات مبهمة مع التاريخ ايضاً؛ ليصبح المشروع الذي خضبته دماء كثير من الشباب “الاسلاميين”، وسفكت فيه دماء السودانيين والسودانيات، ودفع ثمن استمراره وبقاءه من استحالة بقاء السودان “الموروث”. فانفرط عقد وحدته الوطنية واصبحنا على ابواب “فض السامر” لما تبقى منه! ليتم تاكيد فشل خطاب الاسلام السياسي من خلال تجربة كان لها ان تتيح للسودانيين، (بما في ذلك الاسلاميين)، اقلها، عبور تاريخي وحضاري واسع اتجاه الدولة الوطنية العمومية، لو قدر لمحاكمة التجربة ان تتم دون هذا الكسل والاختزال للتجربة في اقصاء “الاسلاميين”، ومنعهم من حقهم حتى في ان يكونوا جزء من محاكمة تجربتهم أيضا، (وهو الامر الذي تم من قبل افراد ومجموعات لم يتم الاحتفاء بدروها في التغيير)، كشرط ضروري لاي تسوية بالمعنى التاريخي للتسوية(٤). واختزال دور الثورة السودانية واسهامها في حركة التاريخ بدلا من تحرير عقلنا السياسي، وتعزيز سبل تأسيس العدالة والسلام والحرية وذلك بتكبيله من خلال اعادة انتاج نفس العقل السلطوي الذي سقط فيه الاسلاميين!
من المهم الوعي بالطبيعة الاولغراكية Oligarchy لاي سلطة، بمعنى السلطة في النهاية ستكون بيد اقلية ما، وربما الهدف دائما كان محاصرة الامتيازات التي يمكن ان تحققها هذه الاقلية باخضاعها للقانون، وضمان ذلك من خلال توسيع قاعدة هذه الاقلية من خلال البناء المؤسسي، وذلك اوضح من خلال المؤسسات السياسية المدنية المستقلة في النظام المدني الديمقراطي، ومبدأ فصل السلطات الرسمية (تنفيذية، تشريعية، قضائية) لضمان تهديد انفراد اقلية بالنفوذ من خلال فاعلية نظام المحاسبة check and balance، ويجب ان نوعى ايضا بان عوامل النفوذ السياسي قد تكون مستقلة عن الصراع السياسي وفق طبيعة الحركة المدنية السياسية نفسها ومدى استقلاليتها عن النخبة الاقتصادية وجهاز الخدمة البيروقراطي للدولة، واصحاب النفوذ الديني والقبلي ايضا، وبالنظر لتاريخ الدولة الوطنية في السودان بعد الاستقلال نلاحظ سعي كافة القوى السياسية للتاثير واختراق كافة هذه الفضاءات لا يختلف كسب “الاسلاميين” هنا عن غيرهم! الا بتفوقهم في هذا. ويصبح تهديد الدولة واقع لا محالة من خلال البردايم الاجتماعي السياسي هذا، وعليه واجب الثورة في اعادة تعريف السلطة اولاً تحرير هذه الفضاءات وضمان استقلاليتها وخلق نفوذ اوسع وفاعل للنظام المدني الديمقراطي، من خلال تعزيز سلطة المجتمع وضمان حيدة ونزاهة جهاز الخدمة البروقراطي (بشقيه المدني والنظامي)، وبالتالي تغيير كل البرادايم الاجتماعي السياسي السائد، من خلال تقديم نص سياسي عمومي (تأسيس عقد اجتماعي جديد) كشرط لتأسيس دولة المواطنة، اي الدولة العمومية inclusive state.
بالنظر لتجربة “الاسلاميين” ودعاوي عنصريتهم، تبقى هذه “العنصرية” من شروط العقل السلطوي نفسه، وفق بنية السلطة القائمة، والذي ظل سعي البشرية الدائم لتهديده حتى لو قضى هذا لتهديد السلطة نفسها وضرورة تهافتها، واعادة صياغة العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه والذي يتم فيه تعريف السلطات التي يتم التنازل عنها لصالح السلطة السياسية وسلطة الدولة عموما، (يمكن النظر لفصل الدين عن الدولة كتعربف موضوعي لاعادة تعريف سلطات الدولة) ومراجعة اسس تفويض هذه السلطات أيضا (نهاية انظمة الحكم الملكي “والدم الملكي والحق الالهي في الحكم” في عالم اليوم، وانتخاب السلطة السياسية من خلال دورات، وتقليل دور السلطة المركزية باعتماد نظام فيدرالي..) . وكما اسلفت وفق الاداء السياسي لعموم الحركة السياسية السودانية وحتى طبيعة الصراع الاجتماعي لا يمكن اعتبار الاسلاميين نبت غريب، اذ لا مكان لـ”من اين اتى هؤلاء”، فـ”الاسلاميون” هم التعريف الاكثر تفوقا للسودان “القديم”، وللحقيقة قد يكونون الاكثر شمولاً في ظل النظام القديم والذي انتهت شروطه واستنفدت صلاحيتها فعلًا. ومن خلال النظر لطبيعة انتشار “الحركة الاسلامية” قد نجدها الاكثر تمثيلاً للسودانيين فقد قدمت قيادات من كافة انحاء السودان وجنوبه أيضا(٥) باكثر مما قدمت اي حركة سياسية اخرى مهما اتدعت التقدم، كما لم يعدموا “الحساسية” بتقديم مرشح لرئاسة السودان من جنوبه في اخر انتخابات للسودان الموحد(٦)، وقد كشف الكتاب “الاسود” الذي صدر في اواخر التسعينات عن استحواذ ابناء الشريط النيلي لامتيازات السلطة المركزية في نظام حكمهم، وهو يقوم كدليل اخر لدينامية الصراع داخلهم(٧)، والتناقضات داخل نظام الدولة السودانية والذي شكلو اخر حلقات وحقب نفوذه، وبفشلهم تنتهي الدولة القديمة التي عرفناها كاكثر حلقاتها تطوراً.
لا يجب التعميم عند مواجهة العنصرية كمبرر لها، وهنا لا يمكن ترديد الحديث عن عنصرية “الاسلاميين” السودانيين كشكل من اشكال التعميم المخل والكسول ايضا، والذي تحاول عبره الحركة السياسية احراز تقدم عليهم، بعد ان فقدت هذه الحركة في ثلاثة سنوات تفوقها “القيمي”، من خلال اعادة انتاج نفس نسق نظام السلطة والحكم، وذلك بتجيير مكاسب ثورة ديسمبر المرجوة واختزالها في كسب سلطوي، والملاحظ ان نظام تشكيل السلطة الرسمية في الانتقال لم يختلف في رأيي من قبل انقلاب ٢٥ اكتوبر عما بعده على مستوى “حاضنته” السياسية الا بتغير سحنات من يعتدون بشرعية تمثيل الثورة مع العسكر، من خلال نفس نموذج الشراكة(٨) الذي حتى الان يبدو عاجزًا عن اعادة تعريف دور “العسكر” في دولة مدنية ديمقراطية. والاهم هنا عجز الانتقال في نسخته الحالية عن تسيير دولاب الدولة دون الاستعانة ببعض “الاسلاميين”، وبالتالي محاولة الابقاء على نظام انتهت شروط صلاحيته والاصرار على تهديد وجود الدولة السودانية وبقاءها، وهو ما يبدو في “غبطة” بعض الاسلاميين مما يروه تراجع للثورة ضدهم!، وفق خلل كبير في تراضي السودانيين حول سلطة هذه الدولة، وتنامي السخط الجماهيري ضدها، واعادة استنساخ سنوات الانقاذ الاخيرة بكافة اشكال بذل الارادة الوطنية، والعودة للقهر والانتهاكات الجسيمة بحق مواطنيها
(١) الدولة العمومية وفق تناول د. فتح الرحمن التوم استاذ الفلسفة بجامعة النيلين، هو اصح ترجمة لمفهوم inclusive state، والذي اصبح التعريف الاوضح للدولة الوطنية من خلال تعزيز التزامها برفاه جميع مواطنيها بعد الحرب العالمية الثانية، والتضحيات التي قدمها المواطنين كنهاية لمفهوم اصحاب الحق في هذا الامتياز وانحصاره تاريخيا لطبقات معينة في الدولة، كان رئيس الوزراء البريطاني تشرشل اخر من يرمز لها.
(٢) من المهم هنا النظر للانقسام الكبير في العالم بين الراسمالية والاشتراكية، واسهامات كارل ماركس في الاقتصاد، وتعريف الصراع الطبقي كاساس لتعريف الصراع الاجتماعي السياسي.
(٣) يمكن النظر لدرجة من التناقض هنا وتدهور اسس تطور العقل الديني عند المسلمين وضرورة تطويره، وانتقال وعيه بالحضارة “الغربية”من الانفتاح في اسهامات جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وحتى عبد الرحمن الكواكبي الى حالة القطيعة مع الحضارة الغربية مع ابو الاعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب وفق بدايات تشكيل خطاب الاسلام السياسي نظرياً.
(٤) مفهوم التسوية التاريخية في عالم ما بعد نيلسون مانديلا اذا جاز لي، يمكن الاخذ به كتعريف ثوري لكيفية الانتقال من الثورة للدولة؛ وذلك من خلال الاضطلاع مباشرة بقضايا التأسيس لتحقيق العدالة والمساواة وسيادة القانون بعيدا عن المفهوم اللينيني للثورة في استحواذ السلطة والانفراد بها لاعادة تشكيل المجتمع وفرض العدالة، او اختزال المفهوم الماركسي حول ديكتاتورية البوليتاريا كاطار سلطوي بحت.
(٥) من قيادات الحركة الاسلامية رموز من مناطق مختلفة من السودان على سبيل المثال من جنوب السودان وحده: موسى المك كور، عَلِي تميم فرتاك، عبد الله دينق نيال، سلطان عبد الباقي والطاهر بيور ولم يكن تمثيلهم في قيادة الحركة الاسلامية شكل من اشكال الترميز التضليلي، والملاحظ ان اغلب القيادات التاريخية للحركة الاسلامية من دارفور (محمد الامين خليفة، خليل ابراهيم، وعلي الحاج: الامين العام الحالي للمؤتمر الشعبي) وجنوب السودان تبعت الدكتور حسن الترابي بعد المفاصلة في اواخر التسعينات ولم تبقى في السلطة.
(٦) كان الاستاذ عبد الله دينق نيال هو مرشح الموتمر الشعبي في انتخابات ٢٠١٠.
(٧) قدم الكتاب الاسود رصدا دقيقا حول شاغري مناصب السلطة في دولة الانقاذ، ولكنه يعتبر جزء من الصراع الذي احتدم داخل الحركة الاسلامية بعيد المفاصلة، وقد عكس بدرجة كبيرة انحسار تاثير المجموعات العرقية المحسوبة على الهامش داخل هذه الحركة بعد المفاصلة، وان كان الشهيد داوود يحيي بولاد قد انتبه مبكرا ومن اوائل التسعينات لهذا الاتجاه داخل سلطتهم فانضم للحركة الشعبية لتحرير السودان منذ وقت مبكر.
(٨) لم نلاحظ ان شرعية تمثيل الثورة لم تُستمد من الجماهير، وفق اغفال واجبات البناء المؤسسي لتحالف الحرية والتغيير والتحايل عليها، ويالتالي امتد تمثيل قوى الثورة شرعيته من قبول المجلس العسكري، ومن المهم ايضا الوعي بان نفس الصيغة التي سمحت بتمدد القوى النظامية والدعم السريع في ادارة الانتقال كانت موجودة وفق كيفية ادارة الاتفاق بين المكون العسكري والحرية والتغيير والتي اختطف تمثيلها اربعة تنظيمات سياسية (الامة، الموتمر السوداني، التجمع الاتحادي والبعث الاصل!)، بل قاومت هذه القوى الاربعة توسيع تمثيل قوى الثورة منذ التفاوض، وادى هذا الضعف في تمثيل الثورة لهشاشة الانتقال بشكل عام، الا ان الاسوا هو اعادة استنساخ سلام النظم الشمولية من خلال اتفاق جوبا مع الجبهة الثورية، والذي دفعت اليه هذه القوى الاربعة لتحقيق مكاسب في الحقائب الوزارية وتثبيت بعض الولاة الحزبيين الذين تم تكليفهم سابقا، وقد كان اعلان تشكيل مجلس شركاء الانتقال هو التحول الاكبر في تعريف قوى الثورة وعزل طرفي الحرية والتغيير عن حركة الشارع.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …