‫الرئيسية‬ آخر الأخبار بين العقلية المرهفة والعقلية الصلبة: استقراء لمشروعية الثورة مجددا
آخر الأخبار - رأي - فبراير 6, 2021

بين العقلية المرهفة والعقلية الصلبة: استقراء لمشروعية الثورة مجددا

الحسن عبد العزيز :

كان شعار الثورة الفرنسية: (حرية.. سلام.. إخاء)؛ وشعار الثورة السودانية: (حرية .. سلام.. عدالة)، “إنها مصادفة محكمة”*!.
لا تبدو ثورة السودانيين – بأي حال – امتدادا لما عرف بثورات الربيع العربي التي بدأت من تونس منذ ما يزيد عن عشر سنوات، إنها تبدو أشبه بالثورة الفرنسية؛ في ضجرها بالنظام القديم بمؤسساته العاطلة عن الإبداع وخطابه العقيم، إضافة إلى تطلعها إلى تغييرات جذرية.
بعد انقضاء عامين، لا تبدو تطلعات السودانيين في ثورتهم تمضي إلى غاياتها. الوضع الأمني غير مطمئن، والاقتصاد على شفا الانهيار؛ حتى إن الدعوات للاحتجاج على انعدام الخبز والوقود تتجدد مطالبة بالتغيير مجددا.
لكن بعض المؤيدين للحكومة التي كونها تحالف اللجنة الأمنية، وكفاءات المهجر الحزبية؛ لا ترى في انعدام الخبز والوقود مبررا لإسقاط النظام. تربط هذه الفئة دوافع الثورة بتصوراتها المثالية والمجردة عن الحق والخير والجمال والتي تمنعهم من الثورة طلبا للخبز. تنتمي هذه الفئة – عن جدارة – لأصحاب “العقلية المرهفة”، كما أسماها الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس.
ويستدعي هذا مرحلة من مراحل الجدال الأبدي التي حدد الفيلسوف الأمريكي خصائصها في عبارة شهيرة له بأنها صراع بين “العقلية المثالية” أو المرهفة و “العقلية الواقعية” أو الصلبة. وبحسب ماذهب إليه كريل برنتون، في كتابه “تشكيل العقل الحديث”:
ففي رأي صاحب العقلية المثالية، خاصة إذا أمعن في تفكيره المتسامي، أن “المرء حسبما يفكر” (أي صورة من فكره)؛ بينما في رأي صاحب العقلية الواقعية: “كما يكون المرء يكون تفكيره، أو سيكون كذلك”، أي صورة لواقعه، خاصة إذا ما كان إنسانا عمليا أريبا – أي واقعيا -لكي نساوق بينه وبين سالفه. ولعل طبيعة الخلاف تبدو أكثر وضوحا إذا ما أخذنا مثالا محددا ملموسًا.
ففي أواخر القرن التاسع عشر احتدم الجدال بين المؤرخين الفرنسيين بشأن تفسير أسباب اندلاع ثورتهم العظمى عام1789 . وانطلقت شرارة الجدل إثر صدور كتاب في عام 1878 بعنوان: “الروح الثورية قبل الثورة، 1715- 1789″، لمؤلفة فليكسي روكان. ولولا هذا الجدل لما اعتبر أحد الكتاب عملا على جانب كبير من الأهمية والعمق. وطرح الأستاذ فليكسي روكان قضية مفادها أن ما حفز الشعب الفرنسي إلى الثورة – حقا – ضد سلطاتهم الشرعية لم يكن أفكارا عن حقوقهم وعن العدالة والمساواة، ولم يكن أفكار الفلاسفة “من أمثال فولتير، وروسو، وديديرو، ومونتسكيو، وسلفهم الإنجليزي العظيم جون لوك الذي لاقت أفكاره ذيوعا ونجاحا خارج بلاده بين الفرنسيين، على مدى جيلين. وإنما الذي حفز الفرنسيين إلى الثورة هو مظالم فعلية صارخة، ومعاناة حقيقية واقعة، وحرمان مؤكد. وقال روكان لقد ثارالفرنسيون حين عض الجوع بطونهم وخوت أكياس نقودهم (ولكنه – كمثقف فرنسي – صاغها على نحو أكثر تهذيبا) وألقوا بمسئولية ضائقتهم على عاتق حكومتهم. وأفاض المعلقون والنقاد في بيان محاسن هذا الرأي. واتفق أكثرهم على أننا إذا شئنا أن نفهم – حقا – سبب اندلاع الثورة الفرنسية فليس لنا أن نرجع إلى أعمال الفلاسفة الذين كانوا في نهاية المطاف يتعاملون مع كلمات وألفاظ فقط، خاصة وأن جمهرة الفرنسيين من عامة الناس لم يعوا ما تضمنته تلك الكلمات الضخمة الرفيعة. وإنما علينا أن نرجع إلى سجلات الحياة اليومية، والحياة الاقتصادية عل وجه الخصوص، فهناك نجد العلة الحقيقية التي حركت وأثارت عامة الناس. ونزيد الأمر تخصيصا حين نقول إن علينا أن نقصد اكتشافا هاما للمؤرخين ونعني بذلك سجلات الشكاوي الرسمية ( Cahier، e، oleances ) حيث نجد سلاسل من الوثائق التي
سطرها في المدن والقرى خلال عام ١٧٨٩ المواطنون الذين اجتمعوا لإسداء المشورة لنوابهم المزمع اختيارهم أعضاء في “مجلس الطبقات” وهو اﻟﻤﺠلس النيابي القديم للنظام الملكي في العصر الوسيط، وكان قد اجتمع آنذاك للمرة الأولى منذ عام 1614 وإذا ما تصفحنا تلك السجلات سنعرف عن يقين أنَّ ما أثار سخط سكان فرنسا – حقا – لم يكن الافتقار إلى الدستور، ولا التخلف السياسي وجور الحكومة الملكية المطلقة إذا ما قورنت ببلد حر مثل الولايات المتحدة في عالمها الجديد، ولا أي شيء آخر في عالم الأفكار. وإنما ما أثار سخطهم هو تلك الضرائب الباهظة التي فرضتها عليهم السلطات تعسفا، والطرقات السيئة الحقيرة، واﻟﻤجاعات المتوالية، وكل ضروب الالتزامات والضرائب الإقطاعية التي أضحت الآن أمرا باليا، والقيود المعوقة التي فرضتها الحكومة على المشروعات – أي باختصار كل تلك المظالم الصارخة المتصلة التي أثارت – حقا – غضبهم.
ولكن لم يمض هذا الرأي دون اعتراض من جانب القائلين بأن الفرنسيين حركتهم أمور أسمى، أمور من نوع الأفكار التي أجملها الشعار الشهير “حرية، إخاء، مساواة”. بيد أن الرد الرئيس ظل غائبا حتى حل عام 1906. عندما أصدر أستاذ آخر هو الأستاذ ماريوس روستان كتابا تحت عنوان:
“الفلاسفة واﻟﻤﺠتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر”. ويعد رد روستان في ضوء مناخ الرأي السائد مع مطلع القرن، أكثر الردود توفيقا، ذلك لأنه لم يشأ الالتزام بالموقف المثالي أي موقف “العقلية المرهفة”، (Tended-minded)، الذي يقف على نقيض الرأي المادي للأستاذ روكان، وإنما آثر روستان التأكيد على أنَّ أفكار الفلاسفة ظلت تعمل أثرها داخل مجتمع يعاني من مظالمَ ماديَّةٍ وحَّدت صفوف الفرنسيين من أجل العمل على نطاق قومي. لقد حاول روكان جاهدًا أن يبين أنَّ الاستياء والسخط والمعاناة الحقيقية أثارت منذ عام 1715 فصاعدا عدم استقرار مزمن في فرنسا متمثلا في اضطرابات؛ إذ لا أظن أن مهندس سيارات يتراءى له أن يجادل ليثبت ما إذا كان البنزين أم الشرارة هي السبب في دوران آلة الاحتراق الداخلي، ناهيك عن أيهما أول وأيهما ثان: البنزين أم الشرارة. ولا أحسب أن مؤرخا للأفكار يعنيه أن يجادل فيما إذا كانت الأفكار أم المصالح هي التي تحرك الناس في علاقتهم باﻟﻤﺠتمع، ولا أيهما يأتي أولا. ذلك لأنه بدون كليهما، البنزين والشرارة، لن تتحرك السيارة، وبدون كل من الأفكار والمصالح (أو الشهوات أو الدافع أو العوامل المادية) لن يكون ثمة مجتمع بشري حي وفعال.
وقد رأيت أن أسوق حديث برنتون بنصه لأسباب ثلاثة:
أولًا لأنه محرر بشكل جيد في الترجمة.
ثانيا لوثاقة صلته بالمرحلة التي تمر بها الثورة السودانية.
ثالثا تحريًا للأمانة العلمية والدقة.
أخلص من هذا كله إلى أن الخبز لا ينفصل عن الكرامة بأي حال. وبدلا عن تبرير الفشل في إدارة ملف الاقتصاد علينا البحث عن حلول لمشكلاته.

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …