خواطر رمضانية .. مشاهد من كمبالا
سالم الامين :
نسيت اسمها الآن ، لكنني اناديها بالأستاذة ، و ما كان لي أن أفعل ، فهي مختلفة تماما عن الكثير من اليوغنديات اللائي تعرفت عليهن . تميزت عنهن بالكرم المفقود في تلك البلاد …
بعد أن مللت من الاقامة في الفنادق في أول سنوات حضوري إلى كمبالا قبل عقد من الزمان تقريبا ، قررت أن استأجر منزلا يوفر لي فروقات الإقامة في الفندق ، ويكفيني لاستضافة الضيوف الوافدين …
يرتبط اختيار السكن أحيانا بظرف عاطفي كأن تختار منزلا لأنه يقع في منطقة نزلت فيها اول مرة عند قدومك للمدينة أو لأن أحد اقربائك يسكن فيها أو ترتبط بمجال عملك أو غيرها من الأسباب …
اخترت ان استاجر المنزل في منطقة (روزيرا) لسببين . أولهما أنني نزلت بالقرب منها اول ليلة لي في كمبالا ، نزلت ليلتها في منزل أخونا بسام المهدي ادريس ، و الذي كان يقيم في منطقة (بوقولوبي) في كمبالا منذ التسعينات و تزوج من إحدى حسناوات الغرب ، و الحي عبارة عن مجمع سكني فاخر ، مرتفع الأسعار ، حيث لا تقل الشقة فيها عن خمسمائة دولار في الشهر و ليس من السهولة إيجاد شقة خالية ، لذا اخترت (روزيرا) التي تحادد و تجاور ذاك المجمع السكني ….
منطقة روزيرا تحيط بها بحيرة فكتوريا كالسوار، كغالبية إحياء كمبالا . وبها أكبر سجن في يوغندا يعرف بسجن (روزيرا) . كمنطقة كوبر عندنا و ارتباطها بسجن كوبر .
السبب الثاني لإيجار ذاك المنزل في ذاك الوقت انه قريب من (مدرسة العلوم الإدارية) التابعة لجامعة مكاريري، مباني العلوم الإدارية في منطقة مختلفة عن منطقة مكاريري التي سميت بها الجامعة و التي تقع في مركز كمبالا . تنقسم المدرسة في منطقتين متقاربتين ، قسم البكلاريوس و الدبلومات في منطقة ، و قسم الدراسات العليا في منطقة أخرى لكنها ليست بعيدة عن الأولى .
كان خياري أن يكون المنزل قريبا من قسم الدراسات العليا لأنني كنت انوي استقدام زوجتي التي أكملت الماجستير في تلك الأيام ، كنا اتفقنا أن تأتي لدراسة الدكتوراة هنا في مكاريري ، إلا أن بعض الظروف حالت دون ذلك …
الشقة التي استاجرتها في روزيرا كانت أرضية في منزل كبير فيه عدد من الشقق مختلفة الأحجام و المساحات . و اليوم الذي انتقلت فيه إلى المنزل صادف أول يوم من شهر رمضان ، و قبلها بيوم قد أحضرت عفشي الذي بدأت شراءه في تلك الأيام . صاحب المنزل شاب مسلم يدعى (موسى الكليم) ، لذا حرص أن يعرفني بالأستاذة التي تستأجر الشقة المقابلة لي تماما . حرصه على التعريف بها لانها مسلمة ، أخبرتها بأنني من السودان ، وهي من سحنتها تبدو من نساء منطقة تورو جنوب غربي يوغندا ، فسمرتهن مميزة و فاقعة اللون . تبدو في الأربعينات من العمر و ربما تكون أصغر من ذلك بكثير ، فاليوغنديات يكبرن بسرعة شديدة و كذلك يشخن في سن مبكرة . فتظهر الواحدة منهن أكبر بما لا يقل عن عقد من عمرها الحقيقي …
لدي الأستاذة مجموعة من الأطفال جميعهم في مراحل التعليم في الداخليات . معظم الموسرين ماديا يفضلون إلحاق أطفالهم بالمدارس الداخلية وذلك بسبب انشغال الأمهات في أعمالهن ، و الغريب أن المدارس الداخلية تبدأ احيانا من الروضة أي في المرحلة ما قبل المدرسي ، فيجد الطفل العناية و الاهتمام …
قالت لي أنها كانت معلمة و تم تحويلها إلى مكتب إدارة التعليم … كانت هادئة ورزينة و محتشمة كالسودانيات تماما ..
صليت العصر و انشغلت بترتيب المنزل الجديد ، لم اهتم ابدا بفكرة تجهيز الإفطار فقد علمتنا الأسفار و كثرة الترحال أن التكلف في تجهيز الإفطار غير متاح في كثير من الأحيان ، فأحيانا تدرك وقت الإفطار في بص لا يتوقف إلا بعد ثلاث أو أربع ساعات ، لذا يكون البلح مرافقا مريحا لنا ، ف ثلاث بلحات مع قارورة ماء يعتبر إفطارا دسما في مثل هذه الحالات …
كنت قد جهزت قارورة الماء و في جيبي ثلاث بلحات ملفوفات في كيس صغير أخرجتهن و غسلتهن و وضعتهن أمامي . ورحت في تفكير بعيد، أفكر في السودان و الإفطارات المنتشرة في الشوارع على قارعة الطريق . تخيلت نفسي لو أنني ارتحلت إلى بيت جديد في السودان في مثل هذا اليوم ، لكان الناس قد تسابقوا في إكرامي و الترحيب بي . لكن في هذه البلاد ، و آه من هذه البلاد !!!
و قبل أن استرسل في ذمها تنامى إلى سمعي صوت نسائي : السلام عليكم السلام عليكم . هل أنت بالداخل . انتبهت من أفكاري الشريرة و توجهت نحو الباب لاستجلي أمر من يهتك وحدتي بدون مواعيد مسبقة !!!
هنا لا أحد يزورك أو يأتي إلى منزلك بدون موعد مسبق . حتى لو احتاج إليك في أمر مهم فإنه ينتظر خروجك و يلتقيك خارج الفناء لكن ابدا لا يهتك سترك فيدخل عليك بدون موعد مضروب مسبقا . الأطفال فوق الثلاث سنوات لا يدخلون ابدا غرفة الوالدين بدون استئذان بالرغم من أن الباب عبارة عن ستارة فقط لكنه يتربي على إلا يزيح هذه الستارة و يدخل مالم يسمح له بالدخول …
عندما فتحت الباب وجدت مالم يكن بالحسبان ، وجدت الأستاذة تحمل صينية إفطار متكاملة فيها مالذ وطاب . قالت لي : اعرف انك ضيف في هذه المنطقة و صائم لذا أحضرت لك هذا الإفطار …
حقيقة قد تفاجأت بذاك الإفطار لأنني لم أتوقعه ابدا . لم أتوقعه حتى من صاحب البيت الغني ناهيك من هذه الموظفة المحمولة بكوم من الأطفال في مراحل التعليم المختلفة ، و ما إدراك ما التعليم في أفريقيا !! .
حملت منها الصينية و شكرتها بحفاوة مبالغ فيها . لأن الحدث نفسه كان مبالغا فيه .
ذاك الإفطار كسر مفهومي لطبيعة الأشياء بالا شواذ في هذه البلدة في الكرم ، لكن التقيت بعدها بغيرها من اليوغندين يتصفون بنفس صفاتها ، هذا الأمر كسر في نفسي تنميط الناس على صفات الآخرين لا لشئ إلا فقط لأنهم ينتمون إلى إثنية أو ثقافة أو ديانة أو بلاد واحدة …
البشر يشتركون في الكثير من الصفات و قيم الخير ، تكثر أو تقل إلا أنها لا تعدم .
آسفي الوحيد أنني نسيت اسم تلك الاستاذة الآن . دعواتي لها أن يوفقها الله في تربية أطفالها الذين بالتأكيد قد كبروا الآن .
رمضان كريم تصوموا و تفطروا على خير .
سالم الأمين بشير 13 أبريل 2021 غرة رمضان .
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …