الاعتصام .. جمهورية ما بعد المدينة الفاضلة
محمد الصحابي
اعتصام القيادة الذي بدأ في السادس من أبريل المعظم، بعد اقتحام الثوار للقيادة العامة عنوة واقتدارا، يمكن أن نطلق عليه عالم ما بعد المدينة الفاضلة، فالفيلسوف أفلاطون نظًر لتصوره للمدينة الفاضلة، عبر أطروحته الخالدة على مر العصور ،وإذا بُعث من قبره ستتملكه الدهشة حول اعتصام القيادة العامة لتجاوزه لطرحه حول مدينته الفاضلة المتخيلة، وذلك لأن كل القيم والمعاني الإنسانية السامية قد تحققت في أرض الاعتصام واقعاً لا مجازاً!، فسمات ما بعد المدينة الفاضلة دحرت كل ما يُؤسس للتمييز البغيض والتناحر الاجتماعي واستحالته للسلم الوطيد، حيث كرست لإشاعة احترام التنوع والاعتراف بالتعدد الديني والعرقي والاثني، وعززت لمبدأ قبول الآخر، ففيه تسامت الأنفس عن الشرار وتصالحت مع الذات، وتنامت القيم الفاضلة والصفات السمحة النبيلة، فسادت قوى الخير وتربعت علي عرش جمهورية الاعتصام لتُعلن عن التأسيس لنموذج فريد يُضيف للإنسانية سفرا بازخاً في مضمار تطور الإرث الإنساني، لقد تنزل من بطون المجلدات الفلسفية الي أرض الواقع، وفرض علي البشرية فحصه وتأمله بعناية لاستلهام الدروس والعبر منه، فدستور دولة ما بعد المدينة الفاضلة لقد رسمه هذا الشعب المعلم وخطه بخلاصة نضاله ضد القهر والطغيان، وبعصارة جسارته أمام الصلف وعسف الاستبداد، وسطره بمداد ثورة ديسمبر المجيدة الممهورة بالدماء الذكية الطاهرة، المجد والخلود للشهداء الكرام، فبهذا العقد الاجتماعي الذي أدار خيارات قاطني تلك الدولة استنادا علي المواطنة أساس الحقوق والواجبات، ففيه تحققت العدالة الاجتماعية وأضحت واقعاً ملموساً في جمهورية الاعتصام، فلا مسغبة ولا جوعى يستولون فضلات الطعام! ولا مرضى تقطعت بهم السبل وسدت في وجههم أبواب المستشفيات بسبب خصخصة العلاج؟ في بلد تُنهكك حصر موارده!، فالمشافي والعيادات والصيدليات شيدها هؤلاء الخلص وداوموا فيها علي مدار الأربع وعشرون ساعة دون كلل أو ملل، وبتفان مرتكز علي الإنساني وليس الربحي الطفيلي المتلهف الي اكتناز الأموال من عرق البسطاء والكداح دون الاكتراث لحالهم، فلم تكن هنالك حوجه للطب النفسي، لغياب ما يبعث على الإحباط والاكتئاب، فأطفال القيادة يتدربون على الرسم والتلوين، وتجدول لهم حصص تعلم القراءة والكتابة، ويُمارسون بعض ضروب الرياضة، ومبدعي الفن التشكيلي والهواة يُزينون الجداريات بشتى تفاصيل الحراك الثوري، ويُوثقون لملاحمها في سفر الذاكرة النضالية للشعوب، فتجد لوحات تُعبر عن جموع المواكب الهادرة، وعن الجرحى والمصابين، وعن الصمود في النزال مع القوات الأمنية الباطشة فتلوح لوحة جردل مان، ولوحة انحناء (الشفت للكنداكة ) لتعبر من خلال ظهره بسلام تفادياً لمأزق اللحظة وحماية لها من الوقوع أرضاً وسط هذه الجموع الهادرة!، وصدام التاتشرات وانقلابها في بري الدرايسة والعباسية، وتسور إحدى الكنداكات لفك أسر زميلتها من الكجر، ومشاركة الأطفال في الإعتصام المستقبل الآتي تحكي عن حلمهم بوطن ينضح حليبا وسلام مستدام، ولوحات كبار السن وهم يزينون المواكب بوقارهم، وباستدعاء ذاكرتهم النضالية في ثورتي أكتوبر وماريل المغدورتين، وباستعادة كرامة الوطن المغتصبة ثلاثون عاما من التيه والضلال، ولم تغفل اللوحات عن الشعراء الثوريون الراحلون المخلدون كحميد ومحجوب شريف وغيرهم، وأيضا رفعت لوحات تحمل صورهم من قبل الثوار في ساحة الاعتصام، كما تُزين اللوحات بأشعارهم وأشعار المبدع أزهري محمد علي ومحمد طه القدال، وبعض الأشعار المتخلقة إبان الحراك الثوري، كما ضمت اللوحات لوحة شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، وبلوحات شهداء زنازين بيوت الأشباح، الدكتور علي فضل والمعلم عبدالمنعم سلمان، وبلوحات شهداء ضباط رمضان الذين دفنوا بعضهم وهم أحياء؟ ولوحات الشهداء محمد عبدالسلام والتاية أبوعاقلة، كما لم تتغافل عن موقف حامد الجامد ورفاقه الميامين البارين بقسمهم في الزود عن حياض الوطن وحماية الشعب، وبقية الشهداء الكرام ما قبل جريمة فض الاعتصام، ولوحات محارق دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، ولوحات التروس الصامدة في الشوارع التي لا تخون، ولوحات الشهداء الكرام لتحكي عن جسارة وبسالة منقطعة النظير أذهلت العلم، وكيف واجهوا الرصاص بصدور عارية وبقلوب موغلة في الثبات تواقة للحرية والسلام والعدالة، يتخلل ذلك شعارات الثورة المجيدة التي تحكي عن قيمها ومبادئها، فتجد يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور، وسلمية ..سلمية ضد الحرامية، ورص العساكر رص ..الليلة تسقط بس، وأي كوز ندوسو دوس ، وأي كوز وينو؟ جيبو .. ومالو؟ ندوسو دوس!، فضلا عن الشعارات التي تولدت في جمهورية الاعتصام، مثل ( ياخوانا الشاي بجااااي ومعاهو كيكة …الخ )، ووينو الكجر الجيش ظهر، وحامد يا جامد، وتكرر هذا الهتاف حتى بعد حادثة التعدي علي النقيب حامد صبيحة 7 أبريل رغم حمايته بجدار بشري من الثوار، وتلك واقعة يطول تفصيلها، ووين دفعة حامد؟، ورئيسكم مين حامد، ويظهر هذا الهتاف عند أي معترك أو مناوشات محاولة لزعزعة أمن الثوار وفض اعتصامهم، وتجلي في معركة 9 أبريل ويوم بيان السقوط الأول 11 أبريل والسقوط الثاني 12 أبريل، وتلك المعارك الضارية تحتاج لمجلدات تحكي ملاحمها!، فضلاً عن يا وداد جهزي الشنطة.. الخ، والحفلة بدأت وينو الرقاص، وتلاتين سنة بترقص.. الليلة رقصتنا، كما غناها الفنان صابر الدارفوري، وسقطت ما سقطت صابنها، وقصة هذا الهتاف درئاً للشائعات التي تثير البلبلة في الاعتصام علي بين الفينة والأخرى بانها سقطت، فيحدث هياج ومرج وصراخ شديد من قبل الثوار، فما كان إلا من الثوار اليقظين الرد على مثل هذه الأفاعيل بحزم وإفحامهم للجداد الأمني بهذا الهتاف الحاسم، حتى لو سقطت صابنها.. حتى تتحقق كافة مطالبنا، (وما راجع انا لي مطالب.. جيبوا حكومة الحكم المدني ودم الكوز الكتل الشافع)، وما برنجع ما بنتغشه مالم يتحاسب بشه.. علي عثمان وكتايبو وجهاز الآمن ونافع .. السفكوا دم الشافع، وفي رواية أخري السرقوا دم الشافع، حرة سلام وعدالة مدنية خيار الشعب ولاحقاً مدنية قرار الشعب، و يا سلطة مدنية.. و يا صبه أبدية، وناس عطبرة جو.. جابوا الاسمنت.. جابيين لي شنو؟ جايين للصبة .. صبة تمام .. صبة سنة واقفه قنا وي وي، ونحن منو ناس كوستاريكا.. الخ وغيرها من الشعارات التي تؤكد علي التمسك بالمطالب وتعبر عن عزيمة صلبة وإرادة قوية لا تعرف الانكسار، ويتكامل هذا المشهد البديع مع معرض القيادة العلوي إن جاز التعبير وهو المعرض الذي يحكي عن الاستبسال في معارك الحراك مع الكجر! فتجده عارضاً لملابس القوات النظامية وأحذيتهم والخوذات وبعض أدوات البطش، وأيضاً تم تعليق موتر رغم مخاطر تبعات سقوطه، والمثير للانتباه وجود إناء شرب للماء (كوز) ضخم يتدلى بحبل طويل نهايته عقدة تدل على حبل المشنقة، فهل يا تُري أن هذه الرمزية قد غابت عمن تسنموا مواقع السلطة بدماء الشهداء الأماجد؟ بالإضافة لجموع المواكب المهنية والفئوية التي كانت تجتاح الاعتصام يومياً، ومواكب مدن وقري ومناطق الولايات كل يحمل خيرات منطقته! وعلي جانب تلك المشاهد أماكن إمداد المياه وهي معبأة في البراميل البلاستكية النظيفة، يُشرف عليها بعض الثوار ويحافظون علي نظافتها وترشيدها بشعار (الموية للشرب ما للرش)، وخلال ذلك ظهرت لوحات اللافتات الاعلانية الكبيرة وفيها من الشعارات اعتصام حتي سقوط النظام وهي مزيلة بقوي إعلان الحرية والتغيير، وأخري كُتب عليها جيش واحد شعب واحد، ولوحة تحمل صورة الكنداكة آلاء مكتوب حولها أنا جدي ترهاقا حبوبتي كنداكة، ولوحة أخيرة فيها ميثاق دولة تاسيتي للملك بعانخي العظيم، مجمل ذلك مضبوط ومدوزن على الايقاع الثوري لجمهورية أعالي النفق، وتلمح هنالك زعيم جمهورية النفق بساريته المميزة، والثائر منير بدراجته حاملاً لحفاظتي المياه الباردة النقية، والثائر المميز الذي أبدع وهو ممسكاً بعصى في نهايتها حذاء يدوس علي (كوز، إناء شرب) ، ولا يمكن أن نغفل عن مشهدي صلاة الجمعة الباهر، ومشهد إظلال الأقباط للصائمين من وهج الهجير!! تعبيراً عن التسامح الديني الذي حاول النظام المخلوع وأده، وتتميز هذه الدولة بعمل دؤوب للمحافظة علي صحة البيئة، فتجد هتاف (ما تجدع في الميدان .. أجدع في الكيس.. دايرين وطن دسيسس .. أفضل من باريس!)، ليتوج ذلك الزخم الثوري بقطار الثورة القادم من أرض منجم الثورات كما قال حميد في شعره عن عطبرة، هكذا كانت تسير الأمور في واقع دولة ما بعد المدينة الفاضلة، وفي خضم ذلك تلوح بشارات الشهر الفضيل، حيث كانت هنالك حملة إعلامية مضادة شرسة من قبل أجهزة النظام المخلوع آنذاك، مضمونها تخويفي ترتكز على الحرب النفسية وتُشيع بإن الثوار لن يستطيعوا الصوم في القيادة حيث الظروف البيئية القاسية مثل حر الصيف وهجير الشمس اللافح وغيرها من المطلوبات الحياتية الخاصة بالشهر المعظم، وبالمقابل كان الثور أكثر تماسكاً وأشد إصرارا على تجاوز مجمل التحديات الجسيمة، فخاب رهانهم الخاسر كرهانهم علي عدم زوال دولتهم الاستبدادية، لقوة عتادها العسكري وجبروتها الأمني، فالثوار صمدوا أمام وابل الرصاص فكيف لا يصمدون أمام الظروف البيئة!، لذا كانت عبقرية الإبداع حاضرة بقوة وتفتقت بالهتافات والأناشيد من جديد لتُعلن استمرار قبولها للتحدي، وبأنها أقدر علي إفشال الحرب النفسية وكل التكتيكات التآمرية الأمنية وجرفها الي المزابل! حيث كان الهتاف قبل رمضان بسويعات هو: رمضان يقين ما منو خوف.. واليوم يمر زي بن عوف وفي رواية أخري رمضان كريم ما منو خوف.. واليوم يمر زي بن *عوف!، وهو امتداد للهتاف السابق له قبيل بلوغ رمضان وهو: صائمين رمضان من غير كيزان، بالتشبع بهذا الزخم المعنوي الذي تمدد في كافة ساحة الاعتصام، شرع الثوار في التجهيزات لشهر رمضان المعظم، فنجد وفرة (المشمعات والسباتا)، كما أن بعض الخيام قد أعيد تأهيلها وأضيفت أخري وتم وضع مكيفات ومراوح في بعضها، وفي صبيحة رمضان في اليوم الأول حوالي الساعة ١١ ونص صباحاً تقريباً اقترح بعض الثوار قيام موكب يجوب الاعتصام هدفه رفع الروح المعنوية للثوار فكانت الهتافات الثورية يرتد صداها من مباني القيادة العامة لتؤكد صمود الثوار حتي إستكمال المشوار الثوري، تحقيقاً لمطالبهم في الدولة المدنية الكاملة، فبدأ الموكب صغيراً ورويدا رويدا أثناء خط مساره في داخل ساحة الاعتصام صار موكباَ ضخماً محضوراً من جمهور الثوار.
وفي أثناء ذلك بدأت تظهر القدر والأواني الضخمة تُجهز لوضعها على النار، في اليوم الأول كانت بسيطة ولكنها صارت أكثر تنظيماً بمرور الأيام وكثرت المطابخ ما بين مركزية رئيسية وفرعية ومحطات توزيع للأكل، بالإضافة لحمولات المواطنين للأطعمة والمأكولات والمشروبات وهم داخلين على ساحة الاعتصام (أرفع يدك فوق.. والتفتيش بالذوق) حيث تُشاهد إفساح تروس التفتيش للعربات بالدخول وهي محملة بالمياه الغازية والطبيعية والأطعمة والمشروبات البلدية (وبالسباتا) التي يجلس عليها الثوار عند الإفطار ويُقيمون عليها الصلاة، عند رفع الأذان يدخل الاعتصام في حالة من الصمت الرهيب تتخللها هتافات لبعض الثوار بعد الانتهاء من نداء الآذان مباشرة هدفها التذكير بالقصاص للشهداء، وهي رسالة من الضمير الإنساني اليقظ للعالم أجمع ولمن يهمه الأمر بالداخل، مضمونها التركيز على عدم الإفلات من العقاب! والتأكيد على المطالب الثورية، ويستمر الوضع على وتيرة الهدوء حتى يحين موعد صلاة التراويح، وهي تُشير لسمو الروحانيات في رمضان الاعتصام وكان يُقيمها جمع غفير من الثوار.. وفور انتهاء الثوار من صلاة التراويح يبدأ مهرجان الخطابات السياسية في معظم منصات الخيام وفي المنصة الرئيسية التي اعتلاها عديد المبدعين منهم المبدع المبدئي أبوعركي البخيت والمبدع الثائر أيمن ماو والأستاذ محمد الأمين والمبدعان جعفر السقيد وحافظ طه وغيرهم ، بالإضافة للشعراء أبرزهم القدال وأزهري محمد علي، والثائر الطفل شوقي من الجزيرة أبا وصائدة البمبان الكنداكة رفقة وغيرهم، ولاحقا منصة شارع البلدية التي اعتلاها عديد المتحدثون أبرزهم شيخ المناضلين على محمود حسين، حيث كانت تُبث على بعض القنوات، فضلا عن النشاطات الفردية التوعوية لبعض الثوار والمقابلات التوثيقية معهم فابرزهم الشهيدين عبدالسلام كشة ووليد عبدالرحمن، وبعيدا عن التقييم لها فجميعها كانت متمسكة بالمساهمة في رفع الوعي، تأكيدا لمقولة ثورتنا ثورة وعى، بالإضافة الي إذاعة الاعتصام حيث تبدأ ببث الأهازيج الثورية الوطنية وتخللها المدائح النبوية، فيعود الزخم الثوري للساحة، ويستمر ذلك حتى موعد العشاء فيعم هتاف (اتفضل جاي العشاء بجاي.. وبعد ذلك يتفرق الثوار ما بين التحلق حول المبدعين ما بين مغنيي العود ابزهم المبدع أبوعرب في ساحة مصطفي سيد احمد وغيره من المبدعين والهواة ومقرضي الشعر أو لعب (الكوت شينا والضمنة) والشطرنج حتى موعد السحور، فهنالك من كان يعمل على الاشراف عليه وتجهيزه في بعض المطابخ لتسمع هتاف (يا ثائر قوم أتسحر.. يا صائم قوم أتسحر، والسحور بجاااااااااي .. الرز باللبن..).
هكذا كانت الساحة تسودها قيم التراحم والتكاتف والتضامن، وتُرجم ذلك في (عندك خت .. ما عنك شيل)! فهذا الهتاف وحده يحتاج لحروف وازنة لشرحه في مجلدات ومجلدات، فها هو الشعب السوداني يُعلن للعالم قاطبة بانه متميز، وأنه اقدر على النهوض من تحت الرماد كطائر الفينيق، وصعب المراس وعصي على التركيع ولافظا لكل مناهج إعادة صياغته وزن نهج المشروع الحضاري ، فهو يستحق لقب الشعب المعلم عن جدارة، وساهم في ذلك الدفق الإنساني تضافر كافة جهود أبناؤه في الداخل والخارج ومن هنا التحية الواجبة لكل أبناء الشعب السوداني على امتداد كوكب الأرض بدعهم اللامحدود للاعتصام ولوقفتهم الصلبة المشرفة في مسيرة ثورة ديسمبر المجيدة، ولكن هذه اللوحة الإنسانية الفريدة كانت تتربص بها القوى الظلامية وتُحيك لها المؤامرات فحاولت مرات ومرات لفض هذا الاعتصام بقانون القوة والجبروت مستغلة لما حازته من إمكانيات مهولة امتصتها من خيرات وموارد الشعب، عند سيادة قانون الفساد والإفساد طيلة ثلاثون عاماً من النهب! فلم تستطيع معه صبرا فزلزل عروشهم وتوجه مؤشر بوصلته نحو تفكيك مصالحهم وامتيازاتهم لصالح دولة المساواة والقانون والمؤسسات فدب فيهم الرعب ، وفي مثل هذا اليوم الثامن من رمضان دوهم الاعتصام بقوى الغدر في شارع النيل وعند شارعي الجامعة والجمهورية حيث بدأت المناوشات صباحاً وزادت وتيرتها أثناء وبعد الإفطار مباشرة، ولكن كان الثوار البواسل في الموعد، ورغم انهمار الرصاص وسقوط المصابين واستشهاد الأكرم منا جميعا، إلا أن الثوار ضربوا أروع أنواع الصمود والجسارة وكما العهد على المضي قدما في طريق التغيير الثوري، الذي يزيدون عنه بغالي الأنفس والأرواح، فهدرت الهتافات التي تُثير الزعر والرعب في قلوب السفاحين، فتولد لحظتها هتاف (إسعاف وراء إسعاف.. مرحب حباب الموت.. والله ما بنخاف)! و(يا أنت يا وطنك.. جهز عديل كفنك) وإثر ذلك تمدد التروس التصعيدية بشارع الجمهورية حتى وصلت مبني وزارة العدل، وبشارع النيل حتى وصلت أسفل كبري المك نمر واستمرت لمدة ثلاثة أيام، وبعدها ظهر أجاويد قوى الحرية والتغيير وبعض أعضاء تجمع المهنيين، يترجون رجوع الثوار لما ابتدعوه وقتذاك فيما سُمي بحدود الاعتصام، والتوضيح لخريطة الاعتصام عندما سألت إحدى الكنداكات في تلك المخاطبة كيف نعرف حدود الاعتصام؟ فكانت الإجابة ستُنشر خريطة في صفحة التجمع كما طُلب من الثوار الرجوع الي حدود تقاطع كلية الهندسة مع وزارة الصحة الاتحادية ساعتها، وفي ذلك الأمر تفاصيل يمكن رواية ملابساتها لاحقاً، ويمكن الرجوع لعدسات الثوار التي وثقت لهذه اللحظة من عمر الاعتصام، في مثل هذا اليوم من العام 2019 فقدنا أنفس عزيزة سطرت حكايتها بمداد الدم في سفر الخلود، المجد والفخار لهم، وللأسف رغم مرور عامين كاملين ما زالت أرواحهم تنتظر القصاص وما زالت حناجر الثوار معبأة بالهتاف لأجل القصاص من القتلة المجرمين (الدم قصاد الدم.. ما بنقبل الدية)، وما زالت أمهات وأباء الشهداء محروقي الحشا يترقبون فجر العدالة الذي طال انتظاره.
نجد أن محاولة فض الاعتصام في الثامن من رمضان وغيرها كانت عبارة عن تكتيكي تدريبي استعدادا لحرب الفض الكبرى، وفي التاسع وعشرون من الشهر المعظم الموافق الثالث من يونيو للعام 2019 انتُهكت حرمة الشهر العظيم بجريمة فض الاعتصام أمام مبني القيادة العامة للقوات المسلحة! والتي استحقت لقب مجزرة القرن، لأنها من نوع الجرائم ضد الإنسانية فضلاً عن حدوثها أمام مرآي ومسمع العالم أجمع، وما زالت لجنة التحقيق الوطنية في هذه الجريمة الإنسانية تتلكأ وتُمارس التسويف باحترافية، وتتعلل بحجج واهية تُعري نفسها أولاً وحكومتها ثانيا، كما تُدلل على ضعف الإرادة والجدية في هذا الملف الحيوي الذي لا يقبل المساومة، فهل لم تهز ضمائرهم الجثث الملقاة في النيل؟ ولا المفقودين ولا الجثث في المقابر الجماعية؟ ولا الجثث المكدسة في المشارح؟ التي تظهر بين الفينة والأخرى وآخرها جثث مشرحة المستشفى الأكاديمي، لتعلن عن وجودها في هذا الموات الضميرى! لذا فلابد من القصاص وإن طال الإهمال للمنظومة القانونية والقضائية والحقوقية، ختاما حكاوى نضالات الثورة الممزوجة بالجراحات التي لن تندمل، ولم ولن تُمحى من ذاكرة الشعوب وبالإشراقات الفريدة بصورة عامة وعن اعتصام القيادة بصورة خاصة تطول وتطول، ولابد للثوار ولجميع الكتاب والمبدعين والصحفيين والإعلاميين السودانيين وغيرهم، إن يهتموا عملياً بالتوثيق لهذه الثورة المتفردة، وسبر أغوارها بدراستها فلسفياَ في الإطار الاجتماعي السياسي الاقتصادي الثقافي، والجيوسياسي حتى لا تتسرب بداء الاهمال من بين أيدينا، وبالانغماس في المعترك اليومي في مسيرة استمرارية الثورة، كي نُقدم للبشرية منجزاً سودانياً ناضجاً مكتمل التوثيق، فعذراً أيها الفيلسوف أفلاطون فقد جاء بعدك بقرون طويلة من أبناء هذا الشعب السوداني الجسور، وتجاوزوا تصوراتك تلك وحققوا دولة ما بعد المدينة الفاضلة.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …