‫الرئيسية‬ آخر الأخبار شيخنا اسمه عبد الكريم الكابلي!
آخر الأخبار - أبريل 24, 2022

شيخنا اسمه عبد الكريم الكابلي!

أحمد الملك:

الليل عاد والشوق زاد، اذكر جدتي بملابسها البيضاء جالسة في غرفة جانبية يملأها ضوء الصباح المتسرب من النوافذ الكبيرة، وتعبق برائحة الحقول، رائحة الخبز الساخن ورائحة القهوة الطازجة، عبر الزمن يبدو ايقاع الحياة مختلفا، خاملا، يبدو الزمن مرئيا، شفافا، مخلوطا بضوء الضُحى، ورائحة النُوّار، نُوّار أشجار النيم ونُوّار الليمون، صوت الكابلي الذي يتسرب مثل الحلم عبر الازمنة، يتردد في موجات ضوئية تغمر غرف البيت وفنائه الواسع المفروش بالرمل الاحمر، تصطدم بالغرباء الذين يعبرون فناء البيت حاملين امتعتهم القليلة في متاهة الرحلة اليومية الى المجهول..
في الخارج أمام المضيفة التي تحيط بها اشجار النيم واشجار الاركويت، أري العم علي جالسا يفترش الارض بجوال الملابس التي يعرضها للبيع، سراويل من قماش الدبلان، جلاليب و(عراريق) من قماش التترون، يتوقف دائما هناك ويخلد للنوم بمجرد ان يطأ جسده الارض، يبقي في انتظار ان تمر سيارة عابرة، أيا كان اتجاهها فهو علي استعداد ليستقلها، لديه مشاوير مؤجلة شمالا وجنوبا، يستغل اصحاب السيارات نومه يناورون لتفادي جسده النائم في وسط الشارع وينطلقون في طريقهم.
اذكر ان الوالد لم يكن يحبه، لم تكن لديه معه مشكلة ما، كان يراه فضوليا يقتحم البيوت دون احم او دستور، مرة كان معنا عمال يحفرون بئرا ارتوازية وسبّب وجودهم هلعا تنظيميا في البيت، سعيدة تعوس الكسرة وزينب دكر تجلب الوقود، ووالدتي تعد الملاح، ونحن نساعد في كل شيء، في خضم الزحام جاء من يقول ان عم علي في الخارج، كان الوالد يبحث في تلك اللحظة عن فكة جنيه ليدفع عشرين قرشا لحطّاب أحضر ثلاثة امتار من الخشب، حين سمع ان عم علي في الخارج أعلن علي الفور : سأذهب لأطرده !.
ذهبنا من خلفه لنتفرج على المشاجرة، لكننا وجدنا الوالد يجلس معه فيما عم علي يحسب فكة الجنيه: ستين ، خمسة وستين، سبعين، خمسة وسبعين، وقال الوالد حين رآنا : اجروا جيبوا الفطور .!
كانت تلك بداية صداقة بينهما لم تعمر طويلا بسبب وفاة العم علي المفاجئة، بسبب عشقه الازلي للنوم في الشارع في انتظار قدوم السيارات، وفي النهاية صدمته سيارة كومر قديمة خالية من الفرامل وبها ماكينة ضخمة تكفي لاستخدامها لإطلاق صاروخ باليستي .
كنا نتحلق حول العم علي في انتظار ان تمر سيارة، يحاكي اصوات الحيوانات، ويحكي قصة الضفدعة الصغيرة التي تنادي امها بلهجة الضفادع: يمة شيليني !
فتقول الام ، شايلة ابوك !
فيقول الصغير الماكر : فوق راي !
جمال المزارع الشاب الذي كان يطمح لتغيير حياته، يبيع الخضروات التي يزرعها للعابرين وللغجر، وفي النهاية افلست تجارته فقد احب احدي بنات الغجر، وبسبب ضعف قلبه تم استنزافه اقتصاديا، فكان يبيع لهم الجرجير والملوخية دون مقابل او يحصل علي مقابل عاطفي لا يمكن احصائه مثل النقود .
في عطلة الصيف نتوزع لرعاية البهائم، كان لدينا بقرتين وعدد من الاغنام والضأن، تحتاج المزرعة لجهد كبير لسقي اشجار النخيل، منذ مطلع الثمانينات ظهرت موجة الجفاف التي ادت الي تراجع منسوب المياه الجوفية، فبدأت اشجار النخيل تجف، كانت تلك علامة سيئة، فمحصول التمر هو الشيء الوحيد الذي يحصل عليه الناس هنا دون تكلفة، بينما تكلفة الانتاج الزراعي عموما عالية جدا، فعلى المزارع ان يحرث الارض ويجهزها، وعليه تركيب طلمبة تسحب الماء من بئر عميقة يجب تنظيفها سنويا وعملية التنظيف مكلّفة يقوم بها مختصون، كذلك لابد من استخدام محرك ديزل لسحب الماء، قطع غيار المحركات غالية ويستهلك المحرك الكثير من الوقود، وبسبب بدء تراجع القوة الشرائية بدا الناس في شراء قطع الغيار الهندية لوابورات الليستر الانجليزية. قطع الغيار الهندية رخيصة الثمن لكنها لا تعمر كثيرا ويجب استبدالها كل فترة بعكس قطع الغيار الانجليزية التي تعمّر لسنوات. الغريب ان البضاعة الهندية ظلت تتراجع جودتها حتى اصبح عاديا في تسعينات الانقاذ ان تشتري قطع الغيار الهندية وتقوم بتركيبها ثم تكتشف انها لا تعمل! أذكر احد اقاربنا كان يكره قطع الغيار الهندية لكنه مضطر لاستخدامها بسبب رخص ثمنها، قضى ليلة في المدينة بسبب مرض شقيقته، في المساء طلب ابنائه بعض المال للذهاب الى السينما، سألهم عن الفلم الذي سيذهبون لمشاهدته فاعلن أحدهم: فلم هندي!
أعلن قريبنا:
لعنة الله على الهنود وعلى اسبيراتهم!!
حين بدأت اشجار النخيل تجف، قام قليل من المزارعين بمحاولة سقيها او زراعة علف من حولها في موسم الصيف الحار، لكن الاكثرية تركوها تواجه مصيرها المحتوم، وفي السنوات الاخيرة كان محزنا ان تري مشهد آلاف الاشجار وهي تجف وتموت واقفة او تسقط بسبب الرياح، الغريب ان ما حدث لأشجار النخيل، تكرر بنفس الطريقة المأساوية علي الناس في المنطقة عموما، اعتاد الناس هنا ان يعيشوا في هدوء يزرعون ما يكفيهم ويساعدهم انتاج النخيل، يربون الضأن والماعز للاستفادة من اللبن وللطوارئ لبيعها ان استدعت الظروف السفر، لدي وفاة قريب عزيز بعيد عنهم او زواج قريب عزيز ايضا في الخرطوم او اي مدينة اخري، او كمصروفات للأولاد الذين يُقبلون في مدارس بعيدة، لم يكن هناك قلق من منصرفات غير متوقعة في حالة المرض أو العجز، فالدولة كانت تدفع تكلفة العلاج وتعليم الاطفال.
منذ مطلع عقد تسعينات القرن المنصرم، تبدلت الاحوال بعد وصول تجّار الدين الى السلطة عبر الخديعة والانقلاب على النظام الديمقراطي. عانى الناس العوز الشديد للمرة الاولى، بعضهم سحب اطفاله من المدارس بعد ان اصبحت مجرد شركات واصبح العلم معروضا للبيع لمن يستطيع الدفع وليس حقا تكفله الدولة لمواطنيها الفقراء، واصبح العلاج مكلفا، ورُفع الدعم عن الوقود وكل السلع الأساسية، قبع الكثيرون داخل بيوتهم، حتي لا يضطروا لاستجداء الناس ومات الكثيرون، واقفين مثلهم مثل اشجار النخيل. .
الطاهر العاشق للموسيقي خاصة موسيقي الطمبور ، كان عاشقا لأغاني النعام ادم وحتي لا يسرق احدهم شرائط الكاسيت التي تحوي اغنياته كان يقوم بدفنها ارضا، كنا نقول له ان التراب سيتلف الشرائط، لكنه كان يصر علي ان تلك الطريقة الوحيدة المضمونة لحفظها .
عوض يتحلق حوله الناس في ايام وليالي الصيف يحكي مقالبه وحكاياته، ذات مرة كان الناس يسمرون في حلقات حول اشجار النيم حين سمعوا فجأة صوت نهيق حمار الحاج عبدالله المميز، وفي لحظات ولى الجميع الادبار واختفوا داخل نبات الذرة، كان الحاج عبد الله عليه رحمة الله رجلا من افاضل الناس، كان ناشطا في مجال العمل الخيري العام: بناء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، ولأنّ عين الحكومات كانت دائما بصيرة في تقديم الخدمات ويدها قصيرة، وان كانت دائما طويلة فيما يختص بملاحقة الناس وقطع ارزاقهم، كان الحاج عبدالله يعتمد في الخدمات التي يقدمها علي المساعدات القليلة التي يحصل عليها من بعض أهل الخير او من المغتربين خارج الوطن .
وقد حكي لي مرة انه ذهب في زيارة للسعودية للحصول علي دعم من المغتربين، وكان آنذاك يقوم بالعمل في انجاز مشروع مستشفى في منطقة السير القريبة من مدينة ارقو، كان المغتربون الذين تبنوا دعم المشروع من البداية قد شعروا بعد مرور عدة سنوات، ان مشروع البناء سيستمر الى الأبد، فقرروا التوقف عن دعمه حتى يتم اعلان موعد افتتاح المستشفى، لم يكن هناك في ذلك الوقت واتساب او فيسبوك فلم يعرفوا ان الحاج قام حين شعر ان زيارة طلب الدعم غير مرحب بها، بافتتاح المستشفى على عجل قبل سفره بيوم واحد.
قام قبل سفره بإحضار أحد الضباط الإداريين من مدينة دنقلا، حضر الضابط على عجل ومعه رجل شرطة ومصور فوتوغرافي، وبسبب العجلة لم يعثروا على شريط قماشي ليقوم الضيف بقصه إيذانا بافتتاح المستشفى، فاستعاضوا عنه بحبل من ليف النخيل!
وفي الاجتماع الذي ضم الوفد مع المغتربين وقف احدهم وكان مدرسا للغة العربية وقال :
لقد اصبح حلم افتتاح هذا المستشفى مستحيلا مثله مثل الغول والعنقاء والخل الوفي، فهل يا ترى سنرى افتتاحه يوما ما ونحن على قيد الحياة؟ أم أنّ احفادنا سيقومون بذلك!
قال الحاج للسائل واسمه عبدالله:
اهنئك يا عبدالله!
قال أستاذ اللغة العربية : على ماذا تهنئني؟
أوضح الحاج: لقد تم افتتاح المستشفى وجاء والدك وامك ورقدا فيه ستاشر يوما وخرجا !
سكت عبدالله علي الفور ولم يتكلم مرة اخري.
وكدليل دامغ عرض عليهم الحاج صور افتتاح المستشفى ولحسن الحظ لم تكن الصور واضحة جدا فلم يلحظ أحد (فضيحة) حبل العشميق!
نهض مغترب اخر وقال : لماذا احضرت في وفدك صلاح هذا رغم ان الجميع يعرفون انك تختلف معه وان بينكما مشاكل حزبية! .

قال الحاج عبدالله :
صلاح لم يدخل معنا لجنة المستشفى من البداية، فلم (يأكل شيئا) ، فشال حالنا في كل مكان، جبناه معنا ليأكل شيئا ويمسك خشمه !

ضحك الجميع وأمسكوا ( خشومهم) وان لم يستطيعوا الامساك بجيوبهم. !
نعود لعوض ، حين سمع الناس صوت حمار الحاج لاذوا بالفرار خوفا من اجبارهم على دفع التبرعات بسبب ضيق ذات اليد، وجد عوض عمه الحسن وكان ضريرا فأشار له ليجري علي اتجاه عكس الاتجاه الذي كان يجري فيه الضرير، سيجعله يجري في نفس الاتجاه الذي سيأتي منه الحاج .
فيما كان الرجل الضرير يجري استوقفه شخص ما وسأله لماذا يجري .
قال الرجل الضرير : الحاج عبدالله ما جننا كرّهنا العيشة .
قال السائل : انا حاج عبدالله !
فقال الرجل الضرير : الرجل الطيب !.

عوض اشتهر بمقالبه وذات مرة وكان لا يزال صبيا ايقظه والده في الرابعة صباحا ليحلب البقرة وكان معهم ضيوف
استيقظ عوض منزعجا وقال :
يا ابوي الدنيا لسع بدري والبقرة ذاتها لسة نايمة !
تراجع الاب مصدقا ان البقرة قد تكون نائمة ولا داعي لإزعاجها في هذا الوقت المبكر بهذا الامر غير الهام !
حكي لي الحاج عبدالله انه بعد ان قامت حكومة نميري بحل الادارة الاهلية وعينت بعض من لديهم خبرة في حل النزاعات، كقضاة شعبيين، انه تم تعيينه كرئيس للمحكمة الشعبية وفي اول قضية يفصل فيها، كانت الشاكية امرأة دهشت حين وجدته يجلس في مقعد رئيس المحكمة، وكانت تعرفه ويبدو انها لم تكن تسمع جهاز الراديو فلم تسمع بحل الادارات الاهلية .
قالت له هل اصبحت القاضي ؟
فقال نعم .
قالت له : مكان الشيخ الزبير ؟!
فقال نعم
قالت له : سبحان الله !
وسكتت قليلا قبل ان تردف باللغة النوبية وهو يجلس مستمعا لها مخفيا ابتسامته خلف وقار قانوني طيب: :
(البحر لامن يبقي خسيس الحمار كمان يخوضو) !
لم يشأ أن يبدأ حياته (القانونية) بمحاكمة امرأة بتهمة إهانة المحكمة الموقرة، فتجاهل تعليقها الحماري وكأنّ شيئا لم يكن.
حكي لي حاج عبدالله انه حضر احتفال استقبال اول والي يعين في الولاية وحضر الحفل احد رموز الانقاذ، طلب الحاج ان يشارك بكلمة وحين جاء دوره قال : (زمان كان لامن دايرين يشتمونا يقولوا لينا : الهي ما تلقي الوالي : الحمدلله هسع واشار للوالي : لقينا الوالي) !
قال ان الرمز الانقاذي سأله من اين تعلمت هذه الفصاحة يا حاج؟
فقال له : انا في العمل العام اكثر من خمس وخمسين سنة وماجيت ناطي فيه بعكاز ذيك !

ذات مرة كنت في سوق مدينة السير، كانت السنوات قد مرت وعملت معلما في مدرسته الثانوية الشعبية، سمعت في السوق ان رجلا من القرية ينتمي لجماعة انصار السنة المحمدية معتقل عند جهاز الامن وانه يتعرض للتعذيب هناك، بعد عودتي من السوق ذهبت للمدرسة فوجدته يجلس امام بيته في ظلال شجرة المسكيت، قلت له بصفتك رئيسا للجنة الشعبية للقرية هل ذهبت تسأل عن اسباب اعتقال الرجل، فقال لي ببساطة اسأل عنه؟ (أنا الرميته هناك!)! !
استوضحته كيف حدث ذلك
قال لي انه حدثت مشاجرة في المقابر، اثناء تشييع احد المتوفين، حين لام مواطن من حزب الحكومة مواطن من جماعة انصار السنة لأنه لم يقدم له واجب العزاء في ابنه (الشهيد)، الذي توفي في الحرب (الجهادية) التي شنّها النظام الانقاذي في الجنوب.
كانت هناك آنذاك مشاكل واحتكاكات بين انصار السنة والكيزان، رد عليه انصار السنة بجفاء : القال ليك هو شهيد منو ؟
تدخل الحاج لتهدئة الموقف باعتباره كبير البلد، لكن انصار السنة المنفعل لم يعره اهتماما، او احتراما فكانت النتيجة ان وجد نفسه بعد يومين يواجه العذاب الدنيوي في جهاز الامن !
قلت له يا حاج انت مالك ومال مشاكل الكيزان وانصار السنة، خليك في حالك بعدين انت ذاتك ما عندك مشكلة مع اي زول، لكن انا شايف ان استاذ عثمان (وهو احد الرموز الكيزانية في القرية) دافرك في الكلام دة، وختمت قولي : الكوز دة قاعد يلعب بيك!
أغضبه كلامي فقاطعني : صلي علي النبي يا خينا ، والله ابوه ما يلعب بي !
حاولت ان اتحادث معه لحل موضوع الشخص المعتقل لكنه لم يبد اهتماما كبيرا بحديثي حول حقوق الانسان وحرية الرأي الخ ، فذهبت لأستاذ عثمان سكرتير اللجنة الشعبية، سألته ان كان لديه علم ان الحاج ابلغ رجال الامن عن هذا الرجل المعتقل باسم اللجنة الشعبية، انكر علمه وقال لي انه سيستوضح منه الامر.
في اليوم التالي ابلغني انه سأل الحاج وقد انكر الحاج انه قال لي ذلك بل حلف بالطلاق نافيا أي علاقة له باعتقال الرجل! !
بعد الظهر جئت للمدرسة، كنا نقوم بدورة تقوية صيفية للطلاب، وجدته يجلس امام البيت في ظلال شجرة المسكيت، حين رآني من علي البعد قال لي : (اها جايي تتم البديتو) !
قلت له وانا امضي في طريقي للمدرسة : (والله انا ما عارف لكن واشرت الي بيته حأرسل لي اهل المرة دي يجوا يسوقوها) !
تركته يضحك وفي اليوم التالي عرفت بإطلاق سراح الرجل المعتقل .
جمال معلم البناء الماهر والفنان، يملك موهبة فطرية في عمله، لم يقرأ فنونا او يتعلم شيئا سوى كما حكي لي دروس المدرسة التي لم يكن فيها سوى مدرس واحد كان يعطيهم دروس اللغة العربية باللغة النوبية!
وذات مرة في حصة التربية الاسلامية سألهم بصوت جهوري وبلغة عربية فصيحة : متي توفي النبي صلي عليه وسلّم؟
تمت ترجمة السؤال في البداية الي الاندادي (النوبية) فنهض طالب كان يعاني بعض التخلف العقلي وصرخ :
لا حول ولا قوة الا بالله، النبي تي ديكو ؟
وترجمتها : لا حول ولا قوة الا بالله، هل توفي النبي (ص) ؟
ويبدو انه لم يسمع بذلك، كان عاشقا للزلابية وفي طريقه للمدرسة علي الحمار كان يشعر بالتعب احيانا من ثقل الاشياء التي يحملها: الطبق الضخم الذي يحمل فيه القراصة والزلابية اضافة (لخرتاية) الكتب، ولكي يتمكن من مواصلة المشوار على الحمار المرهق، كان يتعين عليه التخلص من الحمولة الزائدة، كان يتخذ القرار دون تردد فيلقي (بخرتاية) الكتب ارضا ! والمؤكد انه لدي عودته كان يجدها في نفس المكان فليس هناك كائن يرغب في سرقة كراساته المليئة بعبارات اعد وقابلني والرجاء احضار ولي امرك! والواقع انه فعل ذلك مرة واحدة واحضر ولي امره، وكان خاله، حضر شخص ضخم الجثة يتطاير الشرر من عيونه ويتأبط عصا ضخمة من النوع الذي ينتهي بكعكة في اخره، حتي ان المدير اضطر للاعتذار له ! .
حكي لي جمال ان المدير كان يحضر احيانا خاصة في يوم الخميس سكرانا دون رغبة في الدخول للمدرسة، كان يجلس فوق حماره بجانب جدار المدرسة وينادي علي احد الطلاب : يا ولد دق الجرس.
وحين يصطف الطلاب في الطابور ، يدير هو الطابور من فوق حماره : صفا .. انتباه.. صفا .. انتباه. الي الفصل دور ، ثم يعلن وهو يضرب حمار مغادرا: اذا تأخرت في السوق دقوا الجرس وروحوا !
كان في الفصل صبيين ابناء عمومة عوض والسيد، جدهما اسمه ابوشوك، عوض كان ضئيل الجسم فاسماه الاستاذ ابوشوك كنة اي ابوشوك صغير الحجم، وكلمة كنة بالنوبية ربما افضل كلمة لترجمتها هي (قلّيّل) بتشديد اللام والياء !، والسيد كان ضخما فاسماه المدرس ابوشوك دول! اي ابو شوك الكبير او المانع .
وكان التلميذان كنة ودول يجلسان دائما في الصف الاخير بجوار بعضهما، حيث يعمل ابوشوك دول بعد نهاية اليوم الدراسي كحارس شخصي لابن عمه، والذي بسبب صغر حجمه يتعرض احيانا لمضايقة فتوات المدرسة من الطلاب الذين نسيهم اهلهم في المدارس او اصبحت المدرسة لهم مجرد برنامج يومي أبدي .
في حصة الحساب اثناء العذاب الازلي المسمي جدول الضرب اعلن الأستاذ رافعا عصاه باتجاه السماء : كم حاصل ضرب ستة في سبعة؟
ثم نادي علي الطالب الذي يجب ان يجاوب علي السؤال : ابوشوك دول، فقال ابوشوك دول بصوت ضخم ودون تردد : 16 !
فنادي الاستاذ: ابوشوك كنة !
فرد بصوت رفيع مثل صوت فأر : 17!
فقال الاستاذ : شد واركب !
جمال كان فنانا في عمله، لكنه مثله مثل معظم الفنانين كان يعاني من الملل، ولا يكاد يبدأ عملا حتي يتركه ويهرب من موقع العمل، وكانت النتيجة انه لم يكمل اية بيت بدأ بناءه، كان يبدأ العمل في وجود صاحب البيت الذي يكون في معظم الأحيان مغتربا حضر لقضاء اجازته، يبدأ العمل نشيطا مع عماله، يكون هناك سجائر ومسجل جديد يصدح بجانبه اثناء العمل وهو يعشق الغناء لدرجة الجنون، وتكون هناك ذبائح واكل جيد، فيمضي العمل علي ما يرام، ثم تبدأ ميزانية المغترب في التراجع، فيستبدل سجائر البنسون الفاخرة بجوال صغير من القمشة، وبدلا من الذبائح تعود القراصة 6 بوصة لتتصدر المائدة، ويستبدل المسجل الذي استهلك كل حجارة البطارية الموجودة في دكان التعاون، يستبدله بطنبور قديم ويستخدم اذان مستمعيه لتجربة ألحانه القديمة من ايام (الشيطنة) كما يسمي ايام شبابه، ويستبدل عرقي الامسيات بالشاي باللبن مشيرا الي الاول باعتباره : هو اصلا حرام ! عندها يطفش جمال الي الابد !
ذات مرة جاء الي العمل في بيتنا، كانت الوالدة وشقيقنا الاكبر قد سافرا لأداء مناسك الحج، ولأجل استقبالهما تعين اجراء بعض الإصلاحات في البيت كما هي العادة في استقبال الحجاج العائدين.
ولأنّ اخي الاكبر كان يعرف جمال جيدا، فقد اوصانا قبل السفر ان نوفر له اساسيات الونسة ان رغبنا ان يبقى لحين اكمال عمله، وشدّد علي الا يتوقف جهاز التسجيل مطلقا، وجدنا بطارية سيارة قديمة، شحدنا صديقنا علي الذي يعمل سائقا لاحد الجرارات الزراعية ليشحن لنا البطارية واوصلنا المسجل وجهزنا كومة من الشرائط، جاء جمال وبقي معنا لمدة عام بعد ان اكمل العمل!
وكان الناس يسألوننا مستغربين الزول دة مسكتوا كيف ؟ وقال لي احد الجيران : شيخكم القوي (المسكتو) بيه الزول دة اسمه مين! قلت له شيخنا اسمه: عبد الكريم الكابلي! كان جمال مثلنا يعشق غناء الكابلي الى حد الجنون! !
كانت لديه هواية غريبة، يعشق استبدال الاشياء، يعرف احيانا انه سيكون خاسرا من الاستبدال رغم ذلك لا يستطيع مقاومة الاغراء، ذات مرة جاء الينا يحمل جهاز مسجل جديد، استبدله مع اخي بجهاز راديو، ثم قايض جهاز الراديو بساعة سيكو مع احد جيراننا، وفي نهاية اليوم كان المسجل الجديد قد انتهي به الامر الي ماعز جاء يسحبها من اذنيها وهي تزعق بصوت هستيري، ربطها في مدخل المزرعة وغادر علي ان يعود في اليوم التالي لأخذها .
في اليوم التالي جاء ليطعمها ببعض البرسيم و الحشائش، ثم سقاها الماء، وتركها مغادرا ليتكرر في الايام التالية نفس برنامجه، حين عرف الناس بذلك البرنامج اصبح بعض من يريدون منه اكمال عمل كان قد بدأه لهم وزاغ، يلبدون له جوار الماعز! ذات يوم تجمهر بعض من يبحثون عنه وقد جاء بعضهم من أماكن بعيدة .
وفي الموعد المحدد وبدلا من حضوره حضر شخص متعجل نزل وسط دهشة الحضور ليفك الماعز ويرفعه علي حماره، واعلن للحضور وهو يضرب حماره ويمضي : (جمال باعو لي)!

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …