هل كان البابا بنديكت السادس عشر (1927-2022)، الذي رحل عنا إلى الأملاك السماوية، جزء من المشكلة أو الحل؟
عبد الله علي ابراهيم :
(وجهة نظر إسلامية في تركة نيافته)
كتبت خلال بابوية البابا بنديكت السادس عشر (2005-2013) عن تعميد نيافته شخصياً للمصري مجدي علام الذي رجع عن إسلامه. فقلت إن وقوفه نيافته على التعميد ليس كياسة بابوبة في وقت كانت إجراءات الحوار الكاثوليكي الإسلامي الختامية قائمة على قدم وساق. وهو حوار أرادت به الكنيسة وعلماء المسلمون تجاوز مرارة حديث البابا في 2006 عن مفارقة الإسلام للعقلانية والرشد. ولا نعقب هنا على حق البابا في تعميد من طرق بابه. ولكن الكياسة احياناً هي تعطيل الحق طلباً لنفع أكبر. وقد سمعت بُعيد حرب العراق رجلاً حكيماً يقول: “لنقول جدلاً إن من حقنا غزو العراق. ولكن لزومو شنو؟ هل بيسوى؟”
من المؤسف أن يكون على رأس هذه الكنيسة التليدة الغزيرة رجل خَطَّاء كالبابا بنيدكت في هذا المنعطف من “حرب الحضارات”. وقد عُرِف البابا بهذه الصفة حتى أن الدوائر الفاتيكانية في الولايات المتحدة تتحسب الآن لزيارته القريبة لبلدهم خشية أن يصدر عنه ما يزيد ضغث الكنيسة في أمريكا (التي هدتها الكشوف عن ممارسات جنسية غير لائقة للقسس معنوياً ومالياً) إبالا. فهم لا يريدون له أن يزل زلة محاضرته في ألمانيا عن الإسلام أو عبارته في البرازيل عن هنودها الحمر. بل يُلَمح البعض إلى أن خطبه بأمريكا ربما خضعت لغربلة دقيقة. وقال سفير الفاتيكان بالولايات المتحدة في تزيين البابا لنا بأن صورته ليست غير معروفة جيداً فحسب، بل أنها أيضاً مما خضع لسوء الفهم. فالناس تأخذ عليه عناده لدرجة أخرجوه بها من البشرية بالمرة. ولكن يكفي أن تستمع إليه لتغير رأيك عن ذلك كله.
وأعتذر السفير لعناده (أو زلاته) بأنه أكاديمي يستثمر في الكلمات على خلاف سلفه جون بول الثاني الذي كان استثماره في دراما الإشارات. وليته كان أكاديمياً شفيفاً. ففي محاضرته التي أثارت ثائرة المسلمين اختار زاوية ضيقة جداً من تاريخ علاقة الغرب بالإسلام ليدلي بدلوه عن منزلة العقل في الإسلام. فمن بين كل الزوايا المتاحة في هذا التاريخ للنظر الرشيد اختار البابا حديثاً عن الإسلام لإمبراطور بيزنطي كانت مدينته محاصرة بجحافل الأتراك العثمانيين. فلا غرابة بالطبع– والحال على ما عليه– أن يقول الامبراطور لمحاوره أن محمداً (عليه أفضل الصلاة والسلام) لم يأت بغير ما هو شر وغير إنساني مثل أن يحول الناس عن دينهم إلى الإسلام بالسيف.
وكان رأي الإمبراطور المحصور، وأسياف المسلمين أقرب إليه من حبل الوريد، أن فرض الإسلام بالقهر غير عقلاني. فالعنف ليس من طبيعة الرب أو الروح. واستثمر البابا حديث الإمبراطور المحصور ليرمي الإسلام بالخلو من العقلانية. وأضفى العقلانية على ذلك الإمبراطور المزنوق الذي قال إنه تربى على تقاليدها من الفلسفة الإغريقية خلافاً للمسلمين الذين اتبعوا رباً في أعاليه لا يتطرق إليها العقل ولا يحكمها منطق. ثم لما احتج المسلمون على هذا الإزراء بدينهم قال البابا إن ذلك ليس رأيه وذنب الإمبراطور على جنبه. والأكاديمي الذي يملك زمام مهنته لا يستشهد من “طرف”.
وكان بوسع البابا، طالما كانت العقلانية شاغله، أن يعرج على ابن رشد بدلاً عن الإمبراطور الحاقن. فقد انبنى جدل العقل والإيمان (النقل) المسيحي على فلسفة ابن رشد عرفاناً بشغله الأكاديمي الشاق في الفلسفة اليونانية. فقد كان لقبه في جامعات قرون أوربا الوسطى هو “الشارح”: أي أنه الذي شرح للعالمين كتب أرسطو التي ترجمها المسلمون عن الإغريقية إلى العربية ثم ضاعت أصولها.
وأسس القديس المثقف توما الأكويني، الذي رتب للمسيحيين منزلة الإيمان والعقل في بلوغ المعرفة بالله، نظراته، التي ما تزال تستند عليها الكنيسة، في جدال مع ابن رشد من جهة ومع تلاميذه الأوربيين من جهة أخرى. فقد انتفع من علمه نفر من الأوربيين الباغضين لهيمنة الكنيسة والبابا على مفاصل المعرفة في جامعة باريس وغيرها في القرون الوسطى الأوربية. وجعلوه معلماً لهم حتى صاروا اسمهم “ الرُشديين اللاتينيين”. وقد تطرفوا في الأخذ عن ابن رشد فاعتقدوا فيما لم يقل به أصلاً. وقد أصلاهم الأكويني ناراً. ونالهم غضب الكنيسة والبلاط. ونقى الأكويني المسيحية من معتقدهم وبوبه على ما هو عليه الآن.
ولم تقتصر أخطاء البابا على المسلمين. فقد أغضب شعوب أمريكا اللاتينية الأصلية ممن عرفوا بالهنود الحمر. فقد احتجوا على بادرة منه رأوا فيها استهانة بتاريخهم الثقافي في ظل الاستعمار الأسباني الذي حملهم حملاً على التنصير في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقال خلال زيارته لأمريكا اللاتينية في مايو 2007 إن تنصير الهنود الحمر لم يكن فرضاً لثقافة أجنبية عليهم وإنما هي سانحة لهم ليتعرفوا على رب لم يتسن لسلفهم أن يقفوا على جلاله. وهو سلف تطلع سراً وشوقاً لقدوم هذا الرب الذي جاءهم بعد أن رحلوا عن الفانية.
واستنكر شعب أمريكا اللاتينية الأصيل هذه الكلمة التي طعنت في استحقاق سلفهم. وكان على رأس المحتجين الرئيس الفنزويلي شافيز. واضطر البابا لاستدراك خطأه بحياء بشجب الجرائم المجانية التي ارتكبها الأسبان بحق أولئك الأسلاف الهنود. وهي جرائم كانت وجدت استحسان الكنيسة واستثمرتها لتنصيرهم. واكتفى بذلك ولم يعتذر عن زلته كما طلب منه شعب أمريكا اللاتينية.
وبدأت متاعب البابا مع اليهود منذ منتصف 2007. وساورهم منه قلق وشك أنه ربما كان بسبيله التنصل عن مقررات مجمع الفاتيكان الثاني المنعقد في اوائل الستينات. وبلغ من شك اليهود في مقاصده أن برنامج زيارته القصيرة للولايات المتحدة تضمن لقاءين مع منظمات يهودية لتطمئن قلوبهم. وبدأت مخاوف اليهود بعد توقيع البابا على وثيقة في يونيو من العام الماضي سيعيد بمقتضاها أداء شعائر كاثوليكية بعينها باللغة اللاتينية القديمة. وقد انقرضت هذه التأدية منذ انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني خلال الستينات الذي سمح بأداء الشعائر بلغات الكاثوليك الوطنية. وتلقى هذه الخطوة البابوبة معارضة قوية من كرادلة وقسس الكنيسة لأنها ستجعل الكنيسة تتعبد بلسانين ونصين بينهما خلاف في التأدية.
وبعيداً عن هذه التفاصيل التعبدبة فقد اتفق للمعلقين أن خطوة البابا هذه ستكون ردة عن الفاتيكان الثاني الذي أدخل التحديث على الكنيسة. ويرجح المعلقون أن البابا يريد من هذه الردة أن يتصالح مع طائفة كاثوليكية فرنسية غزيرة العدد رفضت أبداً، وبتصميم، مقررات الفاتيكان الثاني. وقد انزعج اليهود بالذات لهذه الردة. فقد كان الفاتيكان الثاني قد برأهم من دم المسيح الذي تحملوا وزره لعشرين قرناً منذ صلبه عليه السلام وحتى انعقاد ذلك المجمع. وأزعج اليهود بشكل مباشر أن نص هذا القداس اللاتيني حوى صلاة تدعو إلى تحول اليهود إلى المسيحية. وهذه ردة بجلاجل عن التفاهم المسيحي اليهودي الذي استوى منذ الفاتيكان الثاني. فأنت لا تصلي لربك ليكفر قوم بربهم إلا إذا كنت سيء الظن بربهم ودينهم.
إننا نعيش عالماً مريعاً لم نكتسب فيه بعد أداة لمصالحة الثقافة والروح اللذين تناءا واستدبرا. وقد بلغ رعب هذا العالم حداً قال به عالم من الفاتيكان مسئول عن التوبة من قريب جداً إن الخطيئة لم تعد سقطة فرد بل سقطة حضارة. وأثار ثائرة فكرية ما تزال تنداح دوائرها. وبالنظر إلى سجل نيافة البابا في ملاقاة تحديات هذا العالم المرعب لن يجد المرء صعوبة في القول إنه ربما كان بعض المشكلة لا بعض الحل.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …