ولدتني أمِّي اليوم
بابكر الوسيلة:
هذا هو وجه أمِّي، وجه الأرض التي وُلدتُ وتربَّيت عليها، أرضي، وجه الشُّلوخ المضيئة. كلَّ يوم أتأمَّل العالم وأنا أصعد بعزَّة على تلالها، بينما رائحة أمِّي المشبَّعة بالطِّين والعرق، لم تكن سوى تكوين يوميٍّ للعالم، عالمي. ومن هنا تبدأ الخليقة، خليقتي.
أيُّ سرٍّ كامن خلف شلوخك يا أمِّي! هضاب ومرتفعات وسهول وطين وأنهار ونجوم؛ إذ يمكنني، وبجهد قليل، من وجه أمِّي أن أدرس علوم الفلك والطَّبيعة في تخلُّقها الأوَّليِّ، وقبل هذا علوم النَّفس الأمَّارة بالحب. وهذ بالضَّبط ما حدث بكلِّ محبَّة ودفق ربَّاني عزيز، ولهذا، حتماً، جاءت القصيدة؛ أليس الشِّعر، في الأخير، هو دراسة متعمِّقة في علوم الفلك والطَّبيعة والإنسان، بمعنى ما؟!
ومن وجه أمِّي، تفقَّهت في الأسطورة، ولهذا يبقى وجهها الآسر ، ما وراء الرُّوح، سرِّيَّاً ككنز لم يُكتشف بعد.
كيف يمكن شكر هذا الوجه على هذه الجاذبيَّة التي وهبني إيَّاها، الجاذبيَّة نحو قمر يجلس القرفصاء في سماء المخيِّلة يتأمَّل وجهها. شكره على الجذب نحو موجة عاشقة من سُلالة النِّيل، نحو طينة طيْبة برائحة النَّاس وأشجار العافية التى تُعرِّش على سماء البيوت بظلِّ ظليل الورف، سودانيِّ الثِّمار؟!
يفوق كلَّ وصف، ما تحت أقدامها التي تشقَّقت من أجل أن أكتب على ورق الدَّرس حرفيَ الأوَّل، ليس بوضوح كافٍ، وإنَّما أيضاً ببلاغة أخَّاذة وجمال بليغ كما كانت ترجو، فهي جميلة تحبُّ الجمال ويحبُّها جدَّاً والضَّحكات الحاضنة، وهي إذ تعمل بتروٍّ على التَّغذية والتَّروية؛ فإنَّها كانت تُربِّي الأمل على النُّهوض إلى قلوبنا اليافعة.
صحيحٌ أنَّني بعدها، أي بعد مغادرتها المنزل، وإلى الأبد، ومغادرة المنزل معها كأنَّه يتشبَّث بطرف ثوبها كطفل معاند، صرتُ مسكيناً ومركوناً وهامداً كقطعة قماش قديمة مرميَّة في كومة شارع، صرتُ متبلَّد الحسِّ منطفئ الشَّرارة، ومقصوص الرَّغبات وبارد العناق؛ لكنَّ الطَّاقة التَّربويَّة الكامنة نتاج ضحكاتها المرفرفة بين فضاءات النَّاس نسمة نسمة، ويدها الخضراء وعرقها المسكوب من حرارة التَّضحية، وعملها الدَّؤوب من أجلنا جميعاً، هو ما يُبقيني حتَّى الآن بين هذه الجموع ساعياً على النَّار، أدافع معها وأتدافع بقدر الإمكان من أجل وجود جميل يستحقُّه وجهها الغائب المتوَّج الحضور، المُخلَّد في الرُّوح، فلطالما كان النِّضال، بكلِّ ما تعني هذه الكلمة من معاني المثابرة، هو السِّرُّ الذي جعل حياتنا تنبع من بين يديها، وتصبُّ في مجرى الجميع؛ إذ إنَّ خير النَّاس أنفعهم للنَّاس في المعنى الأخير للحياة.
شكراً يا ملكة الرُّوح
يا سليلة الحبِّ
وجه أمي
بورتريه: صلاح بابكر
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …