‫الرئيسية‬ آخر الأخبار موت اللغة و عجز الكلام أمام هول الفجيعة المتجددة المتكررة (مقال استعادي )
آخر الأخبار - مارس 12, 2023

موت اللغة و عجز الكلام أمام هول الفجيعة المتجددة المتكررة (مقال استعادي )

د. بكري الجاك :

هنالك متلازمة معروفة تسمى The Frog-Bioling Syndrome، أو متلازمة الضفدع الذي يغلي، تقول الحكاية “إن الضفدع لا يمكن طبخه إذا تم رميه في ماء ساخن”.
الشعوب التي تعودت على أكل الضفادع تعلم أن طريقة طبخها تبدأ بوضعها في إناء به ماء بارد، ومن ثم وضع الإناء في نار هادئة، ثم زيادة درجة الحرارة تدريجياً.
الحكمة المستقاة من التجارب تقول إنه “إذا تم وضع الضفدع في ماء ساخن سيقفز، أما في الماء البارد سيجلس الضفدع سعيداً بطبخه في هدوء وصمت”.
المدلول المعرفي للمتلازمة “إن الناس لا تشعر بالتغيرات التدريجية التي تحدث من حولها، وإن أي كائن بإمكانه التعود على كل شيء إذا تم تدريجه سواء أكان ذلك التصالح مع الأوساخ في البيئة المحيطة، أو في الذات، أو التعوٌّد علي الطقس، أو القبول بالروائح النتنة، أو التصالح مع القبح، كأمر عادي لأنه تم تدريجه”.
هذا ما يوضح عادة دهشة العائدين إلى السودان بعد كل فترة، بما في ذلك الذين يغادرون لأيام أو أشهر محدودة، حين تجدهم يتحدثون عن مدى اتساخ شوارع المدن في البلاد بشيء من الدهشة التي قد تذهل الذين تعودوا على هذه المناظر بشكل يومي.
في سنوات خلت، وإبان مشاركة لي في رحلة عمل إلى مقديشو لعدة ساعات، حيث كان القتال في أوجه. توقف القتال عند أذان الظهر حين وصولنا، وعاود ما أن انتهت الصلاة، و تكرر الأمر نفسه عند صلاة العصر.
في هذه الزيارة الخاطفة، تحدثت إلى رجل في الستين من عمره، على قدر من التعليم عن مدى قدرته على التعايش مع مثل هذه الظروف من حرب وموت وعدم استقرار. قال لي: “هل سمعت يوماً أن السمك قد ضاق ذرعاً بالبحر لأن هنالك عاصفة؟”. قلت: “لا”. فقال: “إذا مكثت طويلاً، ستجد في أمر النجاة كل مرة متعة تعطيك إحساساً بالإنجاز”.
وبعد ذلك بأعوام، وإبان عمل لي في مركز لبناء السلام في أسمرا، كنت قد التقيت مبعوثاً بريطانياً للقرن الأفريقي، كان يسأل عن طرق إحلال السلام في الصومال.
في الاجتماع الرسمي، تحدثنا رسمياً، ذاك الحديث المٌنمّق والمٌبوّب والمدعوم بنظريات فض النزاعات. الحديث الذي لا أجد له جدوى إلا في الكثير من التقارير الطويلة التي يكتبها أصحاب الياقات البيضاء لتعقيد ما هو بسيط، لإضفاء شرعية على مرتباتهم الفخيمة.
وفي المساء، كان اللقاء غير الرسمي في ضيافة السفيرة البريطانية. قام المبعوث بالسؤال مرة أخرى، وحينها قلت له كما يقول الناس حين يرغبون في الحديث بحرية Of the record ، أي خارج السجل الرسمي، إن أفضل طريقة لإحلال السلام في الصومال- في ظني/ أن تقوم جلالة الملكة، أو أي جهة معنية بالبحث عن جزيرة هادئة، يفضل في البحر الكاريبي، وإحضار كل القيادات التي تشارك في الحرب، وتركهم في هذه الجزيرة لمدة ستة أشهر، ومنحهم فرصة التعرف علي الحياة، ومن ثم سؤالهم بكل بساطة: ماذا يريدون؟
حُجتي كانت أن الحديث عن السلام مع من لا يعرف معنى السلام هو محض ترف نظري، فجل قيادات الحركات التي كانت -وما زالت- تقاتل في الصومال وُلدت وترعرعت على أصوات الرصاص. وكما قال لي الرجل الستيني: ماذا يضير السمك إن ضربت البحر عاصفة؟
العلاقة بين متلازمة الضفدع الذي يغلي وصناعة السلام في الصومال، ألا شيء يدهش البتة، حتى الموت والعنف والقتل، متى أصبح أمر معتادا.
ومن هول الفجيعة، يمكن للغة أن تموت كما يموت الناس، وأن الكلام لا يقول شيء سوى محض همهمات أشبه بحركة تروس اعتيادية في أي آلة تتحرك، وكأنه فعل لا إرادي، لكنه خالي الوفاض من أي معنى.
بالأمس واليوم، رغم أنني شهدت ردة فعل عاطفية قوية (في ظاهرها) من العديد من السودانيين في داخل وخارج البلاد على عملية القتل التي تمت في وضح النهار، وأمام شاشات التلفونات في موكب الثورة السودانية الذي خرج بالأمس، منادياً بالحق في الحياة الكريمة، ومطالباً بمدنية الدولة، وبوقف العبث المنظم بمقدرات البلاد.
إلا أن كل ما قيل لم يعدُ سوى أنه كلام، والبيانات التي ما تزال تترى تملأ الفضاء كانت أشبه برائحة الموت، من أن تضيف معنى أو أن تٌعبّر عن هول الفجيعة. فهي لا تقول شيئاً، مثلها مثل صمت الضفادع التي تسعد بالجلوس في قعر الإناء وهي تُطبخ في كامل صمتها وبهائها وقِلة حيلتها.
خلاصة القول، إن الأمر الذي جعل إنساناً بكامل قواه العقلية، وبكامل أهليته التي مكنته من العمل كشرطي لكي يقوم باطلاق الرصاص، هكذا وبكل فجيعة، ودون أن يرمش له جفن، على طفل بالكاد يكون قد بلغ الحلم، هو ما لا يمكن تفسيره بأن الإفلات من العقاب وحده هو ما يدفع مثل هذا الشرطي لاحتراف القتل وكأنه نزهة في حديقة عامة.
منطق الأشياء يقول إن الغالبية العظمى من الناس (أياً كانت مهنهم)، وازعها الذاتي هو الذي يمنعها من القتل و التسبب في الأذي، وليس الخوف من القانون.
بل في تقديري، ما يفسر هذا السلوك هو استسهال الحياة واسترخاص الموت في المخيال الاجتماعي السوداني، وفي سياق الظرف الاجتماعي والسياسي الذي حولّنا إلى ضفادع تجلس على ماء بارد، بما في ذلك ذاك الصنم الأجوف الذي يعتقد أنه يسيطر على درجة حرارة الماء ويزيدها بتدرٌُّج.
أمام هذا الهول من الفجيعة المتجددة المتكررة، لم يعد هناك ما يقال، فقد ماتت اللغة وعجز الكلام.

‫شاهد أيضًا‬

الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش

كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …