
حول مآلات سياسة توحيد سعر الصرف: قراءة غير متفائلة
بكري الجاك :
وجود سعرين للصرف للعملة المحلية مقابل الدولار ليس أمرا جديدا علي السودان و ليس غريبا علي العديد من الدول النامية منذ العام 1973 حينما أعلن الرئيس الامريكي نيكسون أن الدولار الامريكي لم يعد بالامكان تحويله الي ما يعادل قيمته بالذهب و كان ذلك التصريج بمثابة بداية النهاية لنظام بريتون وودس Bretton Woods الذي تأسس كليا في عام 1960، وفي ظل نظام بريتون كانت هنالك اسعار محددة وثابتة لكل عملات الدول مقابل الدولار و كان الدولار هو العملة الأوحد التي يمكن تحويل قيمتها الي ذهب. النظام الذي سبق نظام بريتون كان يقوم علي ربط عملة كل بلد بمقابل من الذهب Gold Standard وابان الحرب العالمية الأولي تخلت عنه كل من المانيا و بريطانيا و امريكا في فترات مختلفة و قررت طباعة عملاتها دون توفير معادلها من الذهب الأمر الذي خلق حالة عدم ثقة في قدرات هذه الدول في الايفاء بالتزاماتها. المبدأ في نظام الذهب هو أن تتمكن كل دولة من تبديل عملتها الي ذهب وهو ما يعزز الثقة في التجارة الدولية، و بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تأكدت صعوبة العودة الي نظام ربط العملات بالذهب وهو ما قاد الي تبني نظام بريتون وودس في عام 1944 و الذي دخل جزئيا حيذ التنفيذ باسعار محددة و ثابتة لكل العملات في عام 1958. وفي آواخر الستينات من القرن الماضي ومع التوسع في حرب فيتنام حدث ارتفاع في معدلات الكتلة النقدية في أمريكا مما أدي الي ارتفاع معدل التضخم من 4 الي 9 في المئة في عام 1968 الأمر الذي ادي الي تكاثر المضاربات في أسعار العملات في اسواق المال العالمية مما دفع العديد من الدول المطالبة بتخفيض قيمة الدولار، و في اوائل السبعينات ومع ارتفاع الطلب علي العملات الاوروبية نتيجة لتزعزع الثقة في الدولار لم يكن هنالك مناص من المزيد من التخفيض لقيمة الدولار، وهذه البراكين كانت نهاية لنظام بريتون وودس.
في عام 1976 قام صندوق النقد الدولي رسميا بتبني نظام التعويم Floating System لأسعار العملات المحلية حيث سمح للدول الاعضاء بالدخول في أسواق العملات العالمية، وقد تم التخلي عن الذهب بشكل كامل و خصصت كوتات من العملة الصعبة للدول النامية. و منذ عام 1973 الي يومنا هذا انتقد نظام التعويم لتسببه في العديد من الكوارث المالية حول العالم، من أمثلتها أزمة فقدان الثقة في الدولار في عام 1978 الي عام 1979، أزمة البترول في عام 1979، تراجع اسعار الدولار بشكل سريع أمام الين الياباني و المارك الالماني و في ذلك الزمان كانت اليابان ثاني اكبر اقتصاد و المانيا رابع أكبر اقتصاد في العالم، انهيار المنظومة المالية الاوروبية في عام 1992، أزمة العملات الاسيوية في عام 1997، الازمة المالية العالمية في عام 2008 الي 2010. و قبل عامين كنا قد شهدنا تأرجح العملة التركية وسط مخاوف بانهياها نتيجة مضاربات في اسواق الصرف العالمية. و برغم سلبيات نظام التعويم الي أن العديد من الخبراء الاقتصاديين يرون فيه ايجابيات من شاكلة أنه أعطي الدول استقلالية مالية مقارنة بنظام بريتون الذي أيضا لم يكن يسمح لاي دولة بمعالجة عجز الميزان التجاري، فاذا أصبحت واردات أي دولة أكثر من صادراتها ليس هنالك سياسات داخلية يمكن اتباعها لمعالجة هذا الخلل دون تدخل مباشر للصندوق، و اخيرا نظام التعويم يعطي مرونة في الآليات السياساتية التي تستخدمها الدول في التعاطي مع الكوارث الاقتصادية مثل سعر الصرف و حجم الكتلة النقدية.
هنالك نظام آخر للدولة كي تقدر سعر الصرف لعملتها ويعرف هذا بنظام Pegged Exchange Rate و هو نظام سعر الصرف المربوط و عادة ما تقوم الدولة بربط سعر عملتها بالدولار او اليورو أو اي عملة أخري ذات قيمة في أسواق المال العالمية و اتخاذ قرار الربط ليس محض أمنيات فلا بد أن تتوفر له شروط علي رأسها احتياطات كبيرة من العملات الصعبة و ضمان استمرار هذه التدفقات النقدية و هذا ما يبين أن الدول التي تلجأ الي ذلك عادة هي دولة نفطية أو لها مصادر ريعية ثابتة تمكنها من التنبوء بعائداتها من العملات الصعبة، و ميزة نظام الربط أنه يحقق استقرار مثالي في سعر الصرف الأمر الذي يمكن من التنبوء بالمستقبل و هذا أمر مهم للتبادل التجاري و لجلب استثمارات خارجية للاسواق المحلية. هنالك نظام آخر و يعرف ب Currency Board اي مجلس العملة وفي ظل هذا النظام علي الدولة التي تقدم علي استخدامه أن تلتزم و تلزم نفسها بتغيير عملتها المحلية عند الطلب الي اي عملة صعبة وفق سعر صرف ثابت و محدد مسبقا و لكي يتمكن البلد من تطبيق هذا النظام لابد أن يكون بحوذته ما يعادل قيمة كل عملته المتداولة بعملة صعبة ( غالبا دولار) بنسبة مئة بالمئة، ومن الواضح لهذا النظام لكي ينجح لابد أن يكون للدولة رصيد ضخم من العملات الصعبة التي توازي حجم الكتلة النقدية السائدة و هو شبيه بنظام الذهب فقط باستبدال الذهب بعملة صعبة، كذلك هذا النظام لا يصلح في ظل وجود تضخم عالي ناهيك عن تضخم انفجاري مثل الذي يعانيه السودان.
وفي داخل نظام التعويم هنالك ما يعرف بال Floating Exchange Rate و هنا تقوم الدولة بترك سعر عملتها لأمر السوق الذي يحكمه العرض و الطلب و المضاربات في أسواق المال العالمية، و هذا ما تعتزم حكومة المرحلة الانتقالية تطبيقه قريبا و سنعود للحديث عن حجتنا في احتمالات فشله لاحقا. هنالك ايضا ما يعرف با Managed-Floating System or Dirty-Floating System اي نظام التعويم المدار وهذا يعني أن الدولة تقوم بالمحافطة علي سعر عملتها المحلية مقابل عملات أجنبية أخري في مستوي معين و تتدخل في حالة خروجه من ال range أو المدي المحدد و خير مثال علي ذلك اليابان و الصين ثاني و ثالث اكبر اقتصادين في العالم. وسائل التدخل تشمل عرض المزيد من العملة في حال ارتفاع الطلب عليها الأمر الذي يؤدي الي خفض قيمتها و يلحق ذلك بخفض سعر الفائدة الأمر الذي يعني تقليل كلفة الاستدانة مما يعطي فرصة لعرض كميات اكبر من العملة في الاسواق و في حال تراجع قيمتها اي انحفاض الطلب عليها أو عرض كميات من الدولار لرفع الطلب عليها تزامنا مع زيادة سعر الفائدة لرفع كلفة الاستدانة من البنوك الأمر الذي يقلل من عرض العملة المحلية، هذه الخطوات تحافظ علي سعر صرف مستقر رغم انه مدار. و لكي تتمكن الدول من فعل ذلك لابد أن يكون لديها أرصدة ضخمة من العملات الصعبة و لابد أن يكون اقتصادها الكلي مستقر لفترات طويلة عبر تحقيق فوائض في الميزان التجاري.
اخيرا أو آخر العلاج (الكي المالي) الDollarization أي الدولرة وهي اللحظة التي تتخلي الدولة فيها رسميا عن استخدام عملتها الوطنية كوسيلة للتبادل ومخزن للقيمة و تستعيض عنها بالدولار و عادة هذا الأمر لا يتم بقرار اجرائي سياسي ذات مساء بل يسبقه انهيار شامل في العملة المحلية و فقدان الثقة في العملة الوطنية لأنه يكون قد أصبح من المستحيل التنبوء باي عمليات ربح او خسارة في حال الاستمرار في استخدامها من فرط تأرجح قيمتها، و عادة حينما تلجأ الدول في تبني الدولرة بشكل رسمي يكون السوق قد بدأ العمل بها بالفعل. و لمعالجة مشاكل التضخم الانفجاري تبنت كل من الاكوادور في عام 2000 و زمبابوي في عام 2009 الدولار كعملة رسمية اضافة الي بنما و السلفادور باشكال أخري، ومع قلة الادلة العملية هنالك شبه اجماع في أن الدولرة تساعد في السيطرة علي التضخم اذ أن اسعار البضائع سترتبط مباشرة بالأسواق العالمية مما يمكن أن يساهم في تحقيق استقرار نسبي للاقتصاد الكلي، و لكن للدولرة نتائج كارثية علي الغالبية العظمي من الناس و هي أيضا تعني التخلي عن السيادة الوطنية التي تعتبر العملة الوطنية احدي رموزها، و الاسوأ هو صعوبة التنبوء بنتائج الانتقال من الدولار و العودة الي عملة محلية لاحقا.
من حيث ابتدأت اعود لقول هنالك العديد من الدول التي لها سعر رسمي لعملاتها مقابل الدولار و سعر غير رسمي او ما يعرف بالسوق الموازي (الأسود) و كثير من الدول تتغاضي عن محاربته باجراءآت قانونية و تعمل علي اصلاحات هيكلية شاملة طويلة المدي اذا ما كان الفرق بين السعرين ليس كبير أو حتي اذا كان وجود سعرين لا يؤثر علي الاداء الكلي لاقتصاد البلاد. و هنالك دول ايضا قامت بتوحيد السعرين عادة بتعويم سعر العملة و ترك مصيرها للعرض و الطب في سوق العملات الاجنبية. مصر فعلت ذلك مرتين في العشرين عاما الماضية أولهما في عام 2003 في أعقاب محاولة ربط ممرحلة غير موفقة بدأت في يناير 2001 وثانيها في 2017، و كانت التجربة ناجحة في المرة الأولي و الي حد مافي الثانية (من المبكر الحكم)، في كليهما أدت عملية التوحيد الي استقرار في سعر الصرف لفترة طويلة و حتي الارتفاع في سعر الصرف كان نسبيا و تدريجيا ففي الفترة من 2003 الي 2008 تراواح سعر الدولار ما بين اربعة الي سبعة جنيهات و استمر الأمر الي حين تفاقم الأزمة المالية العالمية التي أعقبتها تحولات سياسية كبري في مصر كان طابعها عدم استقرار سياسي و كان لابد له أن تؤدي الي افرازات اقتصادية و اجتماعية. و في الحالتين كان البنك المركزي يتدخل في حالة حدوث اضطرابات من قبيل ارتفاع أو انخفاض حاد أما عبر توفير عرض للدولار في حالة ارتفاع الطلب علي الدولار أو تراجع الجنيه بتوفير زيادة في الكتلة النقدية في حين انخفاض الدولار بشكل كبير و ربط ذلك بسعر الفائدة. تجربة مصر بدأت كتعويم مدار الي أن تحقق استقرار نسبي و ظل البنك المركزي في حالة يقظة لتلافي اي مفاجاءآت، بمعني آخر و بخلاف تجربة الصين و اليابان باعتبارهما تعويم مدار ومرن علي الدوام، يمكن القول أن أي تعويم لابد أن يكون تعويم مدار الي حد ما لكنه ايضا يأخذ بمنطق العرض و الطلب.
لا أري كيف يمكن أن تنجح عملية التعويم التي بدأت في السودان فعليا، فليس للسودان احتياطيات كبيرة من العملات الصعبة التي يمكن أن بعول علي تواصل تدفقاتها، علمت أن حكومة السودان تعتقد أنه بامكانها تطبيق سياسة التعويم فقط بتوفر 750 مليون دولار و لعمري أن صحت هذه المعلومة فهذا سوء تقدير كبير سيكون له ما بعده. في ظني ما لم يتوفر للسودان ما يعادل 5 الي 6 مليار دولار أو ما يعادل ايراداته السنوية سيكون لهذه الخطوة نتائج كارثية. علمت أيضا أن الحكومة ستتحصل علي ما سيزيد عن المليار دولار كمساعدات و قروض من الولايات المتحدة و البنك الدولي ودول اخري صديقة، وأعتقد غير جازم أن هذه العملية ستفشل للآتي: أولا السودان بلد منهك ليس له قدرة في السيطرة علي حدوده أو حتي السيطرة علي مطار الخرطوم و هذا يعني تسريب لاي عرض من الدولار في الاسواق الي دول الجوار التي ظل يحصل بعضها علي عملات صعبة من أسواق السودان، ثانيا حسب ما علمت أن اكثر من 90 في المئة من الكتلة النقدية في البلاد تتواجد خارج الجهاز المصرفي و أشك أن هنالك من يعلم علم اليقين المعرفي حجمها و كل ما سمعته من حجم الكتلة النقدية هو محض تقديرات، ثالثا ليس هنالك سبب موضوعي للاعتقاد أن عمليات تزوير العملة أو طباعتها بشكل فوضوي كانت و ما تزال مستمرة، رابعا ان حكومة السودان ليس لها تدفقات مضمونة يعتمد عليها من العملات الصعبة سوي المساعدات و الوعود بمساعدات، و اخيرا الضعف المؤسسي في كل جهاز الدولة.
حسب ما أري أن ما سيحدث أن سعر الدولار سيصل الي ارقام خرافية خلال الايام الأولي للتعويم الرسمي و سينعكس ذلك علي أسعار كل شيء حتي النبق اذ ان كل مدخلات الانتاج بجانب العديد من السلع يتم استيراداها، الايجابي المؤقت هو خروج الحكومة من الطلب علي الدولار بحصولها عليه وهذا سيساعد مؤقتا وقد لا تحتاج أن توفر عرض للدولار من احتياطاتها للدفاع عن الجنيه ولكن ما أن تكتمل عملية استيراد السلع الضرورية سيبدأ تآكل هذه الاحتياطيات علي قلتها وسيعاود الدولار في ارتفاعه الجنوني فهنالك بعض القوم بايديهم عملات سودانية لا طائل لها و لا قيمة لها و سيشفطون أي دولار يتوفر في الاسواق و عندها سيتواصل انهيار الجنيه مقابل الدولار و سوف لن يكون هنالك خيار أمام الحكومة سوي ترك الأمر لفعل السوق و المعجزة السماوية أو التدخل و فقدان جزء عزيز من هذه الاحتياطيات التي سيبتلعها السوق في ثواني. وفي هذه الاثناء سيفقد الناس الثقة في الجنيه و ستبدأ عملية دولرة ذهنية لحساب كلفة اي شيء حتي ولو لم يتم التبادل فعليا بالدولار، و عندها يكون السودان قد دخل في مرحلة سنة رابعة زمبابوي اي أن قيمة الجنيه بكل فئاته أرخص من الورقة التي طبع عليها و ربما تكون أقل من قيمة لفحم، و مع جفاف الاحتياطيات سيعود بنك السودان لمواصلة الطباعة لتمويل العجز الأمر الذي سيزيد من التضخم و استمرار ارتفاع الدولار، و حتما ستكون هنالك تبعات سياسية و اجتماعية لكل هذه العملية من فقر و تشرد و عوذ و غياب للأمن. خلاصة القول أنه من دون احتياطات ضخمة من العملات الصعبة و دون جهاز دولة فعال قادر علي السيطرة علي حدوده و منافذه و دون السيطرة المتكاملة علي الكتلة النقدية و حجمها و استقرار نسبي في اداء الاقتصاد الكلي و دون فعالية للبنك المركزي و الجهاز المصرفي وشروط أخري لا مجال للخوض فيها هنا لابد لهذه السياسية من أن تفشل و أتمني ان اكون علي خطأ.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …












