كرينك: يا كَبرة جراهماييا
عبد الله علي إبراهيم:
قرأت بعض ما كُتب في معرض استنكار مذبحة كرينك والبحث عن منشئها في السياسة الوطنية والدافورية بل والعالمية. ويؤسفني القول أن هذه الكتابات في شقها المعارض مجرد عودة لمعارضة الإثارة. أما في شقها الحكومي فدجل عديل.
قبل أن أشرع في ما أنا بصدده أريد استئصال جرثومة فكرية تسمم جسد خطابنا عن الريف لمساسها بما نحن بصدده من مأساة كرينك. فلا تكاد تخلو الكتابة عن الريف عن زعم أنه قد انحل منذ صدور قانون الحكم المحلي في عام 1971 وصفى الإدارة الأهلية بليل. ربما كان القانون شططاً وهز تلك الإدارة هزاً عنيفاً. ولكن يضرب الكتبة عن ذكر سلسلة القوانين التي أعادت هذه الإدارة سيرتها الأولي بل أشد نكاية. فنميري الذي حلها أعادها بقانون في 1981. وصدر قانون بتنظيمها في عهد الديمقراطية الثالثة في 1986. أما الإنقاذ فجعلت الإداري الأهلي أميراً في خاتمة المطاف بسلسلة قوانين في 1989 و1994 و1998 و2000.
وبدا لي أن وقوف الكاتبين عند حل الإدارة الأهلية في 1971 هو كيد من وجوه. فمن توقف عند تلك السنة مغرض يريد تحميل الشيوعيين الوزر وكفى. ولا يريد التوقف حتى عند أن من أصدر القانون هو جعفر بخيت في وقت اعتزال النظام للحزب الشيوعي الماثل والمقصود بالتنكيد. أما أكثر من يذيعون الفرية فمطلبوهم هو إعفاء مخهم من التفكير في الريف بغير أنه حالة “نزاع قبلي” سرمدي من إملاء “عقل رعوي” سرمدي لا تلجمه إلا الإدارة الأهلية التي انحلت والله يجازي الكان السبب. وليس من عزاء لمثل هذا الذهن الخامل سوى أن يجد حائط مبكى: قانون 1971.
لم أجد في كتابات المعارضين للنظام الانقلابي إشارة نبيهة للبيئة المحلية التي تخلقت فيها المأساة من فوق تاريخ قومي وعالمي. واستثني عبارة وحيدة لعمر القراي ذكر عرضاً قال فيها إن من وراء المأساة تجنيس حميدي لشعب الماهرية لتغيير ديمغرافيا وسلالات السكان عنصرياً بدارفور.
أما ما عدا ذلك فالكتابات هي في باب معارضة “الإثارة” وهي التي لا ترى من معارضتها سوى حكومة الوقت لا قبلها، ولا بعدها، ولا البنيات الاجتماعية التي انتجتها. فصب الحزب الشيوعي (بيان مركزه ومنظمته في دارفور) والقراي جام غضبهما محملين النكبة بحق للنظام الانقلابي بقيادة اللجنة الأمنية وحركات اتفاق جوبا وسلام جوبا، والدعم السريع وكما لا يخفى قوى الهبوط الناعم. وخصوا قوى دارفور المسلحة بالوكالة للقوى الاستعمارية والنظام الرأسمالي العالمي.
كان أول من جاء بمفهوم المعارضة الإثارية هو أستاذنا عبد الخالق محجوب في تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1967. فوصف معارضة حزبه لنظام عبود ب”الإثارية” بمعنى أنها ضد الحكومة القائمة بغير بصر في التراكيب الاجتماعية والتاريخية التي انتجتها. وطبعت الإثارة معارضتنا للنظم الديكتاتورية، وغير الديكتاتورية، التي تعاورتنا. فركبنا الإثارة ضد عبود ثم نميري ثم الإنقاذ. وكنا في كل معارضة، ومن فرط الإثارة وطلباً لمردودها، نطرى النظام الذي سبق بالخير قياساً بالذي نحن فيه. ولهذا قلت إننا نسقط العفو على الديكتاتور الذي قضى نحبه لأن القائم فينا لوقتنا “ورانا جديد ما كان على بال” من الفظاظة، أي عفو بالتقادم.
ولم نتصالح بعد مع أن كل تلك النظم المستبدة توالت من “نقتيف” (في فن التصوير القديم يخرج أول ما يخرج شبح أسود اللون هو ما تُطبع الصور الزاهية اللاحقة منه) للمحافظة السياسة . فكلها قوى ثورة مضادة تريد اعتقالنا في عقائدها السياسة التي تخطاها الزمن. فحتى نميري الذي جاء كايسنا بالاشتراكية انتهي خليفة للمسلمين يتلقى البيعة في مضارب أم ضبان من فرط الطاقة المحافظة في البلد وكساد المعارضة التقدمية الإثارية.
وبلغنا من هذا العفو عن النظم الديكتاتورية حكمداراً إثر حكمدار مبلغاً نقيم به قداساً لا ينقطع في تبريك ولي الله جعفر نميري الذي حملناه إلى مثواه الأخير من بيت أسرته في بيت ود نوباوي لا من قصر فاره في كافوري. مدد. وهكذا تنزل المعارضة الإثارية بالزانة حتى ليقفز منها حكام قتلة مثل عبود ونميري. ومنهم من ينتظر.
سألت بعد قراءتي للبيانات المعارضة: أين الإنقاذ من هذه المحنة في دارفور؟ ماذا عن البنيات السياسة والاجتماعية التي ولدت هذه المأساة وهي من تأسيس الإنقاذ بقوانيها لإدارة الريف؟ لم أجد عند الشيوعي سوى قوله إن الانقلابيين يعيدون أنتاج الإدارات الأهلية لتوسيع قاعدتهم الاجتماعية. والأمر أمر من هذا. فهو ليس إعادة انتاج بل هو صناعة للموت اتقنت الإنقاذ تشييدها فوق بروج الوطن إلى الأبد إذا لم نمسك بتلابيب تحليها ورد المحنة إليها.
وبينما لم يلمس تحليل المعارضين دور الإنقاذ في ماساة كرينك تجد كتاب الثورة المضادة والحكومة عدوها سبباً لتبرئة الإنقاذ، أو أنها حالة لا كبير معنى لها. فقال أسامة عبد الماجد بوجوب فرض هيبة الدولة في دارفور. ولكن وجب أن يسبق ذلك صلح مجتمعي “كما فعل الهمام والي شرق كردفان الأسبق أنس عمر”. أنس عمر الذي يسستخسر الرصاصة في جسد المعارضين له با خرع! وزاد بقوله إن عجلة القتل والتدمير ستتواصل وهو التدمير الذي اتهموا به الرئيس السابق عمر البشير والإنقاذ زوراً. وصح أسامة لو أننا لم نغادر معارضة الإثارة.
أما جراهام عبدالقادر وكيل وزارة الإعلام فمأساة كرينك عنده “عارضاً ظرفيا عابراً” لا جذور له في أخلاقيات الشعب السوداني القائمة على التضامن وتضميد الجراح. يا كبرة جراهاميايا!
وسنرى في حديث قادم أين تقع الإنقاذ من كرينك. وهي الحكومة التي فطتها المعارضة الإثارية في تحليلها لمأساة كرينك بينما اتخذها،ويا لهلولها، فلولي خرع سبباً لتبرئة الإنقاذ. بيض بيكسر بعضو. ودائماً.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …