إتفاقية (البقط) بين {روما} و{كوش}
د. حسن محمود :
تعتبر أطول الإتفاقيات استمرارا بين دولتين عبر التاريخ وقد كان لها تأثيرات عميقة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقدية استمرت، منذ توقيعها في مدينة {مروي} عاصمة {كوش} بين الملكة السودانية {الكنداكة أماني شاخيتي}وعاهل روما {أغسطس قيصر} بعد أن احتل مصر في بدايات القرن الأول الميلادي وهي اتفاقية تشمل ثلاثة محاور:
• ترسيم حدود
• بروتوكول أمني
• تبادل تجاري
استمر الالتزام بالاتفاقية أيام الملوك البليميين الذين حافظوا عليها وألزموا الرومان باحترامها، رغم أن الرومان قد تخاذلوا عن الالتزام بالاتفاقية بعد أن أحسوا قوة الجيوش الكوشية وضعف قواتهم، كما واجهوا هجمات استفزازية من عصابات البجا التي كانت تهاجم تجمعاتهم كل ما أحسوا بأن الرومان ينوون التشرذم والتجمع لتكوين قواعد عسكرية، فاتفقوا مع{ الديوكلشيان} وهم فلول جيوش{الأنباط} الذين كانوا مع الملكة زنوبيا في مصر، ثم هربوا إلى الواحات الخارجة بعد هزيمة زنوبيا وشكلوا عصابات مهددة لهم ، فاتفقوا معهم لتشكيل دولة حاجزة بين الحدود المصرية الجنوبية ودولة {كوش}.
استمر العمل بها حتى قيام الممالك النوبية المسيحية وتواصلت عندما دانت مصر لجيوش المسلمين، وكانت تخضع للمراجعة والتعديلات مع كل عهد.
في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وجه {عمرو بن العاص} وكان والياً لمصر عددا من الحملات واجهها النوبة بعنف وصلابة شديدتين وهي نفس الصلابة التي واجه بها الكوشيون من قبل الحملات الرومانية وغيرها من حملات الغزو السابقة التي أرسلها الفرس والبطالمة وغيرهم، فكفَّ الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه عن مهاجمة المناطق جنوب الحدود المصرية، وحين تولى عبد الله بن أبي السرح ولاية مصر بعد عمرو بن العاص عاود الهجوم على بلاد النوبة بنفسه ولم يقدر عليهم فجدد معهم معاهدة {البقط}.
قال ابن لهيعة : حدثني الحارث بن يزيد قال : اقتتلوا قتالا شديدا { أي عسكر عبد الله بن أبي السرح والنوبة} وأصيبت يومئذ عين معاوية بن خديج وأبي شمر أبرهة الصباح وجبريل بن ناشر وكثير غيرهم من جيش ابن أبي السرح فسماهم المسلمون {رماة الحدق} وقال الشاعر :
لم تر عيني مثل يوم {دمقلة}* والخيل تعدو والدروع مثقلة
ترى الحماة حولها مجندلة كأن أرواح الجميع مهملة
*و{دمقلة} هي {دنقلا}
ظلت هذه المعاهدة تنظم العلاقة بين مصر وبلاد النوبة بعد تجديدها سنة31هـ 651م حتى سنة723هـ 1223هـ وهي السنة التي استقر فيها النوبة المستعربون من بني الكنز جنوب مصر فاعترف لهم السلطان الناصر محمد بن قلاوون 693 -741هـ بذلك وواصل معهم الاتفاقية نفسها، وقد أحدثت تلك الفترة كثيرا من المؤثرات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على أوطان النوبة مما كان له أكبر الأثر في تحول مستقبل البلاد والمناطق المجاورة لها.
• كلمة {بكت} باللغة المروية تعني العدل أو التعادل والتساوي وهو نفس المعنى حالياً بلغة الدناقلة والمحس والبجا مع اختلافات طفيفة في النطق.
• وكلمة Bactum باللغة اللاتينية لها نفس المعنى، ويبدو أنها تسللت إلى اللاتينية من اللغة المروية منذ تلك المعاهدة شأنها شأن كلمة Candace التي تعنى الكنداكة أو الملكة ولازال الاسم كانديس أو كانداسي تحمله الكثيرات من نساء أوروبا وأمريكا الآن ومعناها في لغاتهم(ملكة).
هذه المعاهدة موجودة عند الرومان حتى الآن، وهي أقدم مستند لتحديد الحدود السودانية المصرية ويحدد آبار شلاتين بأنها من أراضي {البجاة} فهي أقدم بكثير من اتفاقيات الحكم الثنائي.
استندت جامعتي {هارفارد} و{بوستن}علي هذه الإتفاقية حسب النص الموجود في متاحف روما لتحديد الحدود الشمالية الفاصلة بين السودان ومصر والتي تمتد من شمال {أسوان} الحالية حيث تحددت في الإتفاقية بحصن{سني آمون} وهو شمال {أسوان} ووضعت خريطة لتلك الحدود ينكرها المصريون ولم يسع للبحث عنها السودانيون.
يصر المصريون على ضم منطقة (مثلث آبار شلاتين ومنطقة حلايب) إلى الحدود المصرية لأسباب منطقية حسب مفهومهم، فمؤسس الحضارة المصرية الأولى منذ ما قبل عصر الأسر حسب ما ورد في النقوش المصرية القديمة هو:( الإله الفتى {ددون} القادم من مناطق الجنوب الشرقي – محددة تقريباً في النص منطقة البجاة في شلاتين-) وهذه المعلومة توضح أن الحضارة المصرية، بل ومصر عموماً ليس لها أي هوية تحدد أصلا مقيماً لحضارتها أو سكانها أوتاريخها، فحضارتها الأولى وافدة من مناطق البجاة في حلايب وشلاتين، وتاريخها كتبه لها الوافدون والغزاة ، وسكانها هجين من الأجناس المتعددة التي تبادلت إحتلالها وحكمها عبر القرون، فهم مزيج من اليونان والرومان والفينيقيين والترك والمماليك على اختلاف أعراقهم، والعرب والبربر والأوربيين ويصعب الحصر.
لهذه الأسباب فالمصريون يبحثون عن خيط يربطهم بأي أصول، كما يحاربون بضراوة كل من يتحدث عن سمات مميزة للحضارة النوبية أو يفصل بين الحضارة النوبية والمصرية ، فهم يعتبرون النوبيون قديماً تبعا للمصرين، كما يعتبرون السودان حديثاً تابعاً لمصر بحق الفتح’ رغم أن الغزو التركي للسودان في عهد محمد علي باشا، أوالإنجليزي في عهد كتشنر، تم باسم الأتراك والإنجليز وليس مصر التي كانت هي نفسها مستعمرة تركية، كما كانت مطية للحكم الإنجليزي الذي كان ثنائياً بالإسم حتي قام الإنجليز بطرد المصريين من السودان حينما أرادوا ذلك.
ومصر عبر تاريخها كانت مستعمرة تحت الإحتلال، ليس لهم تجربة في حكم أنفسهم أبداً بل ظلوا دائما تحت حكم أمم غازية محتلة، لم يحكمها المصريون قط، بينما السودان لم يكن مستعمرا عبر تاريخه قط، سوى فترة الحكم التركي{1821-1885م} والإنجليزي{1898-1956م}.
ومجموع الفترتين لا يمثل كماً طويلا في عمر الأمم، بينما ظلت مصر تحت الإحتلال عدة قرون، فمنذ ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام، أول مصري يحكم مصر هو جمال عبد الناصر.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …