الانتخابات المبكرة كلمة حق يراد بها باطل لاستدامة الدائرة الشريرة (1)
الهادي هبَّاني 18 ديسمبر 2022م:
ظلت قضية إجهاض التجارب الثورية وانتكاستها ووقوع السودان تاريخيا منذ الاستقلال في دوامة ما يعرف بالدورة الشريرة متمثلة في دورة التعاقب المتكرر المتشابهة لدرجة كبيرة في ظاهرها السياسي والمتباينة في جذورها الاجتماعية بين الأنظمة المدنية الديمقراطية التي تأتي نتاج ثورة أو انتفاضة شعبية واسعة تقودها علي مستوي الشارع القوي الثورية ممثلة في قوي العاملين في مواقع الإنتاج الحديث، ومنظمات المجتمع المدني، والكيانات النقابية أو قواعدها وجماهيرها بفئاتها وأقسامها المختلفة، والتنظيمات الجماهيرية الإقليمية، والقوي السياسية التي تتبني شعارات هذه القوي مجتمعة، ثم سرعان ما تنتكس عندما تصعد إلي قمة السلطة الأحزاب التقليدية والأقسام المرتبطة بها من البرجوازية الصغيرة وذوي الياقات البيضاء خلال فترة الانتقال القصيرة وتستمر في السلطة عبر انتخابات برلمانية شائهة ومنقوصة ثم تضيق بالنهوض الجماهيري الطبيعي وتصاعد حركة النضال المطلبي والجماهيري في ظل الانفراجة الديمقراطية التي تتيحها الثورة أو الانتفاضة الشعبية، وتجنح إلي تسليم السلطة للعساكر أو التواطؤ معهم لقطع طريق الديمقراطية والتحول المدني أو التمهيد للإنقلاب العسكري من خلال اتخاذ السياسات الخاطئة التي تخلق ظروفا مواتية لاستمرار الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية قبل أن تُكمِل الممارسة الديمقراطية البرلمانية دورتها الثانية في كل التجارب الديمقراطية القصيرة التي شهدها السودان، وذلك تحت شعارات عدة من أهمها فشل التجربة الديمقراطية، وفشل الأحزاب السياسية وذلك بهدف تكريس سلطة القوي المعادية للثورة وخدمة مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والطبقية الضيقة. ويستمر النظام العسكري بعدها في الحكم لفترات طويلة متزايدة حيث حكم فيها نظام عبود الديكتاتوري العسكري ستة سنوات، ونظام الديكتاتور العسكري نميري ستة عشر عاما، ثم النظام الديكتاتوري العسكري للأخوان المسلمين والحركة الإسلامية لثلاثين عاما، لتصبح إجمالي فترة الحكم العسكري للسودان حوالي إثنين وخمسين عاما. ولا زالت القوي التي تمثل تاريخيا رافعة لهذه الدورة الشريرة تحاول استدامة نفس الدورة والاستمرار فيها منذ انقلاب 11 أبريل 2019م (والذي كان مجرد تمهيد لانقلاب 25 أكتوبر 2021م ولانقلابات شبيهة محتملة في المستقبل).
وعلي الرغم من مضي أكثر من عام علي انقلاب 25 اكتوبر 2021م إلا أنه ظل يتهاوي أمام إرادة الجماهير ومقاومتها السلمية العنيدة التي لم تتوقف أبدأ، ولن يستمر طويلا بحكم المتغيرات الاجتماعية العميقة ومستوي الوعي المتراكم للحركة الجماهيرية وللثورة السودانية عموماً خلال الفترة منذ الاستقلال وحتي تاريخ اليوم بالأسباب الحقيقية التي جعلت السودان غارقاً في هذه الدائرة الشريرة للدرجة التي أدركت فيها القوي الثورية الموجودة علي مستوي الشوارع أن الديمقراطية نفسها وبالنموذج الذي تم تكراره في السودان طوال الخمسين عاما الماضية تمثل أحد أهم أدوات الاستغلال الطبقي والاجتماعي وأنها لم تعد مجرد صناديق اقتراع وشعارات انتخابية ترفع راياتها القوي الاجتماعية التقليدية والطفيلية والمتحالفين معهما وتضيق بها وتتآمر عليها في أول اختبار حقيقي لنهوض حركة الجماهير وأحلامها وتطلعاتها وتزايد ضغوط قضاياها المطلبية. وقد تمكنت بعض أهم طلائع القوي الثورية ممثلة في لجان المقاومة من تطوير وصياغة ميثاق ثوري لتأسيس سلطة الشعب وجد التأييد من كل القوي الثورية الحية للخروج من هذه الدائرة الشريرة وطي صفحة الانقلابات العسكرية إلي الأبد في السودان، واستدامة الحكم الديمقراطي المدني الحقيقي ببعده وعمقه الاجتماعي، وإعادة بناء الدولة السودانية علي أسس الحرية والسلام والعدالة والنمو المتوازن والديمقراطية الحقيقية المرتبطة بالجماهير وتطلعاتها واستيعاب قواها الثورية الحية بمختلف اقسامها الاجتماعية واستصحابها في مسيرة بناء الديمقراطية وممارستها.
ولذلك وفي محاولاته المتوالية الفاشلة للهروب للأمام من واقع الحركة الجماهيرية الصاعدة باستمرار على مستوي الشوارع تتعالي أصوات الانقلابيين واذيالهم منذ انقلاب 11 أبريل 2019م وحتي اليوم وبعد توقيع الاتفاق الإطاري (أو التسوية)، بالانتخابات كمحاولة أخيرة للتشبث بالسلطة وإجهاض الثورة معتقدين أن الدعم والتأييد الخارجي للتسوية المفضية لانتخابات منقوصة يمكن أن يساعدهم علي ذلك. وقد ملأ خبرائهم (أو أبواقهم) الاستراتيجيين الفضائيات صخبا وضجيجا بأن الجماهير الحاشدة المتواجدة بالشوارع لا تمثل الشعب السوداني الذي يتجاوز حجمه الأربعين مليون نسمة وهم يحسبون أن هذه الحجة في صالحهم، وأن القوي التي ترفض التسوية وتتمسك بشعارات الثورة ولاءاتها وتدعو للتغيير الجذري وتدعمه هي قوي ضعيفة معادية للديمقراطية تمثل أقلية لا قبول جماهيري لها ولا حظوظ لها في صناديق الاقتراع وأنها تسعي لاستدامة الفترة الانتقالية للهروب من الانتخابات. وهذه خديعة كبري تسعي سلطة الانقلاب والقوي المعادية للثورة لتمريرها علي الشعب وعلي الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي في حين أنه وعلي الرغم من تعدد الأسباب التي أدت إلي تعاقب الدائرة الشريرة المذكورة وتكرارها، إلا أن أحد أهم الأسباب الجذرية لها تتمثل في تكريس الفهم الخاطئ للديمقراطية البرلمانية واختزالها فقط في صناديق الاقتراع والانتخابات وفي استعجالها عقب كل التجارب الثورية في فترات انتقالية قصيرة جدا وغير كافية دون توحد الإرادة أولا حول معالجة كل العقبات التي تُكَرِّس مفهوم الديمقراطية كأداة طبقية تضمن هيمنة قوي اجتماعية معينة علي السلطة في كل التجارب الديمقراطية في السودان، وخلق الظروف الاجتماعية العادلة التي تضمن الممارسة الخلاقة للديمقراطية ببعدها الاجتماعي حتي في حدودها الدنيا المقبولة. ولذلك فإن ما جاء في إعلان قوي الحرية والتغيير في يناير 2019م بضرورة إزالة اسباب الحرب وآثارها وإعادة اللاجئين إلي أراضيهم وتحقيق سلام حقيقي عادل في كل مناطق السودان وإنجاز التعداد السكاني وتخفيف الأعباء المعيشية للمواطنين من خلال البرنامج الاسعافي وغيرها من الاجراءات الهادفة لتهيئة المناخ للانتخابات البرلمانية ومن ضمنها أن تكون الفترة الإنتقالية هذه المرة طويلة نسبيا وكافية لإنجاز هذه الإجراءات التمهيدية إنما كانت قراءة موضوعية لواقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في السودان وفهم عميق وصحيح لتاريخ الصراع الاجتماعي والطبقي الذي فرض متلازمة الدائرة الشريرة من قبل القوي التي طرحت ذلك داخل قوي الحرية والتغيير ووافق عليها الجميع وقتها.
فكل تجارب الانتخابات الديمقراطية البرلمانية في السودان منذ انتخابات 1953م كانت تجارب شائهة، منقوصة، غير عادلة، بعيدة كل البعد عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولم تتوافر فيها الشروط الموضوعية والذاتية لترسيخ الديمقراطية واستدامتها وإشراك كل القوي الاجتماعية والثورية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الاجتماعي التي تتصدي لمهام اسقاط الديكتاتوريات في كل التجارب الثورية في السودان، واستصحبت معها كل تناقضاتها القاتلة مع الواقع والتي كانت سببا أساسيا في فشلها وانتكاستها وقد لعبت عملية استعجالها وعدم كفاية الفترات الانتقالية اللازمة لتهيئة المناخ الملائم لها دورا اساسيا في إفشالها وفي استدامة الدائرة الشريرة وتكرارها. وفيما يلي نتناول بعض تلك التناقضات والإخفاقات:
أولا: في انتخابات 1953م وعلي الرغم من أن برلمان 1954م يعتبر من أنجح البرلمانات في تاريخ السودان السياسي حسب قول الراحل دكتور محمد سعيد القدال في مقاله المنشور في الحوار المتمدن بعنوان (لمحة تاريخية: الانتخابات البرلمانية في السودان) بتاريخ 07/05/2007م لأنه (علي حد قوله) قد أرسى قواعد النظام الذي يقوم على تداول السلطة سلميا، وأنجز السودنة والجلاء، وتوّج ذلك بإعلان الاستقلال في ديسمبر 1955م. فقد صاحبت انتخابات 1953م إخفاقات خطيرة جدا لا تتناسب مع واقع المجتمع السوداني آنذاك. فقد تم استبعاد المرأة من التصويت بشكل نهائي مما حرم قطاع عريض جدا في تركيبة المجتمع السوداني من المشاركة في الانتخابات، وأيضا تم تحديد سن الناخب ب 21 عاما مما حرم قطاع عريض جدا من الشعب السوداني بما في ذلك أعضاء وقيادات شابة في الأحزاب السودانية نفسها. وعلي الرغم من الثقل الجماهيري والسياسي للخريجين في مناهضة الاستعمار وفي تحقيق الاستقلال فقد تم إعطاء الخريجين 5 مقاعد فقط لا غير وهي نسبة لا تتناسب مع حجمهم ومع الدور الطليعي الذي قام به الخريجين في معارك الاستقلال والتحرر الوطني. أما مستويات تنظيم الجماهير الأخري الممثلة في العمال والمزارعين وغيرهم فلم يتم منحهم (كما في الانتخابات الأخري جميعها) أي مقاعد انتخابية خاصة بهم تمثل القطاعات العريضة التي يمثلونها وتتناسب مع دورهم البارز في النضال ضد الاستعمار وفي تحقيق الاستقلال. وحتي الدوائر الانتخابية الجغرافية فقد تم تقسيمها بشكل انتقائي لا يُعَبِّر عن واقع السودان ومناطقه الجغرافية. فعلي سبيل المثال تم منح منطقة كسلا 3 مقاعد يمثلون 579 ألف ناخب في حين تم منح منطقة الاستوائية كلها مقعدين فقط لا غير يمثلون 640 ألف ناخب وذلك بقصد تمييز مناطق الوعي كمنطقة كسلا وضمان تمثيل أكبر لها من المناطق التقليدية كمنطقة الاستوائية الأمر الذي كان مجحفا في حق مناطق القطاع التقليدي المهمشة تاريخيا والتي تمثل المناطق الأكبر من حيث عدد السكان ومن حيث تركز الثروة حيث تتركز غالبية الموارد الاقتصادية الطبيعية والبشرية في مناطق القطاع التقليدي. فرغبة المُشَرِّع وقتها تحت ادعاء ضمان تمثيل مناطق الوعي كانت في حقيقتها غير صادقة تفضحها عدد المقاعد المخصصة للخريجين والتي بلغت 5 مقاعد فقط في كل السودان وهو ما يعكس استبعاد المتعلمين الذين يتوافر لهم الوعي السياسي أكثر من غيرهم في الجهاز التشريعي ومن مواقع الفعل السياسي، بل قد استبعدوهم نهائيا فيما بعد في انتخابات 1958م و1968م حسبما هو مبين لاحقا في هذا المقال. فالانتخابات كانت في حقيقتها مجرد شعارات وأداة طبقية لاستدامة التخلف الاجتماعي خاصة في مناطق القطاع التقليدي وترسيخ سلطة شبه الاقطاع القبلي واستدامة تركيز الثروة في القوي الاجتماعية التي تمثل القيادات القبلية والطائفية من ملاك الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية في تلك المناطق وحلفائهم من الطبقة الرأسمالية الناشئة في تلك المناطق المرتبطة بشكل غير مباشر بالاستعمار الحديث عبر التوكيلات التجارية والزراعية في قطاعات الأسمدة والتقاوي والمبيدات والمعدات الزراعية والنقل وكافة القطاعات التي تهيمن عليها القوي الاجتماعية التي تمثل السلطة السياسية والاجتماعية في مناطق القطاع التقليدي ومناطق الزراعة الآلية والمشاريع المروية في مناطق الانتاج الحديث.
تابعونا في الحلقات القادمة
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …