‫الرئيسية‬ آخر الأخبار عم عوض: جيفارا الشاطرابي
آخر الأخبار - رأي - فبراير 12, 2021

عم عوض: جيفارا الشاطرابي

عبد الله علي إبراهيم :

(إلى وداعة الله عوض “ود الكوة ” ابن عمي عوض الذي غادرنا قبل سنة إلى الرحاب. كانت داره نزلي متى زرت عطبرة بعد رحيلنا منها. وانعقدت بيننا محبة يعكر فقده صفائي).
أغرق النيل جزيرة الشاطراب الواقعة بعمودية جلاس القديمة في تاريخ ربما سبق بداية القرن العشرين أو تلاه بقليل. وهذا ثأر الماء من الطين. فهو يُلبس الجزر قميصه (في لغة عبد الحي) ثم يفترسها في قاع النهر ووحله. ولكن بدا لي جدل النهر والجزيرة بخلاف ذلك في مسرحيتي “الجرح والغرنوق” التي كتبتها في سبعينات القرن الماضي واسترجعت فيها بعضاً مما انطبع في ذاكرتي من عطلتي الصيفية الأخيرة في البلد عام 1961. ومن أقوى تلك الانطباعات ما ثار من خلاف حول ملكية سواقي جزيرة الشاطراب بعد أن لفظها النيل مرة ثانية، أي “رقدت” في اللغة السائرة. وجاء إلى الجزيرة قاض تسوية خصيصاً للنظر في نزاعات الملكية ولجاجها. وحضرت طرفاً من تلك جلسات فض النزاع.
استخلصت مسرحيتي النهر والجزيرة من ضوضاء الملكية وصكوكها المسلولة ومزاعمها عرضاً وطولاً. فصورت ما بينهما كعشق تطفلت عليه الملكية الفردية ونفثت فيه سمومها وضرجته بالشقاق. فتجد الفتاة في المسرحية تستعير جدل الجزيرة والنهر لتبوح ما بينها وبين حبيبها:
أنا الجزيرة، وحبيبي النهر. أنا نحت يديه المليئتين بالطمي وعشب صدره الفارع. يأخذني حبيبي في ذراعيّ موجه في فورة الشبق والفيضان. يذوبني. يخفيني في ثيايه المبتلة. ولسنوات أظل أسيرة الغياب والدوار والقبل. اتسقط بأنفي عطر منابعه الاستوائية وعرق وحشته الصحراوي.
يفتقدني القرويون حين يغرق حبيبي علامات ملكياتهم الصغيرة التي تدمي جسدي. تغتم الوجوه. تبور صكوك التملك في الأيدي. تسقط كسور الميراث العشرية. وتستلقي المدى على الأذرع كالسحالي الميتة. ويتلاشى تاريخ كامل من الحساب والثأرات.
وأرتوي أنا من حبيبي، من دعك خصل شعره، من مذاق الشمس والقمر والرياح في شفتيه. ثم يرفعني حبيبي ليهديني للشمس بعد سنوات من المتع العنيفة والناعمة والرائعة. قطرات الماء حَبَبُ على ذراعيه المضفورين من نشيج السماء وابتهالات الأرض.
أوتاد القرويين مدى على حرير ظهري. رائج سوق الصكوك. ومبرور الخلف من السلف بأجزاء كسور الميراث العشرية. تستيقظ السحالي الميتة في انتظار بادرة خصام لكي تلوث صدر حبيبي الجميل بالدماء المسكونة بالحمى والشهوات والحزازات. تبدأ دورة جديدة في تاريخ من الحساب والثأرات.
وكانت تلك الدورة الجديدة قد بدأت بالفعل خلال عطلتي كما سبق القول. وكان بطلها عندي هو عمي عوض وداعة الله ود عباية الذي استفدت من بعض لغته وعزائمه في مسرحية أخرى هي “السكة الحديد قربت المسافات”. وعوض هو ابن خالة الوالد. فهو ابن خادم الله بت علي ود عبد العال والوالد ابن زينب. وعبدالعال هو الذي تسمت به قرية العالياب بالغرب بين كورتي والغريبة. وكان عوض يود الوالد جداً. ويفتقده لا يغيب عنه أكثر من يومين أو ثلاثة. ثم يحل علينا بقميص بلدي وسروال وعمة ناصعة. لا تفارقه عصاة لها إيقاع على الأرض وهو يلقي الكلام على عواهنه. وكان لا ينادي الوالد إلا بعلي أفندي حين كان ما يزال بخدمة الحكومة ثم أصبحت حاج علي حين استعفى.
ويبدو أن محنة عوض والوالد تعود إلى نشأتهما معاً في العالياب ثم عملهما في محطة عطبرة: كان الوالد ناظراً للمحطة وعمي عوض رئيس طلبة المخازن بها. ومما حيرني طويلاً هي تلك الرحلة الغامضة التي حملت جدي إبراهيم للبقاء بالعالياب بعد الزواج من أهله آل عبد العال بعيداً عن أهله الشقتاب بجزيرة أم درق. بل باع جدي ميراثه من الأرض. وهذه حماقة كبيرة كانت وماتزال. ولا بد أن هناك من أساء إليه. فقد بلغني أنه كان غضوباً جداً. وقد توثقت علاقتي بهذا الجد الوحيد الذي لم أره بفضل الغربة بين الأمريكيين.فهنا أصبح اسمي “مستر إبراهيم”. فأصبحت سيرته بعض شاغلي. وآمل أن افرغ مما بيدي من مشروعات لأكتب روايتي عنه.
لم يكن بيع جدي للأرض مما غفرته الوالدة جمال لجدي وذريته وهي المؤرخة المضاد للشقتاب أهلي. وكانت ما تفتأ تذكرنا، كيداً للوالد، أن جدنا إبراهيم “طلعكم عرب”. و”عرب” هنا بمعنى خلو طرفنا من الطين. وكانت الوالدة الإزيرقابية من البرصة في خفض من الطين ضفافاً وجزائر: “من بت الجزيرة لكافوته” وسواقي بلدتها البرصة. ولم يكن يبدد غلواءها سوى عمي عوض. كان يدق عصاه بطريقته الفذة ثم يؤرجح رأسه ناظراً إلى الأرض يتفرس في وجوه من حوله طلباً للمناصرة قائلاً :” إنت يا جمال البرصة دي قايلاها شنو. البرصة دي ما باء ساكت”. ولا يعرف أي منا بالضبط ما كان يعنيه عم عوض بأن البرصة باء ساكت. كلام والسلام. ولكنه كان يجد أحياناً ويقول لها حين تستخف بأهله “العباياب” (وهم قسم من الشاطراب) إنه من ملوك أبكر. وقد قرأت في كتاب كروفورد عن تاريخ السودان الوسيط أنه كان للبديرية مملكة بالدفار وأبكر القريبتين من دنقلا العجوز. ولأهلنا اعتقاد طري بأن أصلنا بديرية جئينا لعمودية جلاس من دنقلا وامتلكنا دارها عنوة. يكفي أننا ما نزال ندعو متى دعونا ب “حاج ماجد وحاج محمود” ممن قبابهم ظاهرة تزار بدنقلا. بل أن ابن عمي اسمه حاج ماجد من فرط شدة ذكرى دنقلا فينا.
كان عم عوض شاطرابياً ولكنه شديد الاعتزاز بأنه “عبايابي” و”عاليابي”. وكان لا تعجبه من الشاطراب في عطبرة الداخلة استسلامهم لقيادة الطمبلاب: حاج عطا وحاج إبراهيم. وعطبرة الداخلة هي دار الشاطراب بعيداً عن جزيرتهم التي غرقت. فقد اقبلوا على العمل بالسكة الحديد حين زلزلهم ثأر الماء على جزيرتهم وأخلى طرفهم من الأرض. وبالداخلة زاويتهم المركزية. وقد نزلوا بالداخلة أهلاً على جعلييها من شيعة العمدة السرور السافلاوي. وقد آخت بينهما رابطة الختمية برغم دراما إثنية من الخلاف والمواجهات كنت طرفاً في واحدة منها في منتصف الخمسينات ولا ناقة لي ولا بعير. فما أنا جعلي ولا شاطرابي وإن كانوا بالنسب لحمة إمرأة. وأتمنى أن يعكف داخلابي نجيض على كتابة هذا التاريخ من الخصومة المؤدي إلى الإلفة تذكرة لباعة الفتنة وفارشيها على الأرصفة الآن. فالناس من طين يعكرون ويصفون. والداخل بينهم مارق.

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …