الغرب البربري، أفريقيا المتحضرة
عبد الله علي إبراهيم:
سئل جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند الأسبق، عن رأيه في الحضارة
الغربية. فقال: “إنها فكرة رائعة متى ظهرت إلى حيز الوجود”. وهو اتهام غير خفي للغرب بالبربرية والتوحش من رجل اكتوى وطنه بالاستعمار لقرون طويلة.
ومن سوء الطالع أننا في البلدان حديثة الاستقلال لم نعط كلمة نهرو حقها بمواصلة التعرف ودرس أوربا المتوحشة. فلم نكد نظفر بالاستقلال حتى اشتكينا مما فرضه الاستعمار علينا في تعلم لغته، ومعرفة تاريخه وثقافته، في حين حرمنا من معرفة إرثنا ومعارفنا. وأصبح التخلص من معارف أوربا، أو الجهل بها، نوعاً من الوطنية بينما استوجبت (وما تزال تستوجب) غريزة البقاء من المستضعفين أمثالنا أن نعمق معرفتنا بأوربا. فامتلاكنا ناصية السلطان الأوربي هو أوسع المداخل للتعرف على أنفسنا وأصحها. فأكثر تاريخنا، وأخطره، إنما هو تاريخ استضعاف أوربا أو الغرب لنا. فمن باب الجهل بالنفس والذات أن تطلب معرفتها بمعزل عن شروط القهر والمهانة والاستصغار التي طبعت أوربا بها هذه النفس، أو الذات، في أول الأمر.
أتيح لي مؤخراً قراءة كلمة عن توحش أوربا. فقد تناولت الكلمة الإجراءات العلمية والإدارية التي اتخذتها سويسرا (الغراء المحايدة) بين عام 1926 إلى عام 1972 لتوطين الحلب فيها إجبارياً بعقيدة أن الترحال تشرد ونشاط لا يقوم به إلا ضعاف الأحلام. فهو ليس عز العرب كما نقول. وجرى تنفيذ توطين الحلب الإجباري في إطار نشأة علم “اليوجنيكس” وتفاقم الحركات القومية الشاذة مثل الفاشية والنازية.
و “اليوجنيكس”، بكلمة، هو علم صفاء واستعلاء الجنس الآري، وهو الجنس الأوربي، وفصله عن الأجناس الخسيسة الأخرى مثل اليهود والحلب. ومن علماء اليوجنيكس الفرنسي، الكسس كاربيل، الذي فاز بجائزة نوبل للطب عام 1912. وهو مؤلف كتاب مشهور عنوانه “انحدار الغرب” أخذ منه سيد قطب مفهوماته عن جاهلية المجتمع ووجوب انتباذه من صفوة العقيدة لتغير ما به.
رأى السويسريون أن الحلب جنس رخيص، لا دار له، وحايم على رجل كلب. والحضارة هي سكن الحضر. واتجهت جهود حكومة سويسرا لاستئصال ترحال الحلب من منابعه بالتركيز على استنقاذ أطفالهم من نحل أجدادهم. فأخذت تنزعهم من أسرهم، وتضعهم في ملاجئ الأيتام، أو مع أسر تتبناهم لتُعاد صياغتهم في عز الحضر ورقيه. وخضع هؤلاء الأطفال لأبحاث علمية لمعرفة سر تخلف أهلهم الذي يسوقهم إلى التجوال ونبذ حياة الحضر. وقد استهدف النظام النازي في ألمانيا الحلب استهدافه لليهود وقتل منهم نحو مليون رجل وامرأة.
إن الرحيل عندنا عز العرب. وهو، كأسلوب حياتي، قد لا يعجب أهل القرى (أو أهل الحلة كما يقول البدو). ولكننا لم نسمع من سعى لتوطينهم بالقوة الجبرية. على أن بعض إداريينا المحدثين، الذين أصابتهم عقيدة أن “الحلة” هي أساس الأوطان، وأن الرحالة السيارة هم خصوم الدولة الحديثة، كادوا أن يجعلوا من توطين الرحل نصاً إدارياً مقدساً. فقد قرأت في إحدى فايلات مجلس ريفي الكبابيش تقريراً لإداري يقول إن نُشدان الوحدة الوطنية عسير طالما كانت جماعات الرحل هذه شائعة ضاربة على وجه الأرض. ووصفها بالبدائية وأنها تعيد للأذهان صور العصور الأولى من تاريخ البشرية يوم كان الإنسان لا يعرف غير الرعي والصيد.
وقد شفاني من هذا الفكر السقيم، الذي يحتقر أهله نيابة عن الغرب الذي علمنا هذه الخرافات، ما قرأته في وقت باكر للبروفسير طلال أسد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة مدينة نيويورك، في مجلة السودان في رسائل ومدونات. فقد درس طلال مراحيل أهلنا الكبابيش في أوائل الستينات وتوصل إلى أن مساراتهم فعل اقتصادي راشد لأنه يستثمر إمكانيات بيئتهم الشحيحة بكفاءة وذكاء ورصانة.
وددت لو أولينا دراسة الغرب مزيد عناية من ذلك أن ينشأ في إحدى جامعاتنا معهد للدراسات الغربية. فالغرب مثل الذبابة التي وردت في حديث النبي عليه أفضل الصلوات: في جناح لها الداء وفي الجناح الآخر الشفاء. فلنغمسه كله في دائرة معارفنا.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …