الفكرة الجمهورية .. و العقائدية ، و دورة الفكر الديني .. (١)
أحمد الأبوابي :
((بينما الشيطان و أحد اقرانه يسيران في الطريق ، إذ رأيا قبالتهما رجلاً ، ينحني ، ليلتقط شيئاً ما من الأرض ، يتأمله ، ثم ، يدسه في جيبه .. قال الصديق للشيطان : (( ماذا التقط ذلك الرجل ؟؟ )) .. أجاب الشيطان : (( لقد عثر على قطعة من الحقيقة)) .. قال الصديق (( إن هذا لمن سوء حظك )) .. قال الشيطان : (( لا .. بتاتاً )) .. (( سوف أعينه ليؤطرها)) .. في رواية أخرى يقول الشيطان(( سوف أدع أتباعه يجعلونها عقيدة..))
هكذا قد مضت سنة الأولين .. ما طار طير ، للفكر ، و ارتفع إلا كما طار هوى .. و وقع .. و ما جاءت فكرة، ثائرة على ما كان مستقراً من أمور الناس ، و مفاهيمهم ، و أعرافهم ، إلا و بدأت سائلة ، صافية ، و هادرة كموج البحار الزاخر ، فأتت على كل زبد ، فذهبت به جفاء ، و انتقت، من مطروح الواقع من الثقافة ، و الأعراف ما ينفع الناس.. ثم ما تلبث هذه السيولة أن تحول إلى لزوجة ، تعقبها درجات مختلفة من الجمود .. و الحق أن كل فكرة تتنازعها مجموعتان من القوى .. مجموعة لاستدامة الثورة ، و تجديد السيولة ، كل وقت . و المجموعة الأخرى هي التي تسعى لتجميد الفكرة ، و تثبيتها ، على قالب محدّد ، بدوافع عدة، بعضها المحافظة على الفكرة من التحريف ، و صونها من أن يدخل عليها ما ليس منها ، و الآخر هو الكسل الذهني الذي يسيطر على العامة ، و بعض النخبة ، الذي يجعلهم عاجزين عن مواكبة تطوير الفكرة ، و مراجعتها ، كل حين ، بحسب تجدد الواقع ، و خصوصياته ( الزمكانية) و ظهور حقائق جديدة ، ربما عارضت، أو باينت بعض ما كان مطروحاً من المعرفة في الوقت المخصوص الذي شهد بروز الفكرة الثائرة ( الأم) .. هذا إضافة للخوف ، من تحمّل مسئولية ( التفكير الحر ) ، .. .. و ( القول المستغرب) ..
و تبعاً لما سبق فكأننا أمام دورة تمر بها الأفكار الثائرة ، لا بد أن تكتمل على نحو من نواحي الإكتمال ، و لو في حيز ضيق ، مهمل .. و لكن من يتأمل تاريخ الأفكار ، يجد أن قدر الأفكار هو ما يحدث من جدل ، و صراع بين القوى المذكورة آنفاً ، و الحركة الدورية للأفكار بين قطبي السيولة ( الثورة) ، و الجمود ( الإطمئنان) .. أو يمكننا أن نسميها قوى ( التجديد ) ، و ( المحافظة ) .. و بقدر غلبة أحد هاتين المجموعتين على الاخرى ، يكون نصيب للفكرة المعنية واقع مختلف ، فإما إلى الثورة المستدامة ، و الشباب المتجدد ، أو إلى الجمود ، و الثبات ، و بالتالي إلى الشيخوخة ، و الانقراض..
و أنا اليوم أحب أن أتناول هذه الدورة بتطبيق مخصوص على ( الفكرة الجمهورية ) ، التي في تقديري قد أكلمت هذه الأيام دورة ، أو كادت ..و ذلك ببروز التيارين ، من القوى المذكورة على نحو يمكن للمراقب أن يلحظه .. و لست أحب أن أسمي أسماء بعينها ، و لكن المتابع ، للأحداث ، الجارية ، و المطلع على أدبيات الفكر الجمهوري الحاضرة منها ، و القديمة يمكن أن يفهم ماذا أعني ، سواء أوافقني ، فيما أوميء إليه من معنى ، أو خالف..
و من الممكن تشخيص مدى انزلاق فكرة ما في وحل الجمود ، برصد ظاهرتين .. الأولى هي (( العقائدية )).. و الأخرى هي ((الطائفية )) .. و لقد كان لي خيط في منبر الجمهوريين ، في مايو 2009 ، ابتدرته للحديث ، عن ( العقائدية ) ، و ( الطائفية) .. كنت أشعر بهما بوصفهما خطرين ماثلين أمام الفكرة الجمهورية ، و المجتمع الجمهوري ..
جاء في مقدمة هذا الخيط :
العقائدية ، و توأمها الطائفية .. بعض كلمات للذكرى ..
الراصد لمسار الفكر الجمهوري ، يلاحظ شيئاً لافتاً ، أن الأستاذ محمود كان يقاوم أمرين ، و يحذر منهما … الأوّل هو أن تصبح الفكرة الجمهورية عقيدة جامدة ، و الثاني أن يصير المجتمع الجمهوري مجتمعاً طائفياً .. و الحق أن العقائدية (( الدوغمائية)) ، و الطائفية هما أختان و ربما كانتا وجهين لعملة و احدة .. فكلاهما اعتماد على صورة محدودة- نسبية و مرحلية -من صور التعبير عن الفكر المعيّن ، و اكتفاء بها .. ففي الطائفية تأخذ هذه الصورة بعد تجسيد بشري ((شخص ما)) ، و الاستغناء به عن تطوير العلاقة مع المطلق من جهة ، و مع التجليات الأخرى للمطلق من ناحية ثانية ، و مع الذات الفردية ، بطاقاتها الإيجابية ، من ناحية ثالثة .. و في العقائدية يتم الاعتماد على مرحلة من مراحل التخلّق لفكرة ما أو ديانة ما ، و الاكتفاء بها عن السير قدماً في مسار التطوير ، و التخليق لهذه الفكرة أو الديانة ، هذا من ناحية ، و عن الحوار، و التفاعل الفكري الخصب ، مع الآخر من ناحية أخرى ..
إننا نجد ، أن في العقائدية ، يتم إجهاض مسار التطوّر الفكري للآيديولوجيا المحددة ، هذا التطوّر ، الذي لا يتم إلا في عقول الأفراد عبر العلاقة الحرّة الخلاقة ، بينهم و بين فكرتهم ، في مصادرها الأساسية ، و مع فكر الآخر ليتم التخليق العفوي ، و الأصيل لمنتوج يحمل في آن صفة الانتماء للفكرة الأم ، و في نفس الوقت روح ، و بصمة الفرد المنتج .. و لعلّ جميع الأخوان يذكرون أن الأستاذ محمود كان يعبّر عن عدم ارتياحه لذلك الترديد (( السلبي)) ، لأفكاره ، و كان يصر على أنّ على الجمهوريين أن يخرجوا أفكارهم ، هم ، لا أن يكتفوا ، و يتباهوا بترديد أفكاره ، و الفرح بهزيمة الخصوم عن طريقها .. و لعلّ مما يستحق الاعتبار ، هو إشارته إلى أن الفكرة الجمهورية ليست هي تلك المعارف المبثوثة في كتبها .. لذا فلم يكن حريصاً ، على التركيز على تلك المعارف ، و الانشغال بها ، بقدر انشغاله بتمليك الملتزمين بالفكرة منهج حياة ، للتعامل مع نفوسهم ، ليتثنى للواحد ، إخراج الحقيقة من داخله ، على طريقته الخاصة ، و إخراج النموذج الأعلى الكامن تحت إهابه ..
أما في الطائفية ، فما يحدث هو ، التمركز حول رمز ما ، و الطواف حول كعبته بالغدوّ ، الآصال ، بصورة تخرج هذا الرمز من مقامه النسبي ، في تراتبية الفكر المحدد ، و تحله في مقام الرمز المطلق ، حاجبة عن الفرد الطائف رؤية الرموز الأعلى ، و المقامات الأسمى .. بذا يتحوّل الرمز الطائفي من صفة الوسيلة إلى صفة الوثن ، الذي يحجب الرؤية ، و يقطع طريق الرب .. فالطائفية كما قال الأستاذ محمود ، مفسدة للقائد (( الرمز )) ، و المقود في نفس الوقت و السياق .. فالقائد الطائفي ، يجد نفسه أمام أفراد خاملين ، سالبين ، يعتمدون عليه كل الاعتماد ، في متقلبهم ، و مثواهم ، و لا يضيفون له ، شيئاً ، فيتولّد ، في داخله ، و إن أبدى المحبة ، والتقدير ، شعور ، خفي بالاحتقار ، و عدم المكافأة ، يجعله لا يعوّل عليهم ، في أمر ذي بال ، بل يستخدمهم لأغراض الحياة الدنيا ، أو ما يرى فيه الرشاد ، و يلتهم ما تنازلوا عنه طوعاً من حرياتهم ، لينمو و يتضخم ، في أذهانهم ، و في ذهنه ، دون أن ينتظر منهم ، أن يعينوه ، على نفسه إذا أخطأ ، أو يشدوا من أذره إذا أصاب .. هم كظله ، لا قيمة لهم في ذهنه إلا منسوبين له ، فهو و قد غاب عنه محك مخالطة العقول الحرّة المطالبة بالإقناع ، و الحجة ، و التفاعل مع النفوس الحية المتمردة ، يصير إلى حال من ركود الفكر ، و طغيان النفس ، فلا يلبث أن يعلنها في ملأ القوم ، بلسان الحال ، أو المقال ، أو كليهما : (( أنا ربكم الأعلى )) ، و (( لا أريكم إلا ما أرى )) .. فيخسر بذا ربه ، و نفسه … آخرته ، ودنياه …
أما المقود ، و قد وجد من يحمل عنه ، عناء النهوض بأعباء الفردية ، و يحمل عنه أثقال الاختيار ، و الحرية ، فتراه ، خاملاً ، سالباً ، يقنع من العزائم ، بأن قد أخذ بها الكبار ، و من الكمال بأنه ، يراه مجسدا ، في سيّده و رمزه.. فينمو كنبات الظل لا يقوى على هجير شمس الحرية ، و لا يقوم إلا متكئاً ، فينقصم ظهره عند أوّل امتحان .. و لأنه لا يقوي على أن يقوم ، إلا في الظل الظليل ، فإنه يتجنب بكل طريقة ، أن يفارق ظله ، و يسعى ليبعد عنه ، ساعة الفطام ، فيظل يقدم القرابين ، و يتزلّف بالولاء الذي ، ما به من رأي ، و الطاعة التي ليس معها من فكر ، أو رؤية ، ناهيك عن اعتراض .. فيظل يتنازل عن حريته ، من أجل أمنه ، و كرامته ، من أجل سكينته ، و هو في كل ذلك يقنع نفسه التي غطى عليها الخوف و الوهم ، أن حريته محفوظه ، و أن كرامته وديعة مصانه ، تردّ عليه متى شاء ، بل يتصوّر من جهل أنها في يده رهن الطلب ، و الإحتياج ..
و لأن العقائدية موت للفكر ، و دفن له تحت ركام المسلمات ، و العقائد ، فقد كان الأستاذ محمود واضحاً منذ فجر أمره ، لأن يبين أي دين يريد ، و أي فكر يبتغي ، فاسمعه يقول عن الدين :
(( وأصبح على الدين دور جديد ، هو أن يقفز بالإنسانية عبر هذا الطور القلق الحائـر المضطرب – طور المراهقة – ليـدخل بها عهـد الرجـولة ، والاكتمال . ولما كان الفرق بين الطفل والرجل كبيرا شاسعا ، فالرجل يتحمل مسئولية عمله ، بينما الطفـل يطلب الحماية من تلك المسئولية ، فقد أصبح على الدين ، منذ اليوم ، ألا ينبني على الغموض ، وألا يفرض الإذعان ، على نحو ما كان يفعل في عهود طفولة العقل البشري .. وإنما يجب عليه أن يقدم منهاجا متكاملا للحياة ، يخاطب العقل ، ويحترمه ، ويحاول إقناعه بجدوى ممارسة ذلك المنهاج في الحياة اليومية ، في كل مضطربها . ))
و عن الفكر الذي بشر به ، إسمعه يقول :
((و لسنا ندعو ، أول ما ندعو ، إلى شئ أكثر ، و لا أقل من إعمال الفكر الحر فيما نأتي و ما ندع ، من أمورنا ـ الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد ـ ويسأل عن قيمة كل شئ ، و في قيمة كل شئ ، فليس شئ عنده بمفلت عن البحث ، وليس شئ عنده بمفلتٍ من التشكيك . فلا يظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر ، و لا يظنن أحد أن النهضة الإقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر ، و لا يظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة ، ممتعة بغير الفكر الحر))
و لأجل أن الطائفية مفسدة للطرفين من قائد و مقود ، فإننا نجد محاولة الأستاذ محمود لتحرير مجتمع الأخوان من براثنها ، و تنبيههم ، لشراكها ، و مكائدها .. و هذا ما سنسعى للتفصيل فيه في الجزء القادم من هذه الكتابة .. هذا لنعيد لأذهاننا المعايير المنصوبة أمامنا ، فنقيس أنفسنا عليها ، و لا نكون كالذين ((..طال عليه الأمد ، فقست قلوبهم ، و كثير منهم فاسقون.. )) .. ))) .. انتهى الاقتباس ..
نواصل
——————
* هذه اعادة نشر مع تعديل طفيف لمقال نشرته العام ٢٠١٢ في منبر سودانيزأونلاين (الكاتب )
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …