شهيدانِ جميلانِ ماتا مرَّتين
بابكر الوسيلة :
طالعتُ اليوم بالفيسبوك عبر صفحة (حركة 27 نوفمبر) معلومةً فحواها أنَّ “الدُّكتور محمَّد عبد الله الرَّيَّح 1965 عندما عُيِّن مساعد تدريسٍ بكليَّة العلوم بجامعة الخرطوم، قام بنحت تمثالين لشهداء أكتوبر. تمثال للشَّهيد بابكر حسن عبدالحفيظ كليَّة القانون، والشَّهيد أحمد القرشي كليَّة العلوم. وقام بوضعهما أمام مدخل مكتبه بالجامعة”.*
ولأنَّني كثير الشكِّ فيما يتمُّ تناوله عبر الفيسبوك من معلومات، فقد قمت بالاتِّصال ببعض التَّشكليِّين والمهتمِّين لتأكيد المعلومة أو نفيها. وللحقيقة، فإنَّني لم أجد، حتَّى من الذين أكَّدوا المعلومة، ما يُريح البال ويُطمئن القلب بالتَّأكيد الكامل حتَّى الآن.
قد يتساءك البعض عن سرِّ اهتمامي بهذا الأمر. وببساطة، فإنَّني صرت مهتمَّاً ومهموماً به لسبب شخصيٍّ أوَّلاً، ولسبب ثانٍ يتَّصل بالتَّفكير الدَّائم في أهمِّية التَّوثيق لحيواتنا السُّودانيَّة في جميع مناحيها.
في العام 1993(وهذا ليس تاريخاً مؤكَّداً عندي) كان هناك اعتصام شهير أمام مكتب مدير جامعة الخرطوم مأمون حمِّيدة. وقتها قرَّر الطُّلاب بقيادة حركة الطُّلاب المحايدين رفع بعض المطالب النَّقابيَّة لمدير الجامعة والاعتصام أمام مكتبه حتَّى يتمَّ استصدار قرار منه بتنفيذ تلك المطالب. الذي حدث أنَّه وقبل مغيب شمس ذلك اليوم الأربعاء، داهمت أرتال كثيرة وضخمة من قوات البوليس والأمن حرم الجامعة، وماهي إلَّا دقائق معدودات حتَّى تغطَّى المكان بالمتوحِّشين من كلِّ لون. قاموا بفضِّ ذلك الاعتصام باستخدام أعمى ومكثَّف للغاز المسيِّل للدُّموع. اشتبك الطُّلاب بشراسة مع هذه القوات “الغازية”، وصار وسط الجامعة غابة متكاثفة من غازاتهم السَّامَّة مع رعود أصوات الرَّصاص المتوالية. كانت المساحة ما بين الميدان الشَّرقيِّ والميدان الغربيِّ للجامعة أشبه بساحة حرب. حرب حقيقيَّة وصادقة من الطَّرفين. ولأنَّها لم تكن حرباً عادلة؛ فقد زُجَّ، بعد ساعات من هذه المعركة، بالمئات (خصوصاً من الطَّالبات) في أقبية المعتقلات. توزَّع البعض، وأنا منهم، في بعض المكتبات ومكاتب أساتذة الجامعة. فتَّشوا أنحاء الجامعة كليَّة كليَّة وزاوية زاوية؛ّ ولكن، ومن حسن حظِّي مع مجموعة من الطُّلاب — وكان من بينهم الصَّديق عبد الله ديدان— أن وجدنا باب مكتب أحد الأساتذة مفتوحاً فدخلنا وأغلقنا الباب علينا بإحكام. كان ذلك بعد مغيب الشَّمس بقليل. بعدها بدأت حملة “تمشيط” واسعة لكلِّ مكان في الجامعة. ولأنَّ أيادي البطش كانت لاحقة ومتوحِّشة، فقد تمَّ اعتقال المزيد من الطَّالبات والطُّلاب. كان الحظُّ لا يزال بجانبنا حين حاول بعض عناصر الأمن كسر باب المكتب فاستعصى عليهم، واكتفوا بإرسال بعض العبارات البذيئة (إنْ كان هناك من يوجد بالدَّاخل أو لا يوجد، فقد كانت العبارات الوسخة تملؤ أفواههم، ولا بدَّ من إخراجها على أيِّ حال من صدورهم الغليلة). في الأخير ذهبوا، فتنفَّسنا الصُّعداء. كان الصَّمت سيِّد المكان وعبده الذَّليل في ذات الوقت حتَّى بزوغ السَّاعات الأولى من الصَّباح. كنَّا نختلس النَّظرات لعناصر جهاز الأمن من خلال نافذة صغيرة محكمة الصُّنع تطلُّ على جهة الغرب من الطَّابق العلوي. فكانت تسمح لنا برؤية العناصر وهم يتحرَّكون جيئة وذهاباً في مساحات واسعة من الجامعة، وكانت النَّافذة الذَّكيَّة الصُّنع تساعدنا على معاينة المشهد بكلِّ اطمئنان ( قلت لصاحبي ديدان إنَّه يجب علينا شكر الإنجليز، أولاد الكلب، الشُّكر الجزيل على وضع هذه النَّافذة في هذه الزاوية بالذَّات، فضحك ضحكة عميقة ولكنَّها كانت مكبوتة، إلاَّ أنَّ إيماءات جسده وابتسامات وجهه قد أظهرت تأثير العبارة عليه).
في ساعات الفجر الأولى، دخلت عربة مارسيدس عبر “المين روود” ووقفت بالضَّبط عند مدخل المكتبة الرَّئيسيَّة للجامعة أمام تمثالَيْ بابكر والقرشي. نزل منها رجلان طويلان ضخما الجثَّة. كان أحدهما يرتدي جلَّابيَّة بيضاء اللَّون والآخر يرتدي اللَّبسة التي عرفت مؤخَّراً عند إسلاميِّي الإنقاذ “بالاشتراكيَّة” وكانت رماديَّة اللَّون. بسرعة، تَحلَّق حولهما بعض عناصر الأمن (لا أريد استخدام كلمة “كلاب”ّّاحتراماً لها) المنتشرة في أنحاء الجامعة برؤوس مطأطأة. إنَّهما قائدان أمنيَّان إذاً، وأمينان على تنفيذ أوامر القيادة المجرمة بالخارج على أكمل دقَّة وحقد وكراهيَّة. فسرعان ما أمر القائد الذي كان يرتدي “جلَّابيَّة” تلك العناصر بأن يتأكَّدوا من اعتقال كلِّ طالب أو “كديسة” أو “…..” أو” ….” أو كما قال بصرامة وعنجهيَّة وحقد. لكنَّهم أكَّدوا له اعتقال كلِّ الطُّلاب في كلِّ أنحاء الجامعة. في هذه اللَّحظة كان كبيرهم يتلفٍّت يميناً ويساراً بخفَّة صقر ووجه قاتل، قاتل حقيقي ومحترف. كان تمثالا بابكر عبد الحفيظ والقرشي يصرخان أمامه ويهتفان في وجهه بالحرِّيَّة (كما تخيَّلت أنا وربَّما تخيَّل من كان محشوراً معي لحظتها في المكتب). كانا يذكِّرانه في تلك اللَّحظة بكلمة لطالما يكرهها من داخله: “الثورة”.ّ أمر هذا القائد، الذي كان يُرغي ويُزبد، عناصره بتحطيم تمثالَي القرشي وبابكر وكان وجهاهما (كما أرى) يستهزءان بعبثيَّة اللَّحظة ومرارتها. وبخفَّة ما بعدها خفَّة ولهفة للقتل، ذهب حوالي عشرة لتنفيذ الأمر. بدأوا بالقرشي، لكنَّ القرشي قاوم وقاوم حتَّى النِّهاية ببسالة وبطولة تليق بشهيد، وكنت أصرخ في داخلي بالحنق من رؤية المشهد. أخيراً، أردوه قتيلاً للمرَّة الثَّانية، لكنٍّهم في هذه المرَّة قد تفنَّنوا في تقطيعه وإحالته إلى كومة من التُّراب وكأنَّه، في هذه اللَّحظة من التَّاريخ، قد أحسَّ بالقهر المضاعَف وحنَّ للعودة إلى خلقه الأوَّل على يد النَّحٍّات “ود الرَّيَّح”. وكذا فعلوا مع تمثال بابكر عبد الحفيظ الذي قاوم حتَّى اللَّحظات الأخيرة من حياته الأخرى. لم يكتفِ القائد بهذا الأمر؛ بل أمرهم للمرَّة الثَّانية برمي هذه الجثث (كما قال) على قبو خلفيَّة عربته المارسيدس. فعلوا ثمَّ انطلق بعربته مع مجرم القتل الآخَر.
كنَّا نحن الموجودون على ذلك المكتب في ذهول من الأمر. ولأنَّ النَّافذة صغيرة ولا تسمح للجميع بمشاهدة هذا الفيلم المأساوي، فقد كنَّا نتبادل النٍّظر واحداً بعد الآخر في ثوانٍ معدودة، وكلُّ من يتسنَّى له هذا الوضع، فإنَّه ينقل للآخرين بما يشبه الهمس، ما يدور بالخارج على ساحة الجريمة من أحداث، وينقل كلَّ لقطة تمرُّ على شاشة القتل والمأساة. كادت واحدة من الطَّالبات أن تفضح أمر تواجُدنا في هذا المكتب بسبب بكائها الذي كان يتحوَّل إلى نحيب في بعض اللَّحظات؛ غير أنَّ صويحباتها كنَّ يكمِّمن فاهها بأياديهنَّ بمجرَّد إحساسهنَّ بلحظة انفجار نحيبها.
انتهى فيلم القتل وخرج جميع عناصر الأمن من شاشة الجريمة محمَّلين بفرح انتصارهم على جميع المجرمين الذين هم نحن بلا شك، نحن أبطال معركة تمَّت في سرٍّ من التَّاريخ وصمت مطبق.
بعد تأكُّدنا من خروج عناصر الأمن، نزلنا من المكتب خلسة، إذ كان علينا الخروج بأسرع ما يمكن من باحة الجامعة، ولكنَّني، دون رفقة صديقي ديدان لحظتها، تسللَّتُ بإصرار إلى مكان تمثالَي القرشي وبابكر وبكيت بكاءً شهيراً في نفسي على شهيدينِ جميلينِ ماتا مرَّتين.
* لا أدري كيف ومتى تمَّ تحويل وضع التِّمثالين من أمام مكتب الدُّكتور محمَّد عبد الله الرَّيَّح إلى مكانهما المعروف أمام المكتبة الرَّئيسيَّة للجامعة؛ هذا إن صحَّت معلومة أنَّ النَّحَّات هو الدُّكتور محمد عبد الله الرَّيَّح، وأنَّهما كانا أمام مكتبه بالفعل.
بابكر الوسيلة
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …