تجربة في التفرغ للعمل العام
جعفر خضر :
أنا جعفر خضر اتقاضى راتبا شهريا مقداره 70 الفا من الجنيهات نظير تفرغي للعمل في حركة بلدنا، وبجانب الراتب وفرت لي الحركة سكنا مريحا بما فيه من خدمات الماء والكهرباء والانترنت ومساعدات شتى تجعل الحياة ممكنة ومريحة.
يتطرق هذا المقال لهذه التجربة المختلفة بالنسبة لي، ويتطرق لحركة بلدنا التي تحاول أن تكون رقما مختلفاً وليس إضافيا، وهي لا تزال في طور التأسيس في تعرجات ثورة ديسمبر العملاقة .
تعمدت ان اذكر ال(70 ألف جنيه) في صدر المقال لأنني أريد أن أتفادى صورة ذلك السوداني القح الجميل، الذي كثيرا ما نراه في وسط السوق، يرفع جلابيته ليخرج رزمة نقود من جيب العراقي الداخلي، لكنه يحرص أن يعطي ظهره للأشخاص المحيطين به، ليعُدّ نقوده بعيدا عن الأعين الرقيبة!!
يعود سلوك إخفاء الأموال، على الأرجح، خوفا من عين الحسود (الفيها عود)، أو خوفا من اللصوص النشّالين المتربصين، أو من تسعة طويلة الخطافين .
ولكن هذا التعامل السري مع المال ليس حصرا على السودانيين الجميلين وغمار الناس، بل يمارسه الأكثر تمدنا في كل أرجاء المعمورة. وقد ترسخ تقليد عالمي يحافظ على سرية أموال عملاء البنوك منذ زمن قديم.
ولا ضير أن يخفي الناس اموالهم من الحساد او صغار اللصوص أو لأي سبب.
لكن تكمن المشكلة في أن اللصوص الكبار ظلوا عبر التاريخ يوظفون هذه السرية لنهب اموال الشعوب. فمنذ بدايات القرن الثامن عشر كانت بنوك سويسرا تدير أموال عملائها بمنتهى السرية. ورغم أن لويس السادس عشر ملك فرنسا كان يعيش في حالة من الترف الظاهر وسط شعبه الفقير ، يقال أنه كان حريصاً على إخفاء معاملاته البنكية السويسرية عن اعدائه، قبل ان يلقى حتفه مع رفيقة نهبه ماري انطوانيت بأيدي الثورة الفرنسية، وقد سار اللصوص الطغاة، من بعد، على ذات دربه! .
ظلت قبلة لصوص نظام الإنقاذ البائد بنوك ماليزيا، لكن بعد الثورة يمم الانقلابيون وجوههم شطر الإمارات الحرام.
ولا أحد يعلم الآن حجم الأموال التي يديرها محمد حمدان دقلو حميدتي. وقد سكت الاتفاق الإطاري، الذي وقعته قحت مع هؤلاء اللصوص مؤخرا، عن التطرق لمنع الدعم السريع من الأعمال التجارية والاستثمارية!!
ووفقا لأرقام البنك الدولي، يتم اختلاس ما بين 20 و40 مليار دولار سنوياً من قِبَل قادة بُلدان أو حكومات فاسدين، وإخفائها في حسابات مصرفية في مُختلف أنحاء العالم.
وأظن أن أكبر عملية نهب في العالم تتم الآن بالسودان، إذ ان الانقلابيين وبعض دول الإقليم والعالم، تداعت على السودان تداعي الأكلة على قصعتها !!
إن إعطاء الظهر للآخرين لعد النقود واعتبار المال الخاص اسرارا لأمر مقبول لا مؤاخذة فيه على عموم الناس، ولكن هذا لا ينطبق نهائيا على الحكام، ولا يسري على منظمات المجتمع المدني.
إن تجربتي في حركة بلدنا مختلفة مقارنة بتجاربي الطويلة مع منظمات المجتمع المدني، التي انخرطت فيها جميعها بكل جوارحي.
أنني من مدمني العمل العام، وهو إدمان حميد بدرجة كبيرة ، ليس مثل إدمان المسكرات والمخدرات والآيس القاتل الذي انتشر مؤخرا.
انخرطت في العمل العام صبيا يافعا. فبعد أن اعتزلتُ لعب كرة القدم في حوالي الخامسة عشر من العمر، صرت إدارياً ومدرباً لفريق النسر بحي ديم النور بمدينة القضارف، وقد عشت التجربة بكل تفاصيلها . بجانب التبرعات قد ابتكرنا طرق أخرى لتوليد الدخل، كأن يردم الفريق الرملة في البيوت، قبيل الخريف، بمقابل مالي، وقد بعنا أكياس النايلون في سوق الخضار بمدينة القضارف لمصلحة الفريق .
ولما التحقت بمدرسة القضارف الثانوية القديمة في العام ١٩٨٦م انضممت، وأنا في الصف الأول، للجمعية العلمية، وأصبحت نائبا لسكرتيرها العام، على ما اذكر، وكان يشرف عليها الأساتذة (الدكاترة فيما بعد) عمر عرديب ومحمد المعتصم أحمد موسى.
وأذكر يوم أن طلب منا أستاذ معتصم أن نهيئ أنفسنا للذهاب إلى البنك في اليوم التالي من أجل اعتماد توقيعاتنا لفتح حساب الجمعية العلمية.
سهرت يومذاك أصنع لنفسي توقيعا من عدم، حتى وجدته بعد جهد جهيد، ثم واصلت أكرر كتابته حتى أحفظه، إذ أن أي واحد منا سيوقع في البنك ثلاثة توقيعات، وينبغي أن تتطابق. وذهبنا في اليوم الموعود أنا ونزار مصطفى زكي برفقة أستاذ معتصم إلى البنك.
ان التوقيع الذي صنعته حينذاك (١٩٨٦م) هو توقيعي الان الذي اعتمدت به ترشحي للمجلس التنفيذي لحركة بلدنا في انتخابات الحركة في نوفمبر ٢٠٢٢م.
التحقت بالجامعة في مطالع تسعينات القرن الماضي وانغمست تماما في تجربة حركة الطلاب المحايدين، وناصرنا اتحاد المحايدين بقيادة حاتم المهدي وأسامة محمد إدريس، بكل ما نستطيع، كانت تلك الفترة عبارة عن معركة شرسة وصدام مستميت ضد نظام الإنقاذ الذي كان في عنفوان جبروته، ثم خضنا صراعا مركبا ضد الإنقاذ من ناحية وبعض الأحزاب السياسية من ناحية أخرى. فكم سهرنا حتى الصباح لإصدار صحيفة الشاهد الحائطية بنسخها المتعددة لمجمعات الجامعة برفقة نزار الطيب وعثمان صالح، وكان حسام سكاو يوفر دائما المعينات ويحرص على أن يتأكد أن ليس هناك أي مشاكل .
كما خضت تجربة رابطة الطلاب المعوقين واصدقائهم بجامعة الخرطوم، شاركت في عدد من جمعياتها العمومية وتباينات توجهاتها، تسنم لجانها التنفيذية من ذوي الإعاقة: عبد الإله موسى وعبد الصادق قاسم، وغادة عبد الله رحمها الله، وآمنة عبد الخالق، ورحمة صديق، وعبد الرحيم توتي وغيرهم، ومن الأصدقاء بهجة جلال ونفيسة آداب وفاطمة التوم وعبد الباقي الظافر وغيرهم.
كانت الرابطة تصدر صحيفة مشاوير وقد اصدرنا عددا او عددين في العام ١٩٩١م قبل مصادرة النشاط، وكان توجه الصحيفة مناهضا لنظام الإنقاذ.
ولكن في دورة لاحقة اقتربت الرابطة من السلطة شيئا ما، بدخولها في المناطق المشتبهة، بتنظيمها برنامجا ترفيهيا لجرحى الجيش بالسلاح الطبي .
ولعل أبرز إنجازات الرابطة هو تنفيذها لمسرحية مأساة تاجوج، برعاية الأب الروحي للرابطة البروفيسور محمد هاشم عوض، بطاقم ممثلين جله من ذوي الإعاقة الحركية، من الرابطة ومن الجمعية السودانية لرعاية وتأهيل المعوقين، في تجربة فريدة من نوعها، وقد تم عرض المسرحية بقاعة الشارقة وقصر الشباب والأطفال، وحوالي ثلاثة عشر عرضا تجاريا بمسرح امبدة الأهلي.
وأزعم أن أول احتفال باليوم العالمي للأشخاص ذوي الاعاقة بالسودان نفذته رابطة الطلاب المعوقين بايعاز من المرحوم محمد هاشم عوض، وبالتعاون مع اتحادات الاشخاص ذوي الاعاقة، وقد تم تنفيذ الاحتفال في دار جامعة الخرطوم للنشر والذي استمر عدة أيام من شهر ديسمبر ١٩٩٦م.
إن انخراطي في العمل العام المنظم في القضارف جاء بعد استقراري في مهنة أكل العيش مدرسا من منازلهم، مما وفر لي مالا يكفي لتحريك دفة الحياة.
بدأ العمل العام بعد اتفاق نيفاشا للسلام. شاركت مع آخرين في تأسيس منتدى شروق الثقافي في العام ٢٠٠٧م. وابتدرت مع وليد صديق “الريس” مجموعة قضارف ضد الفساد بدعوة ممثلين للتنظيمات السياسية لمحاربة الفساد بالولاية، ولقد أبلت المجموعة بلاء حسنا ضد النظام البائد، ثم أضمحلّت . وشاركت مع كثيرين في تأسيس تجربة مبادرة القضارف للخلاص في العام 2012 والتي لا تزال .
ثم جاءت تجربة حركة بلدنا الحالية التي انتخبت رئيسا لمجلسها التنفيذي في أكتوبر ٢٠١٩م. والجديد في هذه التجربة أنني تفرغت للعمل بها ابتداء من فبراير 2021م حتى تاريخه .
أنني اتقاضى راتبا شهريا مقداره 70 الفا من الجنيهات، وبجانب الراتب وفرت لي الحركة سكنا مريحا في ذات مقرها الذي تتوفر فيه مقومات الحياة المريحة.
إن حركة بلدنا هي حركة اجتماعية سياسية، َليست حزبا سياسيا.
تهدف الحركة حسب ورقتها التأسيسية المنشورة لتحقيق مجتمع إنسانه ممتلك لحرياته وحقوقه وقادر على صياغة وتنفيذ رؤيته للتنمية المرتكزة على الإنسان، كما تهدف إلى الوصول إلى عقد اجتماعي يتأسس على مشتركات تتوافق عليها كل مكونات المجتمع السوداني، وبناء السلام الأفضل الذي تصنعه مشاركة جميع مكونات المجتمعات المتأثرة بالحروب والنزاعات والاستبداد والفساد والاستغلال والاحتكار، عبر المؤتمرات القاعدية الي تؤسس على قبول الآخر والاعتراف به واحترامه ونبذ العنصرية.
إن حركة بلدنا، التي هي حركة تحت التأسيس، منشغلة بتأسيس الدولة السودانية في خضم ثورة ديسمبر. إن الحركة تشبه قاربا صغيرا يبني نفسه أثناء علوه وهبوطه مع موج الثورة المتلاطم، وتسعى في ذات الوقت للتأثير على الأمواج لتصب في نهر الدولة المدنية الديمقراطية .
من أين تدفع لي الحركة راتبا قدره 70 ألف ج؟ ومن أين تؤجر مقرها وتموّل أنشطتها؟
من اشتراكات الأعضاء ومساهماتهم فقط لا غير.
إن أخذ الراتب من اشتراكات الأعضاء، الذي يكفي بالكاد تسيير الحركة، يلقي على الكاهل مسؤولية جسيمة ويضاعف الإحساس بالتقصير.
ومن أوجه التقصير الماثلة : التركيز على العمل الخارجي أكثر من الداخلي مما أثر سلبا على البناء الداخلي للحركة، كما أن العمل الخارجي نفسه لم يمض على ما يرام في ظل تعقيدات المشهد السياسي. كما أننى لم استثمر الزمن كما يجب، وهنالك ضعف في مهارات التواصل مع الرفاق والاعضاء ، وغيرها.
وقد بلغ حجم ميزانية الدورة التي بدأت في أكتوبر 2019م وانتهت في أكتوبر 2022م حوالي 3 مليون ج، بمعدل مليون ج للعام.
لقد عدد ملخص خطاب الميزانية منجزات الدورة، ومن ضمن هذه الإنجازات (اعتماد الحركة على نفسها في تمويل أوجه الصرف المختلفة عبر اشتراكات ومساهمات الأعضاء والنجاح في إكمال الدورة دون مديونية)
يمكنك الاطلاع على ملخص خطاب الميزانية هنا :
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=464436762541458&id=100069254137792&mibextid=Nif5oz
ورغم أن حركة بلدنا ليست حزبا سياسيا، لكنها تشددت على نفسها تشدد الأحزاب ، إذ أن الأحزاب نظريا لا تقبل التمويل إلا من عضويتها ومن الشعب تطوعا .
قلت (نظريا) لأن هنالك بعض الأحزاب تلقت تمويلا من دول خارجية! ، وإن كانت لا تعترف بذلك! ؛ وهنالك أحزاب مولت نفسها من مال الدولة! ، ولعل أبرزها حزب المؤتمر الوطني البائد ! .
يمكن تصنيف حركة بلدنا ضمن منظمات المجتمع المدني ، وإن كانت تتميز بأن انشغالها الأساسي هو العمل على إعادة تأسيس الدولة السودانية. وللحركة تفسير لمفهوم “البنية الحركية” باعتبارها تتسم بالمرونة واللا مركزية والنزعة للتشارك مع الآخرين.
ولكن حركة بلدنا تشددت على نفسها، مقارنة بمنظمات المجتمع المدني، برفضها عرضا بتمويل من إحدى المنظمات في مشروع يخدم توجه الحركة!
كان رأيي الشخصي في بادئ الأمر أن نقبل التمويل بشرط أن نحسن الصرف وأن نمارس شفافية كاملة أمام الشعب السوداني ونخبره بكل مليم صرفناه، ونشدد على أننا كحركة لن ندخر جنيها واحدا لمصلحة الحركة من هذا التمويل . ولكن هياكل الحركة ممثلة في مجلسها المركزي رأت رفض التمويل، فرفضناه عن رضا وطيب خاطر.
إن آفة الكثير من منظمات المجتمع المدني في السودان، التي تتلقى تمويلات ضخمة، أنها تُطبـق على نفسها سرية محكمة، وتنعدم فيها الشفافية، إذ أنها تخرج رزمة الدولارات من سترة البدلة الداخلية، وتعطي ظهرها للشعب، وتعد أنصبة المتنفذين، وترسل الفواتير الحقيقية أو الملفقة للمنظمة الدولية ، وهم يظنون أنهم بهذا يحسنون صنعا!
عندما تكون السرية ثقافة سائدة فإن ملايين الدولارات تضيع في دهاليز الفساد، وتتمظهر ضنكا للشعب وأوجاعاً ، ثم أننا لن نكون مؤهلين لبناء دولة المؤسسات التي تكون السلطة فيها للشعب .. كيف تكون السلطة للشعب ونحن نحرمه من معرفة الأموال التي نجلبها باسمه!!
عادة لا أحمل هم الرزق، أتقاضى الآن 70 ألفا، مستقطعة من لحم الأعضاء، ستتوقف عند نهاية مدة التفرغ، عندها ربما أواصل في امتهان الكتابة الصحفية، ولو لم تسد الرمق، سأعود إلى التدريس، مهنتي الأولى.
ولكن المهم.. هل سننجح في بناء حركة بلدنا، كحركة مختلفة منفتحة تحسن إدارة اختلافاتها وتبايناتها، وتجوّد بنيتها المؤسسية الديمقراطية، وتتسم بأخلاقية العمل العام، فعلا لا قولا، مقدمين الوطن على الحركة، والحركة على الذات؟ هل سننجح؟
ومن ثم يكون للحركة إسهامها المشهود في إعادة بناء الدولة السودانية، أم ستتقاصر قامتنا عن إنجاز هذه المهمة الجليلة ؟!
فلنبذل من الجهد قصاراه ، وما التوفيق الا من عند الله.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …