هكذا رثى مصطفى سيد أحمد نفسه قبيل وفاته
الزاكي عبد الحميد أحمد :
سرديات
الموتُ لا يوجعُ…الموتى،
الموتُ يوجعُ.. الأحياء،
أيها الماضي لا تُغَيِّرنا كلّما ابتعدنا عنك،
أيها المستقبل لا تسألنا:
من أنتم؟ وماذا تريدون؟
فنحن أيضاً لا نعرف!
أيها الحاضر! تحمَّلْنا قليلاً،
فلسنا سوى عابري سبيل
ثقلاء الظلِّ!
بهذه الكلمات الفلسفية، العميقة المعنى، والمقتبسة من كلام محمود درويش، أهداني صديق عزيز، من الدوحة، في مطلع النصف الثاني، من تسعينيات القرن الماضي، مقطع فيديو، حمل ما حمل من وجع عميق الغور، قبل أن نستعذبه نحن وجعاً، ويستعذبه آخرون، فلسفةً، من العرب والعجم..
*قاعة مارلين* Marlyn Hall قاعة للمؤانسة في نادي الشركة، التي كنت اعمل فيها في سلطنة عمان..
قبل شهر كامل كنا نحجزها ل *جلسة الصفاء والمؤانسة* الراتبة التي كانت تنظمها كلَّ أول شهر، مجموعتُنا التي بدات باثني عشر شخصاً، قبل أن تتوسّع وتضم نحو مئة شخص..مجموعة
تربط بين اعضائها هواية مشتركة في الأدب بأي شكل أتى: هولندي وزوجته، بريطاني وزوجته، انا وزوجتي، هندي وزوجته وعمانيين وزوجتيهما..هكذا بدأت في مطلع تسعينيات القرن الماضي..
روبي Ruby بريطانية، كنتُ استكتبتُها من وقت لآخر في مجلة الشركة، التي كنت أرأس تحريرَها لسنوات..جاءت *روبي* لترافق زوجها لمدة عام قبل أن تعودَ للندن، لتقدم اطروحتَها، لنيل شهادة الدكتوراه في الادب الانجليزي، في جامعة لندن ذائعة الصيت..سيدة تعرف عن الادب الانجليزي وأسراره، ما لا يعرفه اعضاء حلقتنا..
*روبي* هي التي اقترحت ان تكون *فكرة الموت في الشعر* هي موضوع حديثِنا في تلك الامسية في قاعة مارلين Marlyn Hall ..
*أمسية صفاء ومؤانسة* تحت عنوان *فكرة الموت في الشعر* اعلنا عنها في نشرة الأخبار، التي تصدرها الشركة فأمّها كثيرون..
*توماس* مهندس في مجال الغمر بالمياه Water Flooding في حقول النفط، التي تنتج نفطا ثقيلاً شديد اللزوجة، اختار ان يحدثنا عن *فكرة الموت* كما عبّر عنها شاعر هندي في مرتبة *طاغور* ذيوعاً، اسمه:
*اشوك فاجبايي* Ashok Vajpeyi..العمانيان اختارا الحديث عن فكرة الموت بالتعويل على *يائية* مالك بن الريب وامرؤ القيس في قصيدته التي يقول فيها:
*أجارتنا إنّا غريبان ههنا*..
اما انا فلم اجد من الشعر السوداني ما يناسب الفكرة المطروحة، ولكني حددت، كخيار، أغنية *حسن عوض ابو العلا* التي تغنّى بها سيد خليفة بعنوان: *ولّى المساء..*
حين بدأ *توماس* حديثَه عن قصيدة شاعرهم *أشوك فاجبايي* كان الحضور أكثر من كل توقعاتنا..اكثر من سبعين شخص، من جنسيات مختلفة في شركة، يعمل فيها أكثر من خمسة آلاف موظف، يمثلون ٥٣ جنسية (بريطانيون، فرنسيون، هولنديون، افارقة، جزائريون، فنزويليون وغيرهم)..
استشهد *توماس* بابيات لشاعرهم تقول:
Like a bird,
Effortlessly, almost unseen
Will come one day
The messenger of Death
*سيأتي يوماً ما ، وبلا عناء،*
*رسول الموت،*
*سيأتي كطائر لا يُرى،*
*سيأتي دون عناء*،
*رسول الموت*..
بصوته الهاديء ووسامته وسلاسة طرحه، نال *توماس* استحسان الحضور بشكل لافت..
كان على الزميلين العمانيين ترجمة ما اختاراه من شعر *مالك بن الريب* و *امرؤ القيس*..
صفق لهما الحضور، وقوفاً، للجودة العالية لترجمة الأبيات التي اختارها كل واحد منهما، والتي أوصلت الفكرة لمتلقيها على أفضل ما يكون فن توصيل المعلومة.
*روبي* استشهدت بأبيات للشاعر الانجليزي الأشهر *جون كيتس* John Keats..تقول الأبيات التي اختارتها *روبي* لترسيخ فكرة الموت في الاذهان:
When I have fears
That I may cease to be,
Before my pen has gleaned my teething brain..
وترجمتها إلى العربية:
*اخشى ما أخشى*
*أن تخطفَني يدُ المنون،*
*و يراعي من دماغي، ما استقى كلَّ التياعاتي*
*وأشعارٍ تمور..*
قالت *روبي* إنّ كيتس كان يخشى أن يداهمَه الموتُ قبل ان يقولَ ما يمور في ذهنه من شعر، ومن التياعات يبثَّها لمعشوقته..
البريطانيون يقدِّسون *كيتس* لأنه لم يكن شاعراً لعصره فحسب، وانما كان شاعرَ عصرٍ حصدت فيه جائحة كرونا، أرواح آلاف الشباب ممن لم يكملوا العقد الثالث من العمر، تماماً كشاعرهم المعبود..
في الذكرى المئوية الثانية لوفاة كيتس، قال أستاذ الأدب الانجليزي المعروف في الاوساط الأدبية في اوروبا، البروفيسور ريتشارد مارجراف تيرلي Richard Marggraf Turley
خلال حفلٍ مختصر اقيم في فبراير ٢٠٢١، إن صدى قصائد كيتس عن فكرة الموت والشباب الذي اندثر، يتردد خلال هذه الفترة التي تتفشى فيها جائحة كرونا..
Keats poems of death and lost youth are resonating during Covid-19..
فلا غَرْوَ إذن، إن فاقت استجابة الحضور لحديث *روبي* كل التوقعات..
وسط هتافات وأكفٍ هدَّها التصفيق، أخلت روبي لي المنصة..صعدتً إلى المنصّة، وما معي ما كنتُ قد اخترتُه من شعر *حسن عوض ابو العلا* كتموذج لحديثي.. طلبتُ من الجمهور، أن يشاهدوا أولاً، ما تعرضه عليهم الشاشة الكبيرة المنصوبة على الجدار، على أن أحكي لهم التفاصيل لاحقاً ..
من الشاشة الكبيرة، أطلّ عليهم بشاربٍ كثيف، ووجهٍ متعب وعينين حزينتين، تقولان ما لا تهمس به شفتاه:
*في الأسى ضاعت سنيني،*
*وإذا مِتُّ اذكريني..*
*كل صداح على الأيك يغنيه حبيبُ..*
*وأنا بين الورى في هذه الدنيا غريبُ..*
*ليتها يا بلبلي يوماً*
*لنجواي يجيب،*
*ذهب العمر وما لي*
*من لياليها نصيب..*
شرحت للحضور حين توقف الشدو، الذي اعدته مرات ومرات نزولاً عند رغبتهم، ما المقصود بالأبيات التي شدا بها مطرُبنا، من كلمات الشاعر المصري *محمود علي شعبان*..اسهبت في الحديث عن معاناة مغنٍ، يعشقُ وطناً، يصادر حُنجرة كلِّ مَن عارض سياساتِه الخرقاء.. حدثتُهم عن معاناته من آلام الكُلى وعن زفراته الحرّى، في سبيل أن يستافَ قبل رحيله، حفنةً من تراب بلده، قبل أن يودِّعه إلى الأبد.. تجاوب معي الحضور بل وقاطعتني روبي أكثر من مرة، معلقة:
No wonder then, he’s so sad..obviously the lyric is one of regret and sorrow that the singer’s life is being ended..where words are restrained the eyes often talk a great deal..his eyes are telling the untold story!
وترجمة ما قالته هو:
*ليس من المستغرب ان يتسربله كل هذا الحزن! واضح ان الاغنية مترعة بحسرة تشي بافول نجم المغني ورحيله..حين يلجم اللسان فإن العيون تقول الكثيرَ بل الكثير جدا..عيناه تقولان ما لا تقوله شفتاه!*
شدا مصطفى سيد أحمد في تلك الأمسية، التي كان من بين حضورها صديقي، الذي اهداني مقطع الفيديو، والذي تربطه بزول ود سلفاب علاقة وطيدة، اقول شدا، وكأنه يرثي نفسَه..كأنه يودّع مجالسيه، تماما كما فعل *الخليل* في ثلاثينيات القرن الماضي، في دار *فوز* قبل سفره للقاهرة للعلاج مودّعاً ندماءه:
*ماهو عارف قدم المفارق*!
من يقرأ أبيات قصيدة الشاعر المصري محمود علي شعبان، حين يلقيها مصطفى سيد أحمد بعينيه قبل شفتيه، يدرك، لمَ هتف جمهور *قاعة مارلين* بحياة الراحل الجميل وحيّوه وقوفا ..
بعد اسبوعين من هذه الجلسة، جاءني خبر وفاته..أبلغت أعضاء المجموعة بالخبر الحزين..فقرروا تأبينه بطريقتهم:
قاعة مارلين، وشاشة يطل منها على الحضور، مصطفى سيد أحمد وهو يرثي نفسَه كما خُيِّل لي..
فكانت الدموع التي قالت ما لم تقله الألسن في ليلة التأبين تلك، حين اختتمت *روبي* كلمة المجموعة، في حفل التأبين، الذي فاق عدد الحضور فيه عدد المقاعد المخصصة لمئة شخص في القاعة:
If you are going to live, leave a legacy. Make a mark on the world that can’t be erased..
وهذا ما فعله مصطفى سيد أحمد..رحل وترك وراءه أثراً لا ينمحي من الذاكرة المجتمعية، ما بقي الزمن..
وجعٌ برحيله استعذبناه لأنه ترك أثراً، خلّده العربُ والعجمُ، ولو بقدر محدود..
تحياتي
-الزاكي عبد الحميد أحمد-
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …