الشللية كأساس للمنظمة غير الرسمية في المنظومات الإجتماعية: هل الشللية هي العِلّة أم آليات اتخاذ القرارات؟
د. بكري الجاك :
اصبح من البداهة في مجال علم السلوك التنظيمي و ادراة المنظمات و مجال السياسات العامة التعاطي مع فكرة انه داخل اي منظمة رسمية، سواء كانت في مجال القطاع الخاص القائم علي الربح أو في المجتمع المدني بكل اطيافه من منظمات طوعية و احزاب و اجسام مطلبية او في القطاع العام، أن هنالك شكلين للتموضع و التنظيم داخل كل منظمة: أولهما المنظمة الرسمية هي التي تقوم علي اساس الهياكل و الوصف الوظيفي و فيها وصف لمصادر القوة و السلطات المخولة لكل موقع وظيفي و تنظيمي و اداري، ثانيهما المنظمة غير الرسمية و هي عادة ما تٌعرف بأنها شبكة العلاقات داخل المنظمة و التي تجعل من بعض الافراد اكثر قوة و تأثيرا من وضعهم التنظيمي اللذي يخول لهم سلطات محددة ( الوضع القانوني أحد مصادر القوة الخمسة).
و من دون اطالة فقد توافق الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية (Machiavelli, Max Weber, Russell & French) المهتمين بدراسة مصادر القوة (تعني القدرة علي التاثير) في البنيات الاجتماعية علي ان للقوة خمس مصادر وهي أولا قوة الشرعية التي تٌستمد من قانون ما، ثانيا قوة منح الهبات، ثالثا قوة توقيع العقاب، رابعا قوة الاحترام ( الكاريزما و الولاء)، خامسا قوة الخبرة. بسهولة يمكن تصنيف هذه المصادر الي مصادر تقليدية بمعني انها متسمدة من مصادر تقليدية من شاكلة الانتماءآت الأولية من علاقات الدم و العقيدة و الجغرافيا و غيرها من الولاءآت و مصادر حديثة اساسها المعرفة و الخبرة و علاقات المصالح. بشكل عام لا يوجد فاعل اجتماعي و سياسي من غير مصدر او عدة مصادر للقوة و الا سيكون ليس بمقدور ذلك الفاعل احداث أي قدرة علي التاثير. من المهم ايضا الفصل ما بين مفهوم السلطة Authority و القوة Power فاذا كانت القوة تعني القدرة علي التأثير فالسلطة تعني التمظهر القانوني (وغير القانوني) للقوة التي تعطي الفرد الحق في أو القدرة في التأثير في اتخاذ قرارات.
بداهة لكل فاعل اجتماعي قدرة علي التأثير(قوة) مثل القدرة علي منح الهبات التي تتراوح ما بين المعنوي و المادي وقوة توقيع العقاب التي ايضا تتراوح ما بين المعنوي والمادي، و ايضا لكل فاعل اجتماعي قدر ما من الاحترام و الكاريزما وسط مجموعات بعينها، و تتفاوت هذه القدرة علي التاثير و هذا ما يفسر قدرة افراد في سياق تقليدي علي التأثير بطريقة يستهين الناس بفهمها في سياقات معينة. في هذه السانحة يحكي أنه في مجتمع ما في ارض السودان أتي شيخ و بدأ يحدّث الناس عن الدين و القرآن و بدأ الشيخ مفتونا بسورة مريم فانبري له زعيم محلي قائلا “يا شيخ ما تكلمنا شوية عن سورة عائشة ” و حينما حاول الشيخ مجادلته أنه ليس هنالك سورة اسمها عائشة في القرآن أردف الزعيم المحلي قائلا “كيف يعني ياخي معقولة يكون في سورة لمريم المسيحية دي وعائشة أم المؤمنين ما عندها سورة” و لم يكن من خيار للشيخ سوي أن يقبل بهذا المنطق المحلي و قدرته علي التأثير لأنه يستمد قوته من مصدر تقليدي يشمل احترام و كاريزما من الجموع المتجمهرة. أما قوة المعرفة و الخبرة فهي ايضا متاحة للفاعلين الاجتماعيين في توظيفها لاظهار مدي براعة و صدقية حجيتهم و يمكن ادعاء هذا النوع من الخبرة بكل سهولة. من البديهي و الطبيعي أن يسعي كل الفاعلين الاجتماعيين للحصول علي أكبر عدد من مصادر القوة لتوسيع دائرة قدرتهم علي التاثير، الا أن السؤال الذي ربما يتبادر لذهن القاريء الآن هو ما علاقة فكرة المنظمة غير الرسمية و مصادرة القوة بالشللية؟
ببساطة بما أن أي منظومة اجتماعية، سواء كانت في القطاع العام او في القطاع الخاص او في المجتمع المدني، لا مناص لها من وجود منظمة غير رسمية لها قدرة علي التأثير في اتخاذ القرارات (لأنها تمتلك قدر كافي من مصادر القوة الخمس) حتي و ان كانت لا تتمتع بالوضعية الرسمية التي تصدر من الوضع القانوني و الوصف الوظيفي للافراد الفاعلين. ما دفعني للكتابة في هذا ألشأن هو أمران: أولهما تكاثر الشكوي في الفضاء العام عن مدي تاثير الشلليات داخل كل منظمات المجتمع المدني من أحزاب و نقابات و تحالفات و هو أمر متفهم و مرغوب لما للشلة من ضرر بليغ في مصادرة الارادة الجماعية و التضليل و تزييف الواقع و تقليل فرص اتخاذ قرارات اكثر نجاعة تحظي بالتأييد الواسع. الا أنه لابد من الأخذ في الاعتبار أن وجود الشٌلّة في حد ذاتها ليس بالأمر الغريب داخل اي بنية اجتماعية بشرية. ثانيا، أن الاشكال في جوهره ليس هو وجود الشلة (المنظمة غير الرسيمة و تحالفاتها غير الرسمية) بل هو غياب آليات شفافة (مؤسسية قابلة للمحاسبة) لاتخاذ القرارات تعطي كل الفاعلين الاجتماعيين فرصة للتأثير في اتخاذ القرارات العامة بشكل يعطي هذه القرارات درجة من المشروعية التي تجعلها مقبولة للغالبية من الفاعلين الاجتماعيين.
فيما يخص أمر الشكوي عن شللية الاحزاب و تحالف الحرية التغيير فالشاهد أن مشكلة اي كيان تنظيمي في الفضاء المدني حزب كان أو جمعية أو تحالف تكمن في كيفية اتخاذ قرارات عامة نيابة عن الفاعلين فيه. في كل الأحوال ستتخلق منظمة غير رسمية، و هي عبارة عن شبكة العلاقات و المصالح، و هذه الشبكة هي أمر طبيعي في اي منظومة اجتماعية في مجتمع مدني مفتوح قائم علي تنافس و تضارب المصالح داخل اي بنية اجتماعية مهما ادعت من وجود مشتركات في حد قيمي أعلي، فطموح الافراد للسلطة هو أمر بديهي و أولي و هذا هو جوهر فكرة تخلق المنظمة غير الرسمية التي تسعي في التأثير علي المنظمة الرسمية . و علي سبيل المثال أن أزمة تحالف الحرية التغيير التنظيمية كانت و لا زالت تكمن في المنظمة غير الرسمية التي تسمح لافراد بعينهم (الشٌلّة سمها ان شئت) من ان يكونوا أكثر تأثيرا ببساطة لأن الآليات الرسمية المعتمدة لاتخاذ القرارات مصممة علي أن تكون غير شفافة أو لا تعطي القدر الكافي من القدرة علي التاثير لكل الفاعلين من بقية الاعضاء، و ينطبق هذا القول علي مجمل الأحزاب و النقابات و بقية منظمات المجتمع المدني التى لكل منها بالضرورة منظمة غير رسمية(أو شٌلّة) و لسبب موضوعي يتعلق بالتطور البنيوي للمجتمعات السودانية فان (الشٌلّة) في هذه البنيات هي اعتباطية و تحكمها العلاقات الخاصة، اي شخصنة العام، و ليس بالضرورة علاقات المصالح التي تعكس تصورات المجموعات الاجتماعية التي افتراضا تعبر عنها هذه الشُلّة.
خلاصة القول أنه ليس هنالك مبرر موضوعي لتوقّع أن لا تكون هنالك شلة ما في مجال عمل مجتمع مدني سوي التصورات المثالية عن فكرة المؤسسية و الفاعلية التنظيمية التي سوف لن تخلو من تحالفات و تكتلات التي ستتمظهر كشكل من اشكال الشُلليات، الأجدي هو الدفع و المنافحة لصنع آليات لصناعة قرارات عامة تتسم بالشفافية و مشروعية التمثيل و تمنح فرص متكافئة للفاعلين السياسسين في القدرة علي التاثير علي القرارات العامة التي يجب أن تٌعبّر عن الجماعة. و الأمر الآخر يكمن في أنه هنالك تصورات مثالية عن وجود شكل مؤسسي قادر علي أن يتجاوز اشكالات الشٌلّة أو النخبة و المنظمة غير الرسمية، فالحقيقة العلمية تقول أنه لا يمكن تفادي قيام منظمة غير رسمية داخل كل منظمة و قد تتخذ هذه المنظمة شكل مجموعة الاصدقاء او المعارف الذين تجمعهم روابط من الماضي او الحاضر او المستقبل او علاقات الدم و القربي (جوهر فكرة الشٌلّة). المجدي للفاعلين الاجتماعيين و السياسيين علي السواء هو ليس التذّمٌر و التأفف من فكرة الشلة و كفي، فهي شر انساني لابد منه، بل العمل علي خلق المواعين و المؤسسات و الآليات التي توسع من فرص اسهام القواعد في صناعة القرارت العامة و تحجم من قدرة الشلة او النخبة في ادّعاء التمثيل للجماعة.
بكري الجاك
18فبراير 2023
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …