‫الرئيسية‬ آخر الأخبار نص القصة القصيرة الفائزة بالجائزة الأولي في مسابقة يوسف ادريس
آخر الأخبار - ثقاقة - نصوص - مارس 31, 2021

نص القصة القصيرة الفائزة بالجائزة الأولي في مسابقة يوسف ادريس

حذاء دامٍ :

(القصة الفائزة بالجائزة الأولي في مسابقة يوسف ادريس في دورتها الثالثة ٢٠٢١) :

ريم عثمان عطا المنان :

حين استيقظت في ذلك الصباح .. لم أكن افهم شيئاً مما حولي .. ولم يكن يهمني .. كل ما كنت أريده أن أرتدي فستاني الأحمر الجديد الذي أشترته لي أمي مع شريط الشعر الأحمر والحذاء الأبيض .. كان البيت مليئاً بالنساء .. كنت أعرفهن جميعاً .. جدتي وخالاتي وعمتي وبعض نساء الحي .. وكانت هناك امرأة ضخمة تحمل حقيبة سوداء كبيرة وترتدي ثوباً أبيض.. لم أكن أعرفها.. ولم أكترث بذلك.. خاصةً حين جاءت شيماء ابنة خالتي علوية ورفيقتي .. كانت ترتدي فستاناً يشبه فستاني .. لكن حذاؤها كان أسود اللون .. أرتني شيماء كيف أصبح لون الحناء التي وضعتها لها جارتنا سعاد في اليوم السابق على قدميها وأنامل يديها .. كان قاتم السواد .. وأريتها الحناء خاصتي .. كان لونها أقرب إلى البني القاتم من الأسود .. أمي من وضعتها لي .. لكني لم أطق أن أظل على الفراش طويلاً كي أمنحها المدة الكافية لتصبغني بالأسود القاتم .. لكني حين رأيت كيف كان السواد جميلاً على شيماء تمنيت لو استطعت الاحتمال لمدة أطول.
احتفى بنا الجميع.. أدخلونا داخل الغرفة المخصصة للضيوف حين أردنا الخروج للعب.. أخبرتنا أمي أننا اليوم عروستا المنزل وأن علينا الجلوس بهدوء.. وأن الجميع سيحتفل بنا اليوم.. لم أكن أريد ذلك.. كنت أتوق للخروج للشارع ليرى الجميع فستاني وحذائي وتسريحة شعري .. وقد ألبستني خالتي بعض حلي أمي وألبست شيماء مثلها .. لم تعجبني ولم أعترض .. لم نتعود على الاعتراض على ما يقوله أهلنا.
جاءت أمي وجلست بجانبي وأخبرتني أني قد كبرت اليوم وسيقومون بفعل شئ سيحافظ علي ويجعلني سعيدة وأن الجميع فرحون لذلك وعلي أن افرح وأخذتني من يدي وذهبت بي إلى الغرفة الأخرى .. لم أرى أبي منذ الصباح فسألتها عنه .. قالت إنه بالخارج ولا يستطيع المجيء للداخل لوجود النساء.
جلست تلك المرأة الضخمة بالداخل كالملكة والجميع يحتفي بها.. تغير ترتيب الغرفة .. كان هناك سرير واحد في منتصف الغرفة وبجواره منضدة كبيرة عليها مفرش .. وعلى السرير فرشت ملاءة ملونة غطى نصفها مشمعاً أحمر .. أنقبض قلبي فجاءةً والتصقت بأمي .. أخبرتها أني أريد الخروج .. وأريد أبي .. لم تكترث لي وأخذتني من يدي ووضعتني على السرير وأسفل جسدي على المشمع .. والتفت حولي بعض النسوة .. أردت النهوض لكن جارتنا زبيدة جلست بجانب رأسي ولم تدعني .. بدأت أخاف وانتابتني رغبة قوية في البكاء لم استطع مقاومتها .. جاءت أمي وقبلتني على رأسي محاولةً٠ تهدئتي .. تشبست بها فأبعدنها بعض النسوة وزجرتني أحداهن .. أخبرتني أني الآن قد أصبحت كبيرة وأن على الاستعداد للحياة .. لم أستطع أن أفهم شيئاً .. اختفت أمي .. وأتت تلك المرأة الضخمة .. وعلى الرغم من أنني قد رايتها عندما جاءت لكن ملامحها الآن أخافتني .. ابتسمت في وجهي .. وعندما حاولت التربيت على رأسي أبعدت نفسي عنها وأزداد بكائي .. فتحت حقيبتها .. لم أستطع رؤية ما تحمل جيداً لكني لمحت حين حاولت النهوض مقصاً وبعض الأدوات الأخرى التي لم أميزها .. ثبتتني إحدى النسوة وثبت أخرى ساقاي وباعدتهما عن بعضهما .. بدأت في البكاء بصوت عالي وطفقت أنادي على أمي وأبي .. جاءت جدتي وأمسكت برأسي وبدأت تقرأ لي قرآناً .. ربما قصدت تهدئتي أو حفظي .. حاولت النهوض مرةً أخرى لكن النسوة ثبتنني بقوة .. غمرت الغرفة رائحة نفاذة مزعجة ظلت مرتبطة عندي بالألم لبقية حياتي .. أحسست بألم ما بين فخدي وصرخت بقوة وأزداد بكائي .. لكن أحداً لم يكترث .. ثم لم أعد أحس بشيء .. ولم استطيع إدراك ما تفعله المرأة الضخمة هناك .. وحين ابتعدت أطلقت عمتي زغرودة وتركنني النسوة وأبتعدن .. جاءت أمي واحتضنتني .. كنت منهكة ولم أقوى حتى على احتضانها .. حملتني ورجعت بي إلى غرفة الضيوف .. رأيت شيماء تحاول الهروب من الغرفة وأمها تمسك بها .. كانت فزعة وسألتني لماذا صرخت ولم أكن قادرة على الرد .. وضعتني أمي على السرير وجلست بجانبي .. خرجت شيماء من الغرفة مع أمها .. لم يطل الأمر حتى سمعت بكاء شيماء وصراخها.
امتلأت الغرفة بالنساء .. كن يباركن لي وأنا صامتة .. منحنني بعض النقود .. كان الفرح يغمر المكان .. ما عداي .. لم أكن أحس بشيء .. أعجبني أن أمنح نقوداً .. لكني لم أكن سعيدة .. انتظرت أن تأتي شيماء ولم تفعل رغم أن صراخها قد توقف .. انتبهت لاضطراب الجميع والحركة الزائدة خارج الغرفة .. سألت عن شيماء ولم يجبني أحد .. سمعت عبارات تقال .. نزيف .. مستشفى .. وغفوت.
عندما استيقظت كان المنزل فارغاً .. أحسست بالألم ما بين فخدي .. حاولت النهوض فزاد الألم .. ناديت على أمي .. جاء أخي الصغير .. سألته عن أمي فأخبرني أن شيماء ذهبت إلى السماء.. لم أفهم شيئاً .. طلبت أن ينادي أمي .. كانت شيماء تسكن بجوارنا .. منزلهم يلاصق منزلنا .. لما ستذهب للسماء؟ وهل حدث لها ما حدث معي؟ هل تألمت؟ هل قرأت جدتي على رأسها القرآن؟
جاءت أمي فأخبرتها أني أريد الذهاب للحمام وسألتها عن شيماء .. ساعدتني على النهوض .. انتبهت لأن حذائي الأبيض قد تلطخ ببعض بقع الدماء فأنقبض قلبي وأوشكت على البكاء .. خاصةً حين بدأت بالمشي وازداد الألم .. طلبت أمي ألا أباعد بين أرجلي وأن أمشي بهما متلاصقتين ما استطعت .. في الحمام كان الألم لا يحتمل .. بكيت بقوة ولم أقوى على تفريغ مثانتي .. لكن أمي زجرتني .. ثم أخذت تشجعني وتخبرني بأن ذلك سيزول .. فقط اللحظة الأولي هي المؤلمة .. تحدثت عن جرح وخيط جراحة .. اندهشت كثيراً .. عاتبتها كيف سمحت لهم بأن يجرحوني .. وسألتها عن شيماء .. ولما ذهبت للسماء؟ وهل جرحوها أيضاً؟ لم تتمالك دموعها واحتضنتني .. ورغم حديثها عن اللحظة الأولي إلا أن الذهاب للحمام ظل مؤلماً في الأيام التي تلت ذلك اليوم أيضاً .. ثم زال الألم تدريجياً حتى نهاية الأسبوع.
لم أتحمس للعب حين استطعت الحركة .. كثيراً ما جاءتني شيماء في أحلامي .. كانت تلعب معي أحياناً وأحياناً وحدها .. ودوماً كانت تبكي قبل ذهابها وتتشبث بالبقاء .. وحين أصحو تضيع مني تفاصيل الحلم ولا أتذكر غير بكائها .. ومع مرور الأعوام تلاشت الأحلام لكن دموعها ظلت حبيسة بداخلي.
لم أكن لأنسى .. تجدد ذلك الألم حين بلغت سن الأنوثة .. كنت أعاني شهرياً .. تعلمت التعاطي مع الألم والاعتياد عليه .. لم أستطع أبداً الاحتفاء بأنوثتي.
ثم تعرفت على عادل .. كان زميلي في الجامعة .. نشأت بيننا قصة حب عاصفة وتزوجنا بعد التخرج .. ليلة العمر عندي تحولت لمأتم .. بدلاً عن الضحكات والفرح كان البكاء والألم .. تبخرت كل الأحلام الرومانسية حين فقت من غيبوبتي وعادل يجلس على رأسي مواسياً .. لم يتأسف .. لم يكن مخطئاً .. كنت أعي ذلك .. كم تمنيت لو فعل .. لربما كان سيعوض اعتذاراً لم يحصل أبداً من أمي وأولئك النسوة والمرأة الضخمة صاحبة حقيبة الموت السوداء.
أما حان لهذا الألم ألا يعود .. كيف سينتهي .. لما يصر على التجدد .. لما سيصر دوماً على إفساد فرحتي .. أول فرحة .. شيماء صغيرتي .. عاهدت نفسي ألا أسمح أن يجرحها أحد .. حضورها للحياة كان مهرجاناً للسعادة لم ينغصه إلا ذلك الألم المميت .. وتجدد الجرح .. وعادت الجراح.
وهنااااك في العمق .. حيث الصمت المطبق .. كنت أرى عادل منزوياً في أوج انتصاراته يبحث عن أحساس ما له خصوصيته وعمقه ليلتقطه ويتفاعل معه صعوداً وهبوطاً وصولاً لذروة أدركها أنا وأشتهيها .. تملأني ولا أستطيع الوصول إليها ولا أستطيع إيصاله إليها .. ليس بيدي .. التشوه لم يكن فيما بين فخدي فقط .. التشوه كان في روحي.

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …