
مصر والسودان: المسكوت عنه، ام المغلوط فيه!
محمد فاروق سلمان :
حلايب وشلاتين ليس من القضايا المسكوت عنها، وجود وزير من ضمن وفد الزيارة التي رافقت رئيس الوزراء من حلايب يجعل ضم هذا الخلاف مع مصر لقضايا “المسكوت” عنه المفترضة هذه كلام “ساكت”..
في الحقيقة ما يميز فعلا هذه العلاقة بيننا وبين الجارة الشقيقة، كثرة الحديث المغلوط والغير مغلوط وليس المسكوت عنه أبدا، وهذا التنميط الذي اشار اليه السيد رئيس الوزراء، والذي ربما غطى على “شتارة” تصريحات وزيرة الخارجية في زيارتها السابقة لمصر، فقد حملت عباراتها دفء لا تحتمله الديبلوماسية، والتي دائما ما تكون تعبير رسمي (وربما بارد) معني بالوقائع ولا يحفل بالتوقعات طالما لم تاخذ تكييف قانوني صريح.
لهجة النوبي البواب في الافلام المصرية ومصر والسودان هتة (حتة) واهد (واحد) والسخرية من لونه، نفسها الحمرة الاباها المهدي، والسخرية من “الحلب” عموما من قبل “سمارا” في جنوب الوادي، واظن ان السودانيين دائما ما افتخروا بـ”خدرتهم” (الخدرة: سواد اللون)، الا أمام سخرية المصريين وتعليقاتهم اللاذعة، وهي سخرية لم يسلم منها المصري نفسه من نفسه، وإن ظلت خفيفة الدم فيما بينهم الا أنها كانت ثقيلة على اغلبنا نحن السود والسمر من مصر ومن خارجها..
السودانيين الجنوبيين وجدوا في سخرية المصري بالسوداني الشمالي ملاذاً لتندرهم هم انفسهم من عنصرية هذا الشمالي “الاخدر”، كما وجدوا حصناً او حائط سد شكله نفس الشمالي من عنصرية اولاد “بمبة” وهذا التعبير نفسه رد فعل احمق من أولاد “البواب”، فبمبة هي بمبة كشر الراقصة المصرية، ويعني الاساءة للمصريين بوصفهم بأولاد “الرقاصة” ! وبالطبع في هذه التعبيرات مجتمعة ما يفيد التحامل احياناً على البواب والرقص اكثر مما هو تحامل على الالوان، فاذا نظرنا لطقوس الزواج عندنا في جنوب الوادي لعرفنا اننا نحتفي بالرقص اكثر مما تفعل بمبة كشر نفسها، وبينما خلت ثقافتنا من الراقصة والراقص المحترف كما هو الحال في مصر، احترفنا جميعا الرقص كسودانيين وأفارقة في طقوس الزواج والحصاد وحتى التدين في حلقات الذكر على ايقاع النوبة (drums)..
يقبل المصريين على بؤس الحياة وشظف العيش بالنكتة، واللهج الحلو، بينما نكون نحن في اعالي الوادي اكثر وجومًا وصرامة حتى وان ابتسمت الحياة لنا، وليس ابلغ من وصف حالنا سنوات ضنك الانقاذ من هذه النكتة المصرية عندما اخبر احدهم حسني مبارك بأن السودانيين بقو ينكتوا (يقولون نكات) فرد الرئيس المصري وقتها: “جاعوا اولاد الهرمة”، واظن انها من اذكى النكات السياسية التي حكت تعاضد الشعبين وتضامنهما، ووحدة وجدان نضالهم الانساني..
العنف اللفظي الذي نكيل به لانفسنا والتنميط الذي يخفي طبيعة دولة مركزية قابضة في البلدين كموروث استعماري رصين، وجه اخر لتشابه الشعبين وتشابك مصيرهما، اكثر بكثير مما يواجه به الشعبين بعضهما! واظن انه لو وجد تفاوت بين البلدين فطبيعة الدولة المركزية اكثر رسوخًا في مصر منها في السودان، والذي اصبح واضحًا ان هذه المركزية لم تعد تناسبه!
من الجميل ان يقول لنا المصريين احنا اخوات، وأن لا نحس بالغربة في مقاهي القاهرة، وان يكون سائق التاكسي الذي يقلك قد زار أم درمان وأم بحري ذاتها او جوووبا، وشاف ملكال او عمل في كسلا، فهذه الأحاسيس لا تعبر عن زيف علاقاتنا، وبينما يعرف كل الوطن العربي والمستعرب مصر من خلال الافلام والمسرحيات المصرية، وللجميع لكنتهم المصرية الخاصة بهم لغزو الدراما والفن المصري لكل البيوت في هذه الجغرافيا، فقد خصنا المصريين بهذه المساحة عندهم باكثر من طيبة عم عبدو البواب في افلامهم ومنذ ان كان مصر والسودان حتة واحد وحتى صاروا حتتين في حياة الممثل النوبي صلاح يحيى (اشهر بواب في السينما المصرية) قبل ان يصبحوا “تلات” حتات الآن…
لكن من الاجمل ان يكون التعبير الرسمي عن هذا الوجدان الشعبي اكثر تمثيلا له، وان تقل بيننا هذه المساحات لعدم قبول انفسنا في دول ثلاثة الان تحمل اي منها تعدد واسع لن تسعه لغة “الهيمنة المركزية” هذه عند الدولة ومثقفها أبدا، وعلّ ما تكشفه هذه العلاقة بين هذه الشعوب عبر قربها من بعضها بكل هذا الارث المنطوق عن التنوع والتعدد والاختلاف ايضاً والذي لم يحتمل السكوت أبداً؛ يحملنا للحديث عن المسكوت عنه فعلاً داخل كلٍ منا، وقبولنا بأنفسنا أولا، حتى نكون اهلًا لان نقبل بَعضنا: فنحن شعوب قدر لنا ان نلتقي دون ان نتخطى فاقة الحاجة وان نلتقي دون الحوجة لرفاه التنقل، فنحن نسكن حتة واحدة من انحاء هذا العالم ..
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …