التضخم: إشكاليات المنهجية والحوكمة
معتصم أقرع:
أعلن الجهاز المركزي للإحصاء عن انخفاض معدل التضخم في نوفمبر 2022 الي 89% مقارنة مع 103٪ في نفس العام. في ظروف انعدام الشفافية يصعب التأكد من صحة هذه الأرقام، ولكن، حتى لو قبلنا بها فإنها لا تعني ان الأسعار قد انخفضت أو استقرت. تعني الأرقام فقط ان متوسط الأسعار قد ارتفع بمقدار 89% في نوفمبر 2022 مقارنة بمستواه في نوفمبر من العام السابق. أي ان كل ما في الامر هو ان الأسعار زادت، ولكن سرعة زيادتها تراجعت من 103٪ في أكتوبر الي 89% في نوفمبر 2022 ولا أدرى لم الاحتفال بزيادة قاربت الضعف في أسعار السلع خلال عام، ولكن هذه سنة سنتها الحكومة السابقة في استغلال حسن نية الشعب بغرض التضليل الرقمي.
المثير للانتباه انه منذ بداية هذا العام وقبل الحرب الأوكرانية، ارتفعت معدلات التضخم في جميع أنحاء العالم وفي جميع/معظم الاقتصادات سواء ان كانت متقدمة أو ناشئة أو نامية. ثم واصلت الأسعار في التصاعد في جميع أنحاء العالم بمعدلات أكثر حدة منذ نهاية فبراير 2022 عقب الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأهم، بما في ذلك أسعار الحبوب والمواد الغذائية والوقود ومدخلات الإنتاج الزراعي. وحسب الأمم المتحدة فان سعر سلة الغذاء المتوسطة في السودان قد ارتفع سعرها بنسبة 137٪ عقب الحرب الأكرانية.
استجابت الاقتصادات المتقدمة برفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم مما ضاعف من آلام الاقتراض وخدمة الديون وزاد من متاعب الدول الأقل نموا بالذات في مجال عبء الديون الخارجية. وكانت النتيجة النهائية تحقق أسوأ ضغوط تضخمية منذ سبعينيات القرن الماضي.
وتفاقمت مشاكل الدول النامية والاقتصادات الناشئة مرة أخرى مع ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي أمام العملات الرئيسية نتيجة هروب رؤوس الأموال من الاقتصادات الصغرى والمتوسطة إلى الاقتصاد الأمريكي بحثًا عن أسعار الفائدة المرتفعة وعن الأمان، كما يحدث عادة في أوقات الأزمات الاقتصادية والهزات السياسية.
وسط هذه البيئة التضخمية العالمية غير المسبوقة، استمر معدل التضخم في السودان في الانخفاض من 423٪ في يوليو 2021، الي 258٪ في فبراير 2022 الي 264% في مارس من نفس العام الي 221٪ في أبريل 2022، الي 191٪ في مايو 2022، الي 149٪ في يونيو 2022. والآن انخفض الي 89% في نوفمبر مقارنة بمستوي 103٪ في أكتوبر 2022. وقد أعلن بنك السودان ان هدف السياسة النقدية في عام 2023 هو خفض معدل التضخم الي 25٪ وذلك بتحقيق بمعدل نمو في القاعدة النقدية ومعدل نمو في عرض النقود في حدود 27٪.
الانخفاض المستمر في معدل التضخم منذ يوليو 2021 هو أحد أهم الغاز الاقتصاد السوداني التي لم تجد تفسيرا من ابطال “الانتصار” الذين لا يبدو عليهم حماس جامح في الاحتفال به علانية وبالدفوف كما يجب ربما حتى لا يعكروا صفو الذين اختاروا ان لا يصدقوا وان يتركوا الكلاب النائمة تغط في نومها.
في هذا المقال القصير نتناول بعض القضايا المتعلقة ببيانات التضخم الرسمية الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء والتي لها صلة بتفسير اتجاه الأسعار المثير للدهشة.
أولا يبدو ان حساب معدل التضخم يعاني من إشكالية في عناصر السلة التي يحسب على أساسها معدل التغير في المتوسط المرجح للأسعار. من المعروف ان أي اقتصاد تباع فيه عدة الاف من أنواع السلع والخدمات المتداولة في السوق. ولا يمكن ولا يهم قياس أسعار جميع هذه الالاف من السلع لذلك تلجأ الجهات المختصة لتحديد سلة – أي مجموعة من السلع – يتم متابعة أسعارها ويحسب معدل التضخم بناء على تغير أسعار عناصر هذه السلة. لذلك يكتسب عدد وطبيعة السلع المختارة التي توضع في السلة أهمية خاصة لأنها الأساس الذي يحسب على أساسه معدل التضخم. عادة يتم اختيار السلع التي تدخل في السلة بناء على كثافة اعتماد المواطنين عليها ويتم ابعاد السلع التي يتم استهلاكها على نطاق ضيق لان تغير سعرها لا يهم المواطن المتوسط كثيرا.
الإشكالية الأخرى التي تتعلق بحساب معدل التضخم تتعلق بالوزن النسبي لكل سلعة المستخدم للوصول الي رقم واحد يقيس التضخم. بما السلة تحتوي على مئات السلع لذلك لا بد من تحديد وزن نسبي لكل سلعة يدخل في حساب معدل التضخم. فمثلا في الولايات المتحدة يمثل التغير في ايجار العقارات 30٪ من معدل التضخم وذلك لان المواطن المتوسط يصرف حوالي 30٪ من دخله في الايجار (أو ما يقابله من شراء أو معادل ايجار المالك لعقاره).
النقطة هي ان مصداقية وأهمية معدل التضخم المحسوب من قبل الجهاز المركزي للإحصاء تعتمد علي جودة تمثيل السلة لما يستهلكه المواطن المتوسط وكذلك على درجة معقولية الاوزان الترجيحية للسلع المختلفة. فالسلة التي تضم سلعا يتم استهلاكها في نطاق ضيق أو تستثني سلعا واسعة الاستهلاك لن ينتج عنها معدل تضخم صالح كمؤشر اقتصادي بأهمية مركزية. وكذلك فان الأوزان الترجيحية يجب ان تتوافق مع الأهمية النسبية للسلعة ونصيبها من الإنفاق الكلي للأسرة المعيشية المتوسطة. وبالمثل فان اختلال عناصر السلة أو انحراف الاوزان الترجيحية للعناصر السلعية يضعف من معني معدل التضخم المحسوب.
حسب تصريحات السيد مدير عام الجهاز المركزي للإحصاء فان آخر بيانات المسح لنفقات ودخل الاسرة يرجع الى العام 2007 وتم خلاله اختيار 656 سلعة – 412 منها محلية و244 منها مستوردة – لتمثيل سلة المستهلك التي تحسب على اساسها الارقام القياسية ومعدلات التضخم. ولاحقا تم تحديث الاوزان الترجيحية للسلع الاستهلاكية المختلفة، ولكن لم يتم تحديث السلة نفسها بما يتماشى مع تغير أنماط الاستهلاك عقب الصدمات السياسية والاقتصادية التي تكاثرت.
حديث السيد مدير عام الجهاز المركزي للإحصاء المنشور في 8 أغسطس 2022 يعني ان معدل التضخم الرسمي الذي يصدر من الجهاز المركزي للإحصاء هو وسط مرجح للتغيرات التي تحدث في أسعار 656 سلعة يفترض ان الأسرة المتوسطة تستهلكها. القول بان الأسرة السودانية المتوسطة تستهلك 656 سلعة مثير للدهشة، حتى لو كانت “السلعة الواحدة” تمثل مجموعة متنوعة مثل تشكيلة من الخضروات أو زيوت الطعام.
الملاحظ ان الاسرة السودانية المتوسطة تستهلك عددا محدودا من السلع بصورة متكررة ويتناقص عدد هذه السلع مع الخروج المتدرج لبعضها من متناول اليد نتيجة لتصاعد معدلات التضخم والافقار. فمعظم الاسر يتركز انفاقها في الفول والسلطة والخضروات والعدس والبقوليات واللحوم والمواصلات والسكن (الايجار أو الشراء).
وهذه الحقائق تثير تساؤلات حول دقة تمثيل سلة الجهاز المركزي للإحصاء – التي تحتوي على 656 سلعة – كممثل واقعي لتوزيع صرف الأسرة المتوسطة، حتى لو دخل 40 أو 60 صنفا من الخضروات واللحوم في بند الطعام كسلعة واحدة مركبة. فحسب الأمم المتحدة فان الأسرة المعيشية المتوسطة في السودان تنفق ثلثي دخلها على الطعام. وإذا أضفنا المواصلات والسكن وشيء من الدواء والتعليم فان ذلك كفيل بالقضاء على الثلث الأخير من دخل الأسرة. وهذه الحقائق تفاقم حدة الأسئلة حول افتراض الجهاز المركزي للإحصاء عن عدد السلع التي تستهلكها الأسرة المتوسطة والبالغ في دفاتره 656 سلعة.
الحقيقة هي ان سلة الجهاز المركزي لم تتغير منذ عقد ونصف وقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر منذئذ من انفصال الجنوب وذهاب البترول وتعمق الفقر وانهيار الطبقة الوسطي وتغير التركيبة الديمغرافية لمناطق تركز الاستهلاك. لذلك فان تركيب السلة المعتمد عليها حاليا ربما أحدث انحرافا في دقة معدل التضخم المحسوب ربما يتجه نحو تقليله عما هو عليه لان الطلب على السلع الأكثر أساسية يتأثر بدرجة أقل مع تفاقم الفقر ما يعني ميل سعرها للارتفاع بوتائر أكثر حدة. ولو استقرت أسعار سلعة شبه كمالية (تعادل حلاوة الماكنتوش) أو ارتفعت بنسبة أقل من المعدل العام فان ذلك لا يعني المواطن الذي لا يشتريها رغم ان ذلك الاستقرار أو الارتفاع المحدود من الممكن ان يساهم في تقليل معدل التضخم المحسوب. وقد أشار السيد مدير جهاز المركزي الى ان معظم الدول تقوم بتحديث السلة وتجري المسوحات المطلوبة كل سنتين، ولكن ذلك لم يحدث في السودان نسبة لتدني الإمكانيات والظروف التي تمر بها البلاد.
ثم بدأت معدلات التضخم في النزول شهريا منذ يوليو 2021 بدون أي تفسير صدقي مصاحب من الجهاز أو من وزارة المالية أو من بنك السودان أو من اقتصادي موثوق أو من البنك الدولي أو من صندوق النقد الدولي.
شخصيا أكن كامل الاحترام لجل موظفي الجهاز المركزي للإحصاء وجل العاملين بجهاز الدولة الذين يعملون في ظروف قاسية. ولكن لا علم لي بوجود أو غياب ضغوط سياسية عليا على قادة الجهاز المركزي للإحصاء لمكيجة البيانات لأغراض سياسية.
كما ان غياب الشفافية لا يشجع علي حسن الظن وشتان بين حسن الظن والغشامة التي تم تسويقها منذ سقوط نظام البشير علي انها من جنس الوطنية وحسن الأدب. نتمنى ان ينشر الجهاز المركزي للإحصاء كل تفاصيل طريقة حساب معدل التضخم من الالف الي الياء وان ينشر سلة السلع المعتمدة والأوزان الترجيحية المستخدمة مصحوبة ببيانات تاريخية عن التغير في الرقم القياسي لأسعارها. متلازمة نقص الشفافية المؤسسية يضعف الثقة في أخبار التضخم وغيرها من تصريحات الحكومة لأسباب فنية أحيانا ولأسباب سياسية في غيرها.
تجدر الإشارة إلى أنه في النصف الثاني من عام 2020، أعلنت شخصيات حكومية بارزة حينها عن نية الحكومة السابقة مراجعة طريقة حساب التضخم ولا ندري هل تم تنفيذ ذلك التصريح وهل لذلك أي علاقة بالانخفاض الحاد في معدل التضخم منذ يوليو 2021.
مع ذلك فان تراجع معدل التضخم وارد وقابل للتصديق ولا يفتقد الاتساق مع أساسيات النظرية الاقتصادية التي تقول بان تغير الأسعار يعتمد على درجات التغير في الطلب (الصرف) مقارنة بالمعروض من السلع. لذلك فمن الممكن، بل والمرجح، تراجع معدل التضخم في العام السابق نسبة لانهيار الطلب الفعال – أي المدعوم بمقدرة على الشراء – وتلاشي القدرة الشرائية والافلاس وظهور شبح الكساد.
لكن لاحظ ان القول بان معدل التضخم قد انخفض لا يعني ان الأسعار قد انخفضت. ذلك القول يعني فقط ان الأسعار ارتفعت بمعدل اقل. أي انها ما زالت في مسار تصاعدي، وان تلاشي القيمة الحقيقية لدخل المواطن يتواصل، ولكن سرعة صعود الأسعار انخفضت قليلا ويظل الدخل الحقيقي للمواطن في حالة تبخر مستمر بمعدل مرعب كما تؤكد ارقام الجهاز المركزي للإحصاء على علاتها.
بعبارة أخري، بيانات الجهاز المركزي تشير الي ارتفاع مخيف في الأسعار بلغ في نوفمبر 89%. ويمكن التمعن في مغزى هذا المعدل في سياق ان الدول الكبرى قد أعلنت حالة الطواري الاقتصادية حين ارتفع معدل التضخم الي 6% وقبل ان يصل الي حدود 10٪. في هذه الدول معدل التضخم المستهدف من قبل البنوك المركزية هو 2٪ وأي رقم أعلي من ذلك يستدعي تدخلا قويا من قبل البنوك المركزية لإنزاله الي المعدل المستهدف عادة عن طريق تشديد السياسات النقدية برفع سعر الفائدة والحد من التوسع في الائتمان.
بإمكان هذه الدول الكبرى الحفاظ على معدل التضخم في حدود الصفر، ولكن حسب النماذج الرياضية والتحليل الفني فان المعدل الأمثل للتضخم هو 2٪ لأنه يسمح بتحقيق اهداف اقتصادية مهمة لا يمكن الحصول عليها بالمحافظة على نسبة صفرية للتضخم منها توفير حيز للسياسة النقدية يسمح بمحاربة أي ركود اقتصادي في عالم يزخر بالصدمات التي يصعب توقعها.
وعقب الصدمات الاقتصادية المتعاقبة منذ الازمة المالية العالمية في عام 2008 مرورا بصدمات الكورونا والحرب الأوكرانية جادل بعض الاقتصاديون المرموقون بأن معدل 2٪ لم يعد مناسبا في ظل تواتر الصدمات. فمثلا يري بول كروغمان ان المعدل الأمثل الذي يناسب الظروف المستجدة هو 4٪ بينما يجادل اوليفر بلانشارد، أستاذ الاقتصاد واحد كبار اقتصاديي صندوق النقد الدولي سابقا، بأن المعدل الأمثل حاليا هو 3٪ – ولكن هذه قضايا نظرية نتركها لمناسبة اخري ونكتفي بلفت نظر القارئ الي ان ارتفاع معدلات التضخم فوق حدود 2٪ أو 3٪ يقرع أجراس الإنذار السياسية والاقتصادية في الدول الكبرى فما بالك بمعدل 89٪ تضرب له الدفوف.
التضخم ليس من القضاء والقدر النفي لمسؤولية البشر وانما هو نتيجة منطقية لفعل انساني وسياسات يصنعها بشر في سياق سياسي معين. وقد فصلنا سابقا ان السبب الأهم في خلق التضخم السوداني الجامح والمزمن هو استيلاء الحكومات المتعاقبة على أموال الشعب عن طريق الطباعة المفرطة للكاش وصرف الكاش المطبوع في أغراض لا تخدم التنمية ولا الإنتاج ولا تستجيب للحاجات الملحة التي تلاحق المواطن. وان ما يخسره المواطن من قدرة شرائية نتيجة للتضخم هو الوجه الاخر لما تكسبه الحكومة من طباعة الكاش رب رب.
احتفالات أهل الحكومة السابقة والحالية والمطبلين عن جهل أو غرض بانخفاض معدل التضخم يعتمد على الالتباس الذي يصور انخفاض معدل التضخم وكأنه انخفاض في الأسعار وهذه امية حسابية مثيرة للشفقة. إذا ارتفع سعر سلعة من جنيهن في الفترة الاولي الي اربعة في الفترة الثانية (ارتفاع بنسبة 100٪) ثم ارتفع في الفترة الثالثة الي سبع جنيهات (ارتفاع بنسبة 75٪) هل يمكن الاحتفال بانخفاض معدل التضخم من 100٪ الي 75٪ رغم ان السعر واصل في الارتفاع من جنيهين الي أربعة الي سبعة؟ هذا هو معني انخفاض معدل التضخم الذي يتغنى به البعض منذ يوليو 2021.
كما يجب تفسير اعلان بنك السودان عن هدفه لخفض معدل التضخم في 2023 الي حدود 25٪ على انه كارثة، حتى لو تحقق، لأنه يعني استمرار ارتفاع الأسعار وتراجع القيمة الحقيقية لدخل المواطن بمعدلات غير مقبولة تعتبر مأساوية في أي دولة في العالم لم تنكسر فيها المعايير ولم تصب نخبتها السياسية والفكرية بالخرس أو الأمية في الاقتصاد السياسي – اهم ملفات الحوكمة.
ولا شك ان نجاح السيد وزير المالية ومعه محافظ بنك السودان المركزي في الهبوط بمعدل التضخم من 423٪ الي حدود 25٪ في غضون عامين سيشكل إنجازا سياساتيا فريدا في تاريخ الممارسة الاقتصادية حول العالم يرشحهما “لجائزة نوبل في الاقتصاد التطبيقي” قبل ماريو دراغي الذي أنقذ اليورو من موت أطل برأسه عقب أزمة اقتصاد الخنازير الأوروبية.
نضرب بـعض الأمثلة الأخرى لتوضيح ان تراجع معدلات التضخم ليس بالضرورة مؤشرا للتعافي إلا إذا ان كان انخفاض مستوي ضغط الدم لمريض بسبب اقتراب الموت دليل علي نجاعة علاجه من ارتفاع الضغط.
فعلي سبيل المثال انخفضت معدلات انهيار سعر الصرف نتيجة لتلاشي الطلب اذ تراجع الطلب على الدولار لأغراض السفر والسياحة والدراسة والعلاج والاستيراد نتيجة لتمدد الفقر وزيادة الجبايات والرسوم على المستوردين والمنتجين والمستهلكين. وقد كرر التجار كثيرا ان الركود في الاسواق هو سيد الموقف اذ انحسر البيع والشراء نتيجة لضآلة دخل الأسر مقارنة بالأسعار، وتركيزها على ابتياع السلع الأساسية فقط. فهل يمكن الاحتفال بتباطؤ ارتفاع سعر الدولار إذا كان السبب ان الشعب قد كف عن السفر لأغراض مهمة ولم يعد قادرا على شراء ما كان يستهلكه من سلع مستوردة؟
أيضا تراجعت أسعار السيارات رغم ارتفاع الضرائب والجمارك وارتفاع سعر الدولار. أحد أسباب تراجع أسعار السيارات الذي غطته الصحافة هو نزوع الأفراد للتخلص من سياراتهم بالبيع لان سعر الوقود صار فوق طاقتهم كما ارتفعت أسعار قطع الغيار والصيانة وغيرها من مستلزمات المحافظة على الدابة بحالة عمل معقولة. وهذا أيضا من جنس تراجع معدل تضخم الاسعار بما هو افقار أشد وطأة.
ومثل أصحاب السيارات المزارع أو الصانع أو أي منتج يضطر لبيع بضاعته بخسارة حتى لا تتلف وبفقه تلتو ولا كتلتو ولكنه قد يحجم عن الزراعة أو الإنتاج في الجولات القادمة. تقول الأمم المتحدة ان شبح المجاعة يهدد 15 مليون سوداني وهو ضعف المهددين به في السنة الماضية كما يواجه 11 مليون انسان خطر انعدام الأمن الغذائي. ولا يمكن تفسير هذا الانهيار الغذائي في بلد غني بالمياه والأراضي الخصبة الا في سياق الكساد الناجم عن امتصاص دولة المليشيات وأهل السلاح لمال الشعب الذي قاد الي هزيمة المنتج وتلاشي الإنتاج وتبخر المداخيل لصالح الطفيليات المستندة على البنادق صحبة محللين مدنيين حتى لم يبق للمواطن من طلب يكفي لرفع سعر الكثير من السلع الي حدود تكلفة الإنتاج.
وأيضا لاحظت الصحافة نزعة متنامية عند الأسر لبيع العقار لتلبية الاحتياجات المعيشية – العقار أحد اهم مكونات التضخم نظرا لعلو وزنه الترجيحي في حساب معدل تغير الأسعار. قالت صحيفة العربي الجديد في الأيام السابقة:
“لجأ سودانيون، خلال الفترة الأخيرة إلى بيع عقاراتهم واستئجار أخرى أو استبدالها بوحدات سكنية أقل قيمة في مناطق تنعدم فيها الخدمات من أجل الاستفادة من الفارق المالي لتغطية نفقات الغذاء والتعليم والصحة، كما أثر تدهور الأوضاع الاقتصادية واتساع دائرة الركود سلباً على العاملين في القطاع العقاري، حيث هجر بعضهم المجال. انعكست الأوضاع الاقتصادية على سوق العقارات في السودان، حيث فقدت المباني حوالي 50 في المائة من قيمتها السوقية خلال الفترة الماضية، وتفوّق العرض على الطلب بنسبة 30%. انحسار الطلب أجبر كثيرين على تخفيض القيمة السوقية إلى أدنى مستوياتها. العاملون في مجال العقارات تأثروا بحالة الركود المتفاقمة في الأسواق، حيث أغلقت كثير من المكاتب العقارية أبوابها. الضريبة والرسوم والإيجارات عالية. أسعار العقارات انخفضت بواقع النصف، ولكن من غير مشترين. البلد يمر بمرحلة انعدام سيولة وتدهور كبير في القدرة الشرائية للمواطنين. البعض بدأ في عرض أجزاء من منازلهم للبيع بأقل الأسعار، في حين يعرض آخرون جزءا من المنزل للإيجار لمواجهة المتطلبات. المعيشية وقدّر مختصون انخفاض أسعار الأراضي والعقارات في بعض المناطق بنسبة 30% خلال الفترة الأخيرة. كما تراجع الطلب على الشقق المفروشة والفنادق، إذ أرجع مسؤول عزوف الزبائن عن استئجار غرف بالفنادق والشقق في قلب الخرطوم، إلى الاضطرابات الأمنية والإغلاقات وتدهور الأوضاع المعيشية. الطلب على تنفيذ المباني الجديدة تراجع بأكثر من 80% خلال العام الحالي. بناء منزل جديد لم يعد ضمن أولويات المواطن في الوقت الحالي، بسبب ارتفاع تكاليف البناء والحاجة لمواجهة الاحتياجات التعليمية والمعيشية المتزايدة. كما توقفت حركة البناء في القطاعات غير السكنية، خصوصا القطاع الصناعي الذي شهد خروج أكثر من 70% من المستثمرين فيه”.
نهاية الاقتباس.
عادة في الدول ذات المؤسسات الراسخة يشكل بند السكن (الايجار أو معادله في حالة التملك) نسبة عالية من الوزن الترجيحي في حساب معدل التضخم. فعلي سبيل المثال، في الولايات المتحدة يساهم البند بحوالي 40% من نسبة المساهمة في حساب معدل التضخم الاساسي. وهذا يعني ان السكن في الولايات المتحدة يلعب دورا حاسما في تحديد معدل التضخم الأساسي (الذي يستثني الطعام والطاقة نسبة لتقلب اسعارهما المفرط حسب الموسم). كما يبلغ الوزن الترجيحي للسكن في الرقم القياسي الكلي للتضخم (الذي لا يستثني الطعام والطاقة) 30%.
ولا ندري الوزن الترجيحي لبند السكن في حساب معدل التضخم في السودان. وربما كان كبيرا، حتى لو كان اقل مما هو عليه في الولايات المتحدة. وهذا يفتح احتمال مساهمة قطاع السكن والعقار في تخفيف معدل التضخم حسب المنطق المذكور أعلاه اذ يضطر المواطن لبيع عقاره بثمن بخس أو ايجار جزء منه أو ما شابه من ممارسات التكيف مع تسونامي الافقار الذي بدا مع موازنة 2020.
تقرير العربي الجديد خطير ومثير للقلق وهو تقريبا يلخص معاني التراجع النسبي المحتمل لمعدلات التضخم لان مثل هذا التراجع الذي يلخصه حال سوق العقارات دليل علي ان الأوضاع تزداد سوءا وان الركود التضخمي (أخطر الأمراض الاقتصادية) يتمدد كما ان انخفاض المطلق أو النسبي في أسعار العقار أو الايجار في الاحياء الوسطي والدنيا ليس دليل عافية وانما هو مؤشر لانهيار الأحوال المعيشية يمكن تشبيهه بانخفاض أسعار بيع الكلية نتيجة لزيادة العرض وضعف الطلب.
دخول السودان في حالة ركود تضخمي يعني تواصل ارتفاع الأسعار مع تراجع الإنتاج. تكمن شيطانية هذا المرض في ان السياسات التي من شأنها ان تهدئ من جموح التضخم تساهم في ابطاء عجلة الإنتاج. كما ان السياسات الممكن استخدامها لعلاج الركود قد تصب الزيت في فتيل التضخم الملتهب اذ لم يتم تصميمها ببراعة وحساسية مدروسة. وهذا يعني صعوبة معالجة الركود والتضخم بحزمة سياسيات موحدة ومتسقة وان اعلاج أحد الجانبين قد يعني مفاقمة المرض الاخر.
الاحتفال بنزول معدلات التضخم بالتغاضي عن مصداقيتها وبدون التمعن في معانيها هرجلة لا داعي لها في أحسن السيناريوهات أو ودليل على امية اقتصادية وإحصائية لا تصدر إلا من غافل أو مدلس بائع هواء سياسي.
قبول احتمالية تراجع معدلات التضخم نتيجة لانحسار قدرة المواطن على الشراء لا يعني بأي حال من الأحوال ان ارقام الجهاز المركزي للإحصاء دقيقة أو غير مبالغ فيها في كل شهر وذلك لغياب الشفافية بالذات فيما يخص سلامة الجهاز من الضغوط السياسية من المجموعات الحاكمة. كما ان ضعف إمكانيات الجهاز وعدم تحديث مسوحه يساهم في تبرير التحفظ.
حتى لو قبلنا إمكانية تراجع معدل التضخم إلا انه من الصعب الثقة في مصداقية مقدار التراجع المذكور حسب بيانات الجهاز التي تشير الي انخفاض معدل التضخم من 423% في يوليو 2021 الي 89% في نوفمبر 2022 بالذات في ظل غياب تحول مماثل في السياسات ذات الصلة بالتضخم مثل عجز الموازنة والصرف الحكومي وفي غياب تفسير مقنع من الجهات الاقتصادية في الحكومة أو المؤسسات الدولية التي تملك معلومات أكثر دقة ومقدرات فنية لا تتوفر محليا.
كما يلقي غياب الشفافية ضبابا كثيفا على لغز تراجع معدلات التضخم السوداني. لا أحد يعرف بأي درجة من الثقة ماذا يحدث في ملف رب رب أو كم تطبع الحكومة من نقد. مع غياب المعلومات والبيانات ذات الصلة بطباعة النقود وعرضها يصعب تحليل اتجاهات الأسعار وأسباب تغيرها تحليلا منهجيا. لا أحد يدري على ثقة كم تطبع الدولة من نقد ولا عن الطبيعة الإجرائية التي يصدر بموجبها قرار الطباعة وكيفية ضبطه.
من المعروف انه في عهد حكم البشير سيطر الجهاز التنفيذي المسكون بهاجس الأمن على قرار الطباعة رب رب وصار بنك السودان عبارة عن ماكينة طباعة في يد الجنرالات الذين حلبوه بلا هوادة لتمويل فسادهم وصرفهم الأمني وشراء الذمم السياسية. ولم يتغير الامر في فترة أغسطس 2019 الي أكتوبر 2021 بدليل زيادة معدلات التضخم بدرجات فلكية كما يقول الرسم البياني ادناه. ولم يفه القائمون الجدد بأمر الاقتصاد ببنت شفة عن كيفية اصدار وتنفيذ قرار طباعة النقد حتى في سياق حديثهم عن ضرورة لجم جماح التضخم. أيضا تتحدث مجالس الثرثرة السياسية عن دخول أهل المليشيات الراتب الي عقر مكاتب بنك السودان وطلب كاش عاجلا من مدراء البنك كأمر طبيعي لا يحاسب فاعله ولا يحتاج الي ضبط إجرائي.
وتقول شائعات بوجود اتفاق غير معلن في ترتيبات عام 2019 بتبعية بنك السودان (حيث تطبع العملة) للمكون العسكري. وفي غياب الشفافية والسكوت المدوي عن القضية يصعب التحقق من صحة “الاشاعة” لكن القرائن تشير الي انه من الصعب استبعادها في ظل سيطرة المكون العسكري عمليا (في وجود أو غياب اتفاق غير معلن) على البنك وعدم اهتمام المكون المدني بحوكمته كمهندس للسياسة النقدية وسكوت المدنيين عن معدل تضخم ارتفع من حدود 60–70% في خواتيم العهد البشيري الي تخوم 423% في يوليو 2021 وكأن معاش الناس قضية هامشية لا تدخل في حزمة مهام وأولويات الفترة الانتقالية.
وإذا ما صحت شائعة ترك المكون المدني بنك السودان للعسكر والمليشيات كليا أو جزئيا منذ عام 2019 وحتى يوم الانقلاب فان ذلك التخلي يصبح أحد أكثر الإخفاقات فداحة في تاريخ السياسة السودانية واقتصادها المنكوب بالفساد وضعف المعارف. أما لو كانت ماكينات طباعة العملة تحت سيطرة المدنيين حينها، ولكنهم زهدوا عن ضبطها وتقنين عملها وسن سنن نقدية حميدة فالكارثة أيضا من الوزن الثقيل. نستبق جماعات سوء التفسير المتعمد – معية المطالبين بشرح ما هو واضح من السياق – بان أعلاه ليس نقدا من أجل النقد اذ هو تفسير لتاريخ مهم وتنبيه لمدنيي التسوية القادمة بان لا يعيدوا مأساة يبدو انهم وسابقوهم لا يدرون الأهمية الحاسمة لإحداثياتها.
احتمال سيطرة المكون العسكري علي ماكينة طباعة العملة يفتح احتمالات تفسيرية اخري ويثير ثمة أسئلة مثل هل قرر المكون العسكري تقليل طباعة العملة بعد انقلاب أكتوبر 2021 بهدف خفض معدلات التضخم لشراء قبول سياسي شعبي للانقلاب؟ وهل سهلت زيادة عوائد الضرائب والجبايات على الحكومة تقليل الاعتماد على طباعة العملة لدرجة ما، ليساهم ذلك في خفض معدلات التضخم؟
من الصعب التوفر على إجابة يقينية لمثل هذه الأسئلة في ظل التعتيم الضارب على اهم ملفات الحوكمة التي تهم الشعب السوداني قبل المحللين الاقتصاديين، ولكن اللبيب من السياق يفهم والغافل من ظن ان الأشياء هي الأشياء.
القضية الأخرى التي يثيرها هذا المقال هو ذهول معدل التضخم المحسوب عن تدهور جودة أو كمية السلع التي تدخل في حساب التضخم. من المعروف انه مع تراجع القدرة الاقتصادية أحيانا يلجأ البائع والمشتري (وحتى الشركات الكبرى) لتخفيض عبوة/كمية السلعة أو جودتها أو الاثنين معا.
فعلي سبيل المثال إذا كان طلب الفول يكلف جنيها واحدا، ولكن ذلك السعر لم يعد كافيا لتغطية تكلفة انتاج الفوال وسلسلة امداده فان بإمكانه ان يرفع السعر الي جنيهين وفي هذه الحالة ستظهر البيانات الرسمية بان سعر الفول قد تضاعف، أي ارتفع بنسبة 100%. ولكن لو خاف الفوال من تراجع عدد المشترين فان بإمكانه ان يقلل حجم طلب الفول الي النصف ويحافظ على السعر عند مستوي الجنيه الواحد وهذا لا يختلف عن مضاعفة السعر. ولكن في هذه الحالة قد تظهر البيانات الرسمية ان سعر طلب الفول قد استقر على مستوي واحد جنيه رغم انه عمليا قد تضاعف بتقليل حجم فول الصحن الي النصف.
استراتيجية رفع الأسعار بالحفاظ على مستواها مع تخفيض حجم الوحدة تحدث أيضا عن طريق خفض الجودة المعنية. يمكن للفوال أيضا المحافظة على سعر طلب الفول على مستواه مع تقليل جودة الفول المبذول بشراء حبوب أسوأ وأرخص أو مدخلات اخري أسوأ مثل الزيت والسلطة والخدمات ونظافة المحل.
ينطبق المثل على العديد من انواع السلع والخدمات مثل الطبيب الذي لا يرفع رسوم المقابلة، ولكنه يقلل من زمنها وجودتها، ومثله المعلم، وبائع السندوتشات، وغيرهم. وأيضا فان معدل التضخم الرسمي قد يأخذ في الحسبان ارتفاع أسعار خدمات الاتصال من تلفون أو خدمات انترنت، ولكنه لا يحسب المعادل السعري لتدني جودة الخدمات والتباطؤ الملحوظ في سرعة الشبكات التي صارت سلحفائية في بعض المناطق. وغني عن القول ان مقارنة السعر بين فترتين يعني ضمنيا تطابق الجودة وانه يجب اخذ الفارق في الحسبان في حالة حدوث تباين حاد في الجودة بين الفترتين.
النقطة هي ان ارقام الجهاز المركزي للإحصاء تغض الطرف عن ارتفاع معدل التضخم الصامت المعبر عنه بتقليل حجم الوحدة أو جودتها النوعية. ولا شك في ان جودة المنتجات المتاحة في السوق السوداني واحجام السلع المبيوعة قد ظلت في مسار تراجعي مما يشير الي ان معدل التضخم الحقيقي أعلي من المسجل رسميا وذلك نسبة لذهول المعدل الرسمي عن التضخم غير المنظور الذي يأتي في شكل تدني في الجودة أو حجم الوحدة المباعة.
كما قلنا انه لا يوجد دليل إمبريقي على ان فرضية تراجع الطلب تكفي لتفسير كامل تراجع معدلات التضخم المذكورة في ارقام الإحصاءات الرسمية التي لا تتسق مع مؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى ذات الصلة بالتضخم ولا مع شكاوى الشعب مما يعيشه عمليا في الاسواق.
وإذا دارت تساؤلات مشروعة حول دقة بيانات معدل التضخم الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء فمن الطبيعي اثارة نفس الاستفهامات فيما يتعلق بجميع البيانات الصادرة عنه بما في ذلك بيانات الناتج المحلي الاجمالي وبيانات الحكومة الأخرى عن العائد الضريبي ونسبته من ذلك الناتج الإجمالي بما يشكك في العلكة المفضلة في فم أهل الثورة المضادة عن تدني ذلك العائد وصولا لاستنتاجهم الخاطئ الذي تم نشره كرأس رمح في انقلاب مستجد علي العقد الاجتماعي انطلق مع موازنة 2020 وتم بموجبه رفع يد الدولة عن دعم السلع الأساسية وتمويل الخدمات الاجتماعية التي لا تقوم تنمية ولا دولة في غيابها – مثل العلاج والتعليم. وحول ذلك الانقلاب جهاز الدولة لمجرد أداة جباية ضريبية ورسوم حدها السماء السابع يدفعها البسطاء في العيش ويتم صرف غنائمها على أعالي البيروقراطية العسكرية والميليشياتية والمدنية ولا يري المواطن المنهوب أي خدمة مقابل المال المنتزع منه “بالقانون”.
بعد ان نلاحظ أولا غياب البيانات الموثوقة عن العائد الضريبي وعن الناتج المحلي الإجمالي، حتى لو قبلنا مبدأ تدني نسبة العائد الضريبي فان الحل ليس هو مضاعفة دهس المواطن المدهوس بالمزيد من الرسوم والجمارك وضرائب الاستهلاك مثل القيمة المضافة لان مثل هذه الضرائب والرسوم تراجعية يقع عبئها الأكبر على شرائح الفقراء.
علي عكس استنتاج قادة الهجمة النيولبرالية على الطبقات الدنيا، فان المعالجة العقلانية لتدني العائد الضريبي تتم بإخضاع شركات الجيش والأمن والمليشيات للمظلة الضريبية وسحب الإعفاءات عنها وإيقاف تهريب المعادن النفيسة ومحاربة التهرب الضريبي من قبل طبقة التجار والرأسماليين ومحاربة الفساد الضريبي في جانبي المتهربين وصحبهم من كوادر الدولة البيروقراطية القائمة علي أمر الضرائب إضافة الي ادماج القطاع غير الرسمي المتضخم في دائرة الاقتصاد المنظور لأجهزة الدولة وضرائبها العادلة.
كما يجب على لائكي علكة تدني العائد الضريبي ان لا يذهلوا عن “المعادل الضريبي” المرتفع الناتج عن طباعة العملة المعروف بمصطلح ال “سينيوريج” حتى لا تكون حججهم كوار وحسبة برما تبحث عن أدلة تدعم قرار سياسي مسبق بتجريد الفقراء من اخر ما تبقي لهم من فتات الدولة تحت غطاء “علمي” رائع ملفوف في بهاء مهني ومحترمية برجوازية.
الانقلاب على العقد الاجتماعي الضمني يفتت المجتمع ويضعف من الولاء للوطن ويغذي الانكفاء علي كيانات ما قبل الدولة مثل القبيلة والعشيرة بحثا عن التضامن والمعاش والأمان وكل ما رفعت الدولة يدها عن توفيره واضحت محض شوكة في خاصر المواطن ترهقه بالجباية المصروف مالها علي الطفيليات المدنية والعسكرية والميليشياتية مقابل لا شيء من الخدمات والتنمية والتوظيف والعلاج والتعليم والأمن.
ظللنا نردد ان التضخم هو اهم مشكلة تواجه الاقتصاد السوداني ومن المستحيل تجاوز أي مشكلة اخري يواجهها الاقتصاد قبل السيطرة على شيطانه ويشمل ذلك مشاكل الاستثمار والنمو والفقر وتوزيع المداخيل والموارد واستقرار الحكم. وللأسف ما زال خطاب الطبقة المتنفذة سياسيا ونقابات المهنيين يتجاهل مشكلة التضخم وكأنه قضية جانبية لا أهمية لها. وما زال الملف الاقتصادي مهملا من قبل القائمين علي أمر الثورة والثروة وقد شهدنا نتيجة ذلك التجاهل الذي ترتب عليه تنفيذ جرعة مركزة من برنامج معتز موسي الاقتصادي منذ يناير2020 رغم رفض الشعب له بالشهيدات والشهداء في عام 2013.
ومن الممكن معالجة المشكل لأنه ليس لغزا عصيا، وهناك تجارب عالمية وتراث يمكن الاهتداء به في محاربة التضخم الجامح. ولكن العلاج يحتاج الي ضبط مؤسسي وقانوني وشفافية يبدا بتحديد من بيده بلوف ماكينات طباعة العملة والإجراءات القانونية والتشريعية والإدارية التي بموجبها يتم تحريك الماكينات.
ومن المستحسن تشكيل لجنة عليا منوط بها دراسة المشكلة وتحديد جذورها وسبل تجاوزها. وبإمكان الأحزاب السياسية ونقابات المهنيين وأساتذة الجامعات الدفع في هذا الاتجاه كبديل للسباق المستحيل الذي تسعي فيه كل نقابة الي زيادة مرتباتها ويعقب كل زيادة ارتفاع في الضرائب والرسوم وأسعار السلع والخدمات في السوق ثم يتبع ذلك جولة اخري من المطالب النقابية بزيادة المرتبات وهكذا دواليك في سباق حلزوني داخل حلقة مفرغة.
إضافة الي أهمية الشفافية لتعزيز سلامة ومصداقية البيانات الرسمية طرحنا سابقا اقتراحات بضرورة استقلالية الجهاز المركزي للإحصاء عن الجهاز التنفيذي أسوة بأدبيات استقلال القضاء و”استقلالية” البنك المركزي.
في كل الدول الناجحة، هيئة الإحصاء الحكومية مؤسسة رئيسية لأن بياناتها توضح حقائق المجتمع واتجاه حركة الاقتصاد. لذلك من المهم للغاية أن تكون بياناتها موثوقة وذات مصداقية تساهم في تدعيم فهم مجتمعي واقتصادي أفضل ولمساعدة المنتجين والحكومة والقطاع الخاص والمستهلكين والمواطنين على التخطيط على أسس معلوماتية صلبة اذ ان التخطيط المبني على معلومات مغلوطة يستحيل أو يقود الي نتائج مخيبة لان صانع القرار يتخذه في فضاء معتم من امامه وخلفه.
حول العالم، يحدث ان يحاول السياسيون الذين يسيطرون على الحكومة التلاعب بالبيانات الاقتصادية لتحقيق مكاسب سياسية للحزب المتنفذ أو المجموعة المهيمنة، وتعتمد درجة نجاحهم أو فشلهم على شيوع الديمقراطية وسلامة مؤسسات جهاز الدولة ودرجة حصانة الهيئة الإحصائية ضد الضغوط السياسية وعلى وجود رأي عام حر ونشط لا يسيطر عله خطابه هواة أو أصوات عشوائية.
وهذا يعني أنه للحصول على بيانات موثوقة، يجب تحويل الجهاز المركزي السوداني للإحصاء لهيئة وطنية مستقلة علي مثال استقلال السلطة القضائية. ويمكن تحقيق ذلك الاستقلال عن طريق سن تشريعات ووضع ترتيبات مؤسسية مستوحاة من تلك المعمول بها لضمان استقلال القضاء واستنادا على الإرث العالمي المتعلق بأفضل الممارسات في مجال الإحصاء والبيانات.
نؤكد مرة اخري علي كامل احترامنا للعاملين بالجهاز المركزي للإحصاء اذ يعملون في ظروف صعبة وبإمكانيات شحيحة لان جودة البيانات الإحصائية لم تكن من ضمن أولويات نظام الإنقاذ ولا النظام الذي ورثه الذي لم يبد اهتمام وربما لم يسعفه الزمن لمخاطبة المشكل.
ورغم تعقيدات المشهد ظل خبراء الجهاز يبذلون ما في وسعهم في الماضي وظلت مجهوداتهم جديرة بالاحترام النابع من وعي الظروف التي يعملون بها. لذلك فان كل التحفظات والتناول النقدي للبيانات الرسمية لا يقلل من احترامنا لمعظم العاملين في الجهاز الذين يشتغلون في ظروف غير مواتية سياسيا وفي ظل عدم استثمار مزمن في بناء قدرات الجهاز وعدم اهتمام بتفعيل استقلالية الجهاز للحفاظ علي جودة البيانات وبناء مصداقيتها السياسية والفنية.
نرفع القبعات (الطواقي) للعاملين بالجهاز ولكل العاملين في الخدمة المدنية الذين رابطوا في ظل ضغوط مادية وسياسية ومهنية يشيب لها الولدان قبل العقيقة ونعني بالنقد قادة جهاز الدولة ورؤساء الوزراء ووزراء القطاع الاقتصادي وننتظر منهم مخاطبة مشكلة البيانات والانتباه للأهمية الخاصة للجهاز المركزي للإحصاء وضرورة الاستثمار في بناء قدراته وتحقيق استقلاله عن الجهاز التنفيذي.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …