‫الرئيسية‬ آخر الأخبار طَلْحَة التِشِّكْ
آخر الأخبار - نصوص - مارس 13, 2021

طَلْحَة التِشِّكْ

سيد أحمد إبراهيم :

تصاعدت إلى السماءِ أبخرةٌ رماديةٌ شفافةٌ كَقِشْر البصل الصبي في ذات ما قبل حصاد ، سماء منتصف اليوم العادي تلبدت بدخان متراكم بعضه فوق بعض ، و له ألسنة حادة تشق صدر اﻷفق لتعلن نفسها الحدث اﻷهم بين ضجة الناس تلك . المكان مغطى بالكامل بأشجار نخيل كثيفة متشابكة الجريد بألوان متداخلة بين اﻷخضر الناضر و اﻷغبر الذابل ، و رائحة الطمي تجد مكانها من اﻷنوف مباشرة بعد وصول النيل إلى مكان قريب من مكان الدخان ، فالوقت و قت خريف و الكون الصغير هذا يتهيأ لفيضان أطرش .
إحترقت وسط غابات النخيل ، الطلحة الوحيدة التي تسكن المكان منذ بلوغ اﻷرض سنها المرتجى ، فكانت نبتاً حلالًا أنبت بعده ما أنبت ، بجذعها الضخم و رأسها الذي تحمل فوقه أوراقها الصغيرة بلونها الأخضر المصفر ، تتوزع فروعها على شكل مظلة كبيرة لتعطي أكبر مساحة ظلية ، وتتدلى من كل فروعها حبات القرظ السوداء بسلاسلها المتصلة التي يسقط على الأرض منها ما أكمل عمره الصغير و ثقل حمله على الفروع المتلاصقة و المتشابكة في في الأعلى ليكون ذلك هو أفق المكان ، فالطلحة هنا هي المنتهى الذي لا نهاية بعده ، سوى هذه النار الهائجة في أفرعها ، إحترقت و تصاعدت أبخرة رمادية اللون إلى وجه السماء ، و بكونها أبخرة دخانية منبعثة من إحتراق طلحة عتيقة ، فقد تسارع الرجال خفافا من كل جحرٍ و وادّ ، ليس فقط لأن السماء تحولت إلى اللون الرمادي ، بل كذلك لأن رائحة دخان الطلحة صفعت أنوفهم و بعض أشياءهم ، تسللوا جميعا إلى المكان المسمى ب’التِشِّك’ حيث تتشابك ست نخلات طوال و تتشارك جريدها المنسدل و تجلس أسفلهن الطلحة التي تحترق اﻵن . إعتلت و جوههم جميعا أمارات الذعر و القلق و بدوا كأنما لهم نفس الشكل و نفس الجلباب الملطخ بطين جف على اﻷطراف و نفس الطواقي المخرمة من اﻷعلى ، فتحوا أفواههم و هم ينظرون الى الطلحة و هي تحترق ببطء و تصدر صوت طقطقة من أكل النار للفروع الجافة ، و حتى تلك اللحظة لم يحدث أحدهم اﻵخر عن شئ .
لم تمر لحظات قليلة إلا و كان جميع الرجال البالغين متجمعين تحت الطلحة و إمتلأ ‘ التِشِّك ‘ بالحديث الهامس و الهمهمات غير المفهومة الصادرة من أناس كل ما يجمعهم هو الحياة ، فكانت الهمهمات ضاجة بهدوء و مليئة بالحياة كأنها تعترض على هذا الموت الذي يحدث الآن ، جميعهم يعرفون أن هذه اللحظة ستخلد في ذاكرة المكان و سيتحدث بها الناس جيلا بعد جيل ، و لكن لم يحاول أي منهم أن يقلب الكفة و يرجعها للمعتاد ، فبإمكانهم اﻵن أن يسرعوا بإخماد النار التي تلتهم الطلحة ، لكنهم وجدوا أنفسهم يقفون على جمر من المواقف و آثروا أن يبقوا هامدين هكذا تسري بينهم همسات تصعد حينا و تخبو حينا يتفرجون على طلحة التشك العتيقة و هي تتسرب من بين يدي اﻷرض . كانت أصوات الرجال المتهامسين تختلط بصوت النار و هي تئز بين الأوراق اليابسة و اﻷشواك البائسة التي لم يسبق أن مارست دورها كأشواك ، و تتساقط على اﻷرض حبات ‘ القرظ ‘ سوداء محترقة كأنها النتاج الوحيد من هذه العملية الصعبة ، و مع كل غصن شوك يحترق ، يتخيل البعض من المتواجدين في التِشِّك أن شريطاً من الذكريات يحترق و ينسى ، فعقولهم _ جميعاً _ اﻵن تراجع ما عرفته عن هذه الطلحة و هذا المكان الخبئ ، فلو تكلفت عناء الجلوس على ركبتيك و وضعت أنفك على أرض التِشِّك ، لعرفت فوراً بما يدور بعقول الواقفين هنا ببلاهة ، فاﻷرص هنا مرتوية بما يندلق من كأسات السكارى في كل ليلة ، و رائحة الذنوب تفوح من جسد اﻷرض ، كانت الطلحة شاهدة و حاضنة لما تشئ به نفوسهم من ترويح عن النفس ساعة و لو جاوزها ، يلتقي العشاق هنا و يعشقون ، و يتسامر كل صاحب سامر في هذا المكان ، و ليس من أحد من الواقفين هنا إلا و له حكايات و أسرار أسر بها للطلحة ، جميعهم مدانون بفعل الخطايا في ظلمة التِشِّك و رحمة الطلحة ، جميعهم مضجرون ما عدا الواقف هناك وحيدا و يفعل عكس ما يفعل البقية ، يقف مبتسماً إبتسامةً لها لونُ مخيف و يلاعب لحيته الحمراء بيده اليمنى ، وقف كثيرا في مجامع من الناس و خطب خطباً طويلةً مملةً عما يفعله الناس تحت الطلحة الكبيرة ، عادة لا يستمتع ألى كلامه إلا من هو قادم لتوه من أرض التشك و بعض العاطلين عن الزراعة ، يقف هنا و تعلو وجهه شماتة و تهليلة نصر بائن ، لا يعلم جميع من في المكان أنه نفسه له أسرار يعلمها التشك و تحفظها الطلحة التي تحترق اﻵن ، من حسن حظه أن الجميع منتبهون للنار التي تأكل الطلحة و إلا إتهموه هو بذلك .
صاح صوت من بعيد قائلا : ياناس …. واقفين مالكم ؟!
كان ذلك عطا الله الدرويش ، الكائن الوحيد الذي لم يزر الطلحة أو يتحدث إليها بفعل ما ، فهو ” زول الله ” كما يصفه الناس هكذا بدون إكتراث .
_ دي نار يا زول ، كمان النار بتتقدر؟!
رد صاحب اللحية المخضبة ملوحاً بيده في إستنكار ، و حاول اﻹسترسال في حديثه عن المصير و العقاب فزادت همهمات الناس في سخط و ظهر منها بعض أسئلة مبطنة ك : من حرق الطلحة في ضوء النهار هذا؟
أصبح صوت النار أكثر وضوحاً و هي تلتهم صفق الطلحة و تحرق حبات القرظ المتهاوية ، و زادت حرارة الجو و صار خانقاً ، فألسنة اللهب تهبهب في وجوه الناس ، و فوق على ذلك يأتي بوخ ساخن من سطح النيل المتزايد الذي أصبح قريباً جدا من المكان ، صار الجميع مبللون بالعرق ، و تسيل أجسامهم بماء كأنها تبكي حزنا على أم المكان ، طلحة التشك العتيقة .
أحس عطا الله بشئ بارد في أنفه ، فرفع رأسه إلى السماء ليرى حشداً كبيراً من الغمامات إجتمع كجمعة الناس هذه و فجأة إنهمر مطر غزير إلى اﻷرض كأنه قرع سماوي على الطبول ، في دهشة الجميع ، إبتسم عطا الله الدرويش و غسل المطر وجهه فصار نديا لامعاً من غير سوء و نظر إلى الطلحة ليرى النار تموت شيئا فشيئاً و تنطفئ نهائياً من أفرع الطلحة ، لكن بعد أن أكلت النار كل الأوراق اليابسة و أسقطت كل حبات القرظ إلى اﻷرض ، كأنها تعاتب الناس ، وبعد حين هدأت السماء و إختفى صراخ الغمامات و توقف المطر . نظر الجميع إلى الطلحة العتيقة التي لم يسقط منها فرع واحد إلى اﻷرض ، و لكنها إحترقت بالكامل و هي واقفة على جذعها و أسقطت ما أثقلها من أوراق و قرظ ، أصبحت هيكلًا أسوداً ينتصب بصمودٍ إلى أعلى و كأنه يحدق في التِشِّك و القرية و النيل القريب ، مصلوبة ، بجسد أسود و عار ، وقفت طلحة التِشِّك في مكانها حيث تقف منذ زمان ، و إنصرف الرجال إلى بيوتهم تمﻷ أنوفهم رائحة دخان الطلح التي غطت السماء و اﻷرض ، منتفخة صدورهم و متحفزين إلى خطايا جديدة .

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …