فاشر صديق محمد البشير الفنجري
عبد الله علي إبراهيم :
قال حكيم إن أول ضحايا الحرب هي البداهة (common sense). وكانت أول ضحايا حرب دارفور هي الزمالة في الوطن. فمتى صدع أحدنا من البحر برأي عن دارفور لا ترضاه الحركات المسلحة فهو جلابي مضغن بما يذكر ب “عداء السامية”. ومعلوم أن هذا العداء حفيظة صهيونية من أكسل الطرق إلى التعرف على الآخر. وكلمتي اليوم عن زمالة ربطتني بالمرحوم صديق محمد البشير، صاحب مكتبة الجماهير بمدينة الفاشر، منذ آخر الخمسينات من فوق جريدة الميدان الشيوعية بينما لم نلتق وجهاً لوجه إلا في ١٩٨٨ خارج الوطن في قطر. تزاملنا في الوطن لله.
كتب الأستاذ عبد الله آدم خاطر (الصحافة 5-9-2009) كلمة مؤثرة في نعي المرحوم صديق محمد بشير صاحب مكتبة “الجماهير” بمدينة الفاشر لعقد الخمسينات حتى السبعبنات. وهي كلمة عن فضل الرجل ومكتبته في ولع خاطر بالمعرفة وأيلولته كاتباً راتباً محسناً.
أصبح عرفان فضل “مكتبجبة” الخمسينات والستينات ممن توفوا إلى رحمة مولاهم ضرباً أدبياً متبعاً عندنا. فقد سبقه إلى ذلك محمد علي جادين حين نعى عبد الله المطري صاحب مكتبة المحطة الوسطي بالخرطوم الذائعة. وقد سبق جادين إلى ميزة المطري بحياته الباحث المصقع محمد أبو القاسم حاج حمد. كما قرأت كلمة مؤثرة عن رفيقنا يونس الدسوقي بقلم مكي أبو قرجة يعدد حماسة يونس لتسليك الطلاب في كوستي في محبة القراءة وسبله الذكية في ذلك. ثم كتبت أنا عن مكتبة دبورة بعطبرة وكيف أدبتنا فأحسنت تأديبنا في مناسبة وفاة صاحبها عوض الله دبورة. وصدر في السنوات القليلة الماضية كتاب عن زميلنا الجزولي سعيد أفرد صفحات عددا لمكتبته في بلدة أروما بشرق السودان. ولمّح حسن موسى لكشك عبد الله (الحيوان) بالأبيض. كما عرض عبد الرحمن إبراهيم محمد لمكتبة في الخرطوم بحري لا استحضر اسم صاحبها الآن.
ولا سبب لإستغراب مِنَة هذا الجيل من أصحاب المكتبات على قرائهم من الشباب خاصة. فقد خرج الجيل المكتبجي من معطف الحركة الوطنية. وهي حركة أتت سيئات أواخرها على حسنات مقدماتها. فلم نعد نذكر منها سوى: “ضيعو البلد”. بل ذهب فريق مستنير إلى ذمها لاستعجالها ذهاب الإنجليز من السودان. وضاعت فحولة الحركة وأشواقها في الحرية بين الخلف. وأضاعها أكثر ما أضاعها الجهل بمغزى الحركة وطاقتها في تخيل هذا الوطن من مستعمرة لمّ الإنجليز شعثها كيفما اتفق. فأكثر ما نقرأه عنها هو خطوط عامة لتاريخ تكوين مؤسساتها ومناجزتها المستعمر وأبطالها في هذه الجبهة وغيرها. ولا نبلغ من ذلك أشواقها للحرية ولصبابتها التربوية على حب الوطن من فوق معرفة. وتلك ما انطوى عليه هؤلاء المكتبجية الأفذاذ الذين بكاهم عارفو فضلهم. لقد كانوا وراقين وباعة كتب ولكن بعاطفة غراء على الوطن.
صديق محمد البشير رفيق لم تلده عطبرة مدينتي الأثيرة. فلم احتج لأكون في الفاشر ليغمرني صديق بفيض عنايته. فتعارفنا عبر الصحف إذ لم نلتق إلا مؤخراً في ١٩٨٨ في قطر بصورة أكيدة. فقد كنت كتبت في جريدة “الميدان” قبل إغلاقها بعد قيام انقلاب 17 نوفمبر 1958 قصتي “الأصابع” ومقالات في الميدان. ثم تابعت الكتابة في جريدة الصراحة. وسعدت أن كتاباتي الأدبية لم تخطيء عينه العارفة القارئة. فكاتبني، أو بعث لي رسولاً، يشيد بما أكتب. فملأ ذلك جوانحي بالفرح.
فرح صديق بي عابر للمسافات وسعادتي به هو ميسم وطن الرجال الفناجرة والنساء الفنجريات. فقد وصف خاطر صديقاً بالفنجري الدارفوري المثالي. قال عنه كان “وسيماً تبدو وسامته بادية للعيان من خلال جلبابه الناصع، وعمامته المصفوفة بعناية، فيما يشاهد أحياناً وهو يحمل عصا مخروطة”. ماذا ابقيت يا صديق؟ قال بعض الوعي. لقد فتح للجماهير مكتبة لتقف على حقائق وطنها وحقائقها. واستبدلنا الفناجرة على أيامنا هذه بمن حملوا أكفهم فوق أيديهم من كل شاكلة ولون ففشى القتل بالجملة. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر الفنجري بعصاه المخروطة.
واكتمل لقاء الخاطرة عابرة الوطن بي وصديق في بلد آخر. هو قطر. فقد زرت قطر لمؤتمر ما في 1988. ووجدت صديقاً مغترباً فيها. وأخجلني (وزهاء الطاهر عليه الرحمة مدرارا) بحفاوته بي. أخذني في جنح ليل بعد محاضرة لي للجالية السودانية إلى مدينة في أطراف الدوحة. وكنت أغالب النعاس الذي أرى من بين غلالته مودة هذا الإنسان الفنجري النبيل وزوجته. أهذا ما تفعله الكتب والمعرفة بالناس الفناجرة؟
ثم طلبته يوما من الولايات المتحدة. كنت أريد التحقق عن مظاهرة الفاشر التي أنزلت العلم البريطاني عن ساريته. كنت قرأت عنها باكراً ثم صدئت في ذاكرتي. ضربت لباي خاطر أولاً فأخذت رقم صديق منه. وحدثني خاطر عن المظاهرة كمتلق تاريخ. وأردت أن أسمعها ممن ربما حضر الواقعة عن كثب. فهاتفته ووجدت زوجته التي قالت إنه خرج. واستعجلت كتابة المقال فأخذت برواية خاطر. وقصدت في إجازات أخرى أن التقي صديقاً. ولكن القدم له رافع.
اتفق مع خاطر في مناشدته عارفي فضل صديق لموالاة مشروعه لتيسير الكتاب ووسائط المعرفة للشباب. وهذا ما حَدثّ صديق به خاطراً قبل أسابيع من رحيله. وكان يريد لمشروعه أن يكون في الفاشر مرتع شبابه وكهولته أو في أم درمان التي رحل لها مؤخراً. وددت لو اتبعنا ذلك بتكشيف أرشيفه للصحف السودانية. فقد سمعت منه هو نفسه أن له منها أرشيفاً جاذباً.
كان صديق رفيقاً لم تلده عطبرة.
قبره في عالي الجنان كما قالت الوالدة دائماً.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …