سرد : تَمَرُّد
بوادر بشير :
تَمَرَّدَ جدِّي الأوَّل على الحُقولِ، والثاني على المدينة. كِلاهُما أنجَبَانِي، هذا يُفَسرُ حَظي الأخرقَ، ومَلَلِي الشديدَ من الأمكنة.
خلعَ جدِّي الأوَّلُ جِلبَابَهُ وارتَدَى بِنطَالًا، بذلةً ورَبطَةَ عُنُقٍ. أرسَلَتْهُ المدينةُ إلى أُوروبا، عادَ ضابطًا بِنجمةٍ على كتِفه، على الرغمِ من كُل الجَمِيلاتِ اللواتي التَقَينَه، تَزَوَّجَ بجَدَّتي. كانت نَحيفةً بشِلُوخٍ على خَدَّيْها (تُذكرني بالجروف على جانبي النيل). شفتاها داكنتان، تبتسمان نادرًا؛ حينَها – فقط – تبدو أقلَّ قَسوةً.
ثمانون صَباحًا، وهي تَصنَع خُبزَها بِيدِها. كانَ لها كَانُونٌ صَغِيرٌ وحَلَّة (بِريسْتُو). تقُول إنَّها الشَّيءُ الوَحِيدُ الَّذي جَلَبَهُ جَدّي معهُ من أوروبا؛ وعنقريب قديم – بِقِدَمِ ذِكرَيَاتِي معها – تَضَعُ طَبِيخَها على الجمر وتنام؛ يَكتمل نضجُه مع استيقاظِها، كأَنَّ ما بَيْنها و(المَنْقَد) عهدٌ قَدِيمٌ.
كان جَدي أفَنديًّا طويلًا بِشَكْلٍ لا يُصدَّقُ. وكانت جدَّتي وسيمةَ التَّقَاطيعِ، عيناها بِلون العَسل المُر. لم تتزوَّج بَعده، لكِنها لم تتَحدَّث عَنهُ يومًا واحِدًا. أحيانًا يبدو لي أنَّ ما يربُطُهما معًا مَعاشُه الذي تذهب لتصرِفَه كلَّ شهر، ولكن من أنا لأعرِف؟! ترك لها ثلاثة أولاد وبنتين: أُمي وخالَتي – أُمّي الأخرى – الوحيدةَ الَّتي ورِثَت نبلَ جدي وطولَهُ اللّامَعقُول! لخالتي هذه عدَّةُ حكاياتٍ ممتعةٍ عن عُشَّاق مَرُّوا على قلبها ولكنَّ واحدًا فقط جعلني أناديها (نَخلَتي) كما كان يفعلُ، شَّاعِرٌ مسكين يسكن حَيَّهُم ويُخاطبها حين تَمُرُّ من أمامِه بتبتُّل دَرْوِيشٍ.
جَدي الثَّاني خَلَع المدينةَ من كَتفِهِ، عَمِل في السِكَّة حَديد، ذرَعَ السُّودانَ – بِأَكمَلِه – الـمائة مَيل؛ هكذا حكى. قطعها كلَّها؛ لم يكتَفِ بأَرضٍ واحدةٍ ولا بيتٍ واحد، ولا امرأةٍ واحِدةٍ. تزَوَّجَ من كلِّ أرضٍ وصار له أولادَ – نعرِفُ بَعضَهُم وبَعضهم نَسمَعُ عَنهم – وبنت واحِدةٌ؛ هيَ عمَّتي. لكِنَّه ماتَ وحيدًا، لم تَحُدَّ عليه امرأةٌ، إذ لم تَكُن إحدَاهُنَّ على ذِمَّته “رحل حُرًّا من النِّساء”.
حكت جدَّتي أنّهُنَّ جِئنَ مَأتِمه؛ زوجاتَه السَّابِقات جَميعهن. لم ترتدِ أيٌّ مِنهُنَّ الأبيضَ، لكِنَهُنَّ بكَيْنَهُ بِحُزنٍ شديدٍ، بكتهُ جدَّتي أشدَّ مما بكت أزواجَها بعدَه.
” كان يوما حزِينًا”؛ قالت قبلَ أن تنفُضَ الذِّكرياتِ عن شَعرِها الرَّمادي وتحكِي عنه بغضبِ أُنثى خانَها رجُلُها للتوِّ وتركَ لها ثلاثة أولادٍ حاربت القدرَ من أجلِهِمْ.
أبي يؤمنُ بجَدي، يقَدِّسه؛ على الرغمِ من أنَّه لم يعرِفه جيدا إلا حين صار رجلًا. ماتَ جدي في بَيتِ أبي؛ ابنِه البِكر. يَقول أبي إنَّ جدي “بَرَكَتَهُم”، يحكي لي وِلادَة عَمِّي الأصغَر: ” كان جَدُّك في مدني، لم نسمع عنه شيئًا منذ نحو عامٍ كاملٍ. وفي منتصَف لَيلةٍ هبَّ واقفًا على قدمَيه وقال إنَّه مسَافرٌ. لَبِسَ جلابيَّتَه وخرجَ. سافرَ ليومين قبلَ أن يصِل إلى الشمالية. دخل البيت مع صرخةِ ابنه، كأنَّه كان يعرِفُ!
برفقٍ، حمَل أخي، وأذَّنَ له، وأسماه، وذبحَ خَروفَين ثمَّ سافر مرَّةً أخرى؛ لا ندري إلى أين!
كان جدي مُثَقّفًا (هِيبيًّا)، مُتَصَوِّفًا، فقيرًا جدًّا، عزيزًا كملك، تُطرِبه الموسيقى ويُبكيه الذِّكرُ في حَلَقات المَادحين. كان دَرْويشًا بشكل يَخصُّه، يشرب حتى يثمل ثم يقضِّي الليلَ صبابةً ويحكي عن الرسول بشوقِ عاشِقٍ نَالهُ الشوقُ. عاشَ أيَّامَه كاملةً وماتَ بِجِلبَابِه على كَتفِه. لم يؤذِ أحدًا ولم يَضرب أنثى. عشِقَهُنَّ جميعًا؛ وأطلقهُنَّ – جميعًا – لأقدارهن. لم يجبِر أبناءَه على محبّتِه. في أواخرِ أيَّامِه كان كريمًا في محبَّتِهِم، نام كيفَما اتفق وأكل كيفَما اتفق. لمْ يضَع قيدًا واحدًا على عُنُقِه، كان سوّاحًا هام في بلاد اللَّه. جرَّبَ الحربَ على سبيل أن يكون للمرء وطنٌ يموتُ لأجله. قاتلَ في الصَّحراءِ، رأى الموت يُحْدِقُ بعَينيه وعاد. انكَمَشَ على ذاتِه، ثم أقسم أنَّه – لا هوَ ولا أحدٌ من أبنائه – سيقاتلُ من أجل رجلٍ ما ثانيةً. كانَ الموتُ رفيقَه لسنواتٍ عِدةٍ؛ أمهلَه قليلًا رَيثما زار النَّبي. جلسَ في حضرته صامِتًا، يتحرَّكُ فَمُه بسكونٍ. بدا وكأَنّه يحكي كلَّ شيءٍ، بقيَ عدة أيَّام، حجَّ ثم عاد إلى بيته ومات، وسط عَشِيرَتِه. ورثوا عنه جلبابَه، وبعضَ أوراقٍ بها ما يشبه المذكراتِ، وعناوينَ لأمكنةٍ، وأرقامَ هواتف، وأسماءَ، رسوماتٍ (كرُوكيَّةٍ) لجوامعَ وطرُقٍ. كانت أوراقُه – تلك – مُدُنًا كاملةً تحتشد بذاكرته، أصحابًا عرَفهم طوال الطريق، وشخبطاتٍ متفرقةٍ لأوجه نساءٍ؛ الأرجح أنَّه أحبَّهنَّ فيما مضى. تركَ مُصحفًا لم يفارقه أبدًا، بدا كأنَّه جُزءٌ من جلده، سبعةَ جُنيهاتٍ وخمسةَ عشرَ قِرشًا، أعطاها والدي لأوَّلِ متسولٍ التقاه في المقابر.
بِهدوء، انطفأت شمعةُ روحه الثائرةِ، لكنَّها ظلَّت مشتعلةً هنا؛ في قلبي بالذات. أحياناً حين أُنصِتُ إلى قلبي أشعرُ كأنَّ جدي يتحدث إليَّ، يدعوني لأتركَ كلَّ شيءٍ وأٌسافر!
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …