التعليم العالي: إما أن يتحرر ويتطور طبيعيا، أو يتدجن سياسيا ليظل كسيحا ومشوها
د. مجدي عثمان علي (*):
مع احتدام الثورة ومحاصرة سلطة انقلاب 25 اكتوبر 2021 من قوي التغيير الجذري، وبشريات تكوين المركز الثوري الموحد، واقتراب سقوطها، نجدهم يسارعون الخطى لشراء وتمييع مواقف أساتذة الجامعات سعيا لكسر اضربهم المعلن إذ أقدموا على إجازة هيكل راتبي مشوه، ليكون ثمنا لقبول العاملين بالتعليم العالي تدخلهم السافر والمنتهك لحرمة هذه المؤسسات وقيامهم بحل مجالسها واداراتها، وتعيين إدارات من عناصر النظام البائد متخطين كل النظم واللوائح والالتزام بالمعايير. ولكن هيهات، لن تكون مطالب الأساتذة المستحقة عرضه للابتزاز السياسي، وسيظل مطلب حرية واستقلالية وديمقراطية مؤسسات التعليم العالي شرطا لا يحتمل المساومة إذا أردنا لها ان تكون جامعات بحق وحقيقية. وبالمقابل يصبح التغاضي عن عن هذه القرارات وصمة عار على جبين الجميع لن يغفرها التاريخ والأجيال القادمة، ونكون بعد كل هذه الثورة العظيمة ودمائها الذكية، كأننا لا رحنا ولا جينا.
عندما نادت تجمعات الأساتذه بالجامعات السودانية بضرورة حرية وديمقراطية واستقلالية مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي ، لم ياتي النداء كنزعة (أنا) استعلائية لقطاع العاملين بالتعليم العالي وإنما أتي كضرورة أملتها رغبة الحادبين لنهوض هذه المؤسسات من وهدتها بعد أن أعيتها أمراض وتسلط الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة، وليتسني لها القيام بدورها فى أحداث التنمية والتقدم المنشود للشعب السوداني بعد ثورتة العظيمة في ديسمبر 2018. أتي هذا المطلب تعبيرا عن وعي مسؤول وأخلاقي وعلمي بالدور الذي يقع علي مؤسسات التعليم العالي، ومصقول بتجارب علمية وعملية ناجحة تمت في دول عديدة علت من شأن العلم والتعلم ومن ثم استطاعت أن تنهض بدولها وشعوبها كماليزيا وسنغافورة..الخ. كما أن هذه الحریة والديمقراطية والاستقلالية المنشودة لا تقبل التجزئة (كأن تعالج أجور العاملين كما تعمل السلطة الإنقلابية الآن) أو الموسمیة بل ھي من ضرورياتها الديمومة والاستمراریة والخلو من الوصایة الخارجیة. ولھذا فھي مرتبطة عضويا بجوانب كثيرة متعددة فى ذات الأھمیة وفي مقدمتها الاستقلال الاداري والاستقلال المالي.
الشاهد انه وبتعاقب الأنظمة الشمولية ظل هذا المبدأ بالجامعات فى تراجع وانحدار شديد والتي كانت آخرها وأسوأها نظام حكم الانقاذ ل 30 عاما. تدخلت فيها بما سمي بثورة التعليم العالي تدخل سياسي سافر دمرت كل ماهو جميل وصالح ويعتبر كأساس يبني ويطور عليه. وقد كان من نتائج ذلك سلب مؤسسات التعليم العالى استقلاليتها الادارية وتمثل ذلك على سبيل المثال لا الحصر: التوسع في الجامعات والكليات بشكل غير مدروس ومبني على ترضيات الاهالي وسعيا للكسب السياسى وكذلك التحكم فى التعينات للوظائف المختلفة وفقا للتصنيف السياسي وتحديد نسب قبول الطلاب وأعدادهم وفرض الرسوم الدراسية وتسليع التعليم واحتكار معظم مقاعد الكليات المرموقة وعرضها (كسلعة) ليقبل فيها الميسورين على النفقة الخاصة متجاوزة بذلك التنافس الاكاديمي الحر وحرمان المستحقين من أبناء الشعب الكادحين من دخول هذه الكليات، هذا بالإضافة للميوعة الأكاديمية والمحاباة السياسية والتجاوزات والتلاعب فى التعليم وإدخال مايسمى بامتحانات المجاهدين… الخ. أما فيما يتعلق بحرمان تلك المؤسسات من الاستقلالية الماليه، فقد ظلت هذه المؤسسات متحكم فيها ماليا ولها ميزانيات مختلفة ومصادر دعم وصرف متعددة الأوجه تدار علي كيف ما يريد الراعي (رئيس الجمهورية) وبطانتة من الإداريين وتحكم صرفها المواقف السياسية والموجهة ومدي رغبة السلطة فى تدجين تلك المؤسسات لاستخدامها للدعم السياسي والتعليم الموجه، فى تنافي تام لأي شكل من أشكال العدالة فى الصرف على هذه المؤسسات والعاملين فيها، فقد كان الشح فى الخدمات ومعينات التدريس ونقص فى المعامل والأساتذة وفرص التدريب وبشكل كبير في الجامعات الولائية. وفوق كل ذلك تم إذلال الأستاذ الجامعي بفتات الاجور التي بلغت بعد اجازة هيكل الحكومة الانتقالية حوالي ال ٥٠ الف (أقل من 100 دولار) للبروفسير وقس علي ذلك بقية الدرجات الأخرى للأساتذة والعاملين، فعلي سبيل المثال ومن المضحك والمبكي ان بلغت الميزانية المخصصة للتعليم العالي فى أواخر أيام عهد النظام البائد (فى أعلي صورها) 0.3 % مقابل تخصيص 70 % للأمن والدفاع من الميزانية العامة ومن هنا لك ان تعرف من أين أتت شركات الجيش. وكان نتيجة ذلك تسرب الكثير من الكوادر المدربة والنادرة فى مجالاتها للهجرة لدول الجوار ودول العالم الأخرى.
لمعالجة هذا الخلل ومع بشريات ثورة ديسمبر المجيدة علا مطلب إصلاح حال التعليم العالي كهدف جوهرى إلى السطح عبر تجمعات الأساتذة بالجامعات السودانية سعيا منهم لكسر هذة العلاقة الشريرة لهذه المؤسسات مع السلطة ومنها التأسيس لخلق تعليم عالي سوي يطلع بدوره الطليعي والوطني الهادف لبناء سودان جديد متقدم يتمتع فيه شعبنا بالحرية والسلام والعدالة والعيش الكريم. فقد تمكن تجمع الأساتذة ضمن كتلة تجمع المهنيين السودانيين من أن يدرج في الوثيقة الدستوريه مبدأ حرية وديمقراطية واستقلالية مؤسسات التعليم العالي كمدخل اول لتعافيها، وأصبح نصا دستوريا صريحا. علما بأن هذا المبدأ لأهميته وتوافق منتسبي المؤسسات الأكاديمية حوله كشرط لتطورها، لم تكن الأنظمة المتعاقبة حريصه على صونه خوفا من دور تلك المؤسسات في بث الوعي وتهربا من المستحقات المالية لذلك، وما تم الان من تدخل السلطة الانقلابية خير مثال.
ماذا تطرح تجمعات الأساتذة ؟
أولها الراتب المجزي للأستاذ الجامعي الحافظ لكرامتة والداعم لتأدية واجبه المهني المقدس. مع ضرورة تفعيل العلاوات المحفزة والمسهلة لإنجاز مهامه على أكمل وجه، واضعين فى الاعتبار توسع فرص العمل المجزي خارجيا وخصوصا فى دول الجوار والذي تسربت عبره خيرة الكوادر وأندرها.
الاستقلال الإداري: كمدخل، لم یكن التعلیم العالي في بدایة عھده في حاجة إلى سلطة فوقية تتحكم فيه. فالمؤسسات التعليمية كانت محدودة، والرؤیة كانت وأضحة، والعمل كانت تحكمه تقالید وأعراف عریقة ومتحضرة، والإیمان بحریة و قدسیة التعلیم العالي متوافر تنفیذیا وتشریعیا واجتماعیا .ولھذا برزت مؤسسات كجامعة الخرطوم والمعھد الفني كأفضل ما تكون المؤسسات الجامعیة والتقنیة وأصبحت لھا بصمات وأضحة محلیا وإقلیمیا وًعالمیا مًع تفاعل دائم وإیجابي مع كل قضایا المجتمع، وإسھام علمي مرموق في معظم مجالات المعرفة . فلقد كانت داخلیاً تسمو بطلابھا وأساتذتھا، بینما كانت خارجيا تًمثل رأس الرمح في ما یحدث من تطورات إجتماعیة وسیاسیة ، وفي كل ذلك كانت تخضع لمؤسسات إداریة وعلمیة ذاتیة تحكم مسیرتها وتتفاعل بعقلانیة مع المستجدات، حيث تم كل ذلك بفضل الاستقلال الاداري.
ووفقا للورشة الموسعة للجامعات السودانية والتي عقدت بجامعة أم درمان الأهلية وذلك في الفتره التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى حيث تناقش المجتمعون حول مفهوم إدارة التعليم العالي وكيفية المحافظة علي استقلاليته حتي ينمو ويتطور طبيعيا، وبالرغم من تعدد الآراء وبعد نقاش مستفيض توصل المجتمعون لرؤية أن يدار التعليم العالي بواسطة مجلس قومي للتعليم العالى بصلاحيات وزارية وذلك سعيا وراء ان لا تخضع إدارة عجلة التعليم العالي والبحث العلمي الي الادارة التنفيذية الاحادية المتمثله في شخص الوزير، وجعلها أي الوزارة تدار بواسطة مجلس قومي مما يعني اخضاع القرارات داخله إلى درجة عالية من التمحيص والتروي وفوق ذلك يكون المجلس المقترح مهني ومستقل ومدعم بلوائح وقوانين محكمة يحافظ علي استقلالية المؤسسات المنضوية تحته، وله تشريعات منظمه وأليات لتطبيق الحوكمة والعدالة في تقديم خدمة التعليم وكذلك ضبط سياسات القبول والتمويل والتدريب…الخ. كما يقوم المجلس كجهة محكمة باتخاذ قرارات ثورية تصب في طريق إصلاح ما أفسده النظام المباد كواحدة من متطلبات الثورة فى هذا القطاع الحيوي، اي ضرورة أن يتدخل تدخلا معياريا يبت فى أمر الجامعات أو الكليات ويصدر توصياتة بدمجها أو تجفيفها أو إلغاء من لم تستوف المعايير. على أن تتولى الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الخطوات المطلوبة لتوفيق أوضاعها التزاما بتلك المعايير.
بالنسبة للاستقلال المالي: إن الاعتماد علي الرسوم الدراسية (تسليع التعليم ليكون حكرا للأغنياء) مرفوض ومنافي لشعارات ثورة ديسمبر المجيدة، وأن الاستثمار على قلتة يعد أكثر صعوبة و لا یبدو أنه سیؤتي أكله في المستقبل المنظور، لذلك لابد من نظرة عملیة واقعیة لموضوع تمویل الجامعات آخذین في الإعتبار حقيقة ضعف الوضع المالي بالجامعات وخصوصا الجامعات الولائية وذلك لضعف فرص الدراسات العليا والدراسات المستمرة وكذلك فرص الاستثمار والذى ظل محتكرا لشركات النظام البائد ومواليه مصحوبا بضعف التمويل الحكومي. إن الاعتماد الكلي على المال العام لتمویل الجامعات ربما يستصعبه البعض لكنه يظل يقع تحت المسؤولية المباشرة للدولة ولا مناص من ذلك على أقل تقدير للخمسة سنوات القادم اي لمابعد الفترة الانتقالية حتى تسترد الجامعات جزء من عافيتها، مع ادراكنا الكامل لتعقيدات ومتطلبات الفترة الانتقالية والتي يعتبر التعليم العالي واحدا منها باعتباره العمود الفقري للتنمية. لذلك نستصحب المعالجات الاتية:
1 / تخصیص نسبة من میزانیة الدولة تدفع للجامعات القومیة كمنح سنویة یتم تحدیدھا بالتفاوض المباشر بین وزارة المالیة و كل جامعة على حدة (لتحقيق مبدأ العدالة) و على ضوء معطیات عقلانیة، بحيث يراعي فى ذلك الوضع المالى للجامعات وفرص الاستثمار فيها.
2 / تخصیص نسبة من میزانیة الولايات تدفع كمنحة سنویة للجامعة المنشأة بتلك الولاية ویتم تحدیدھا بالتفاوض المباشر بین الجامعة و حكومة الولاية.
3/ فرض رسوم وضرائب تستقطع من الشركات العاملة والخاصه وشركات تعدين الذهب وغيره االعاملة في كل ولاية.
4/ تخصيص جزء من المنح والقروض لدعم المعامل والبنية التحتية.
5/ لظروف الانتقال الذي يمر به السودان، جلب المنح لتاهيل وتدريب اعضاء هيئة التدريس بجامعات الدول الصديقة والمحبة للسودان.
علي ان تكون الجامعات مسؤولة عن میزانیاتھا، تخطیطا وتنفیذا،ً وتخضع حساباتھا لسلطات المراجع العام وأن تضع وتراحع الجامعات خطتها الاستراتيجية لدعم موقفها المالي وتحسين فرص تمويلها ذاتيا في المستقبل. علي ان تبني الجامعة في تمویلھا على:
– المنحة المالیة السنویة من المال العام (قومي – ولائي)
– الإيرادات
– الاستثمار
– الھبات
– الأوقاف
– البحوث و دراسات الجدوى و الاستشارات
أما بالنسبة لتمویل البحوث القومیة التنمویة تنظمھا ھیئة قومیة، مثل المجلس القومي للبحوث، و یخضع للمنافسة القومیة الفردیة أو المؤسسیة. كما أن تمویل البحوث الولائية ینظم ولائيا ویطرح قومیا ویخضع للأسبقیات التنمویة الولائية. كذلك يجب اطلاع الدولة بعملية التدريب والتأهيل لاعضاء هيئة التدريس على ان يخضع للمنافسة الشريفة والفرص المتساوية بين الجامعات.
* عضو تجمع أساتذة الجامعات
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …