قراءة أولى في نصوص (منحدرات الكاكاو)
دراسة نقدية
بقلم صلاح محمد الحسن القويضي – السودان
منحدرات الكاكاو هو الديوان الأول للشاعر السوداني الشاب بحر الدين عبد الله. صدر الديوان في 2021م عن دار موزاييك للد اسات والنشر باسطنبول – تركيا. وإذا كان أغلب (النقاد) يعتبرون (العنوان) عتبة أولى للنص الإبداعي فإن بحر الدين عبد الله قد اختار لديوانه عنوانًا يشد إليه عشاق (الأقريقانية) في إهابيها، القديم والجديد. فالكاكاو بالنسبة (للأفريقانيين) يحتشد بدلالات سياسية وثقافية وجمالية عزيزة على قلوبهم.
ومنذ نص الديوان الأول بعنوان (يقول تمثال لآخر) تتوالى الإشارات الدالة على هوية الخطاب الشعري لبحر الدين عبد الله، إذ يقول:
(بكـلّ متاحفـــي وبكل عاجِــي
كبرثُ على مشافهة الزجـاجِ
فهب لطلولك الأخرى ضجيجًا
وعرٍ مداي من خرف الأحاجي)
فهنا تمتزج الدلالات (المتاحف – العاج – الزجاج- الطلول– خرف الأحاجي) لتعلن عن تمظهر جديد للجدل الوجودي الأزلي بين (القديم / الجديد) (الشمال / الجنوب) (الشرق / الغرب) (العاج / الزجاج) والرغبة العميقة في دخول العصر، دون التنكر للتليد.
والحقيقة أن تلك الرغبة في (المزاوجة) بين الطارف والتليد تتبدى قبل ذلك في الإهداء الذي خصصه الشاعر لأمه (بائعة البصل) كما أسماها (ثم إلى أبي، وهو يرد نعاس القبر كي يسمع حديثنا من بعيد) وذلك كتعبير عن الرغبة الأفريقانية الدفينة في (استحضار الأسلاف(. وبجولة في عناوين النصوص ومحتواها تتأكد تلك الرغبة في معانقة (العصر) مع استصحاب الموروث الأفريقاني في تجلياته المادية والمعنوية.
يقول بحر الدين في النص الافتتاحي لديوانه (يقول تمثال لآخر):
(أهشم مرمر الماضي عليهم
وأوشك في شظاياهم أنادي
فخذني نحو تاريخ جديد
فلست بغير متحفهم بناج)
فذات المتحف الذي يحوي (المرمر) الذي يهشمه الشاعر هو سبيل النجاة الوحيد. ثم يناجي الشاعر (عصر الأسلاف) طالبًا منه ظلًا من (المرمر) يستظل به في عصر (الزجاج)
في نصه الثاني (بعض نبوءة) يستلهم الشاعر ذات (اللوحة) التي استلهمها الراحل محمد محي الدين في قصيدته (ذلك الطفل سوف يغني) مسبغًا على (الطفل) الذي هو (تجل) آخر لذات الشاعر كل (آمال) المستقبل بمشيئة (صوت الله) السابق للأناجيل، في إشارة جلية للموروث الأفريقي السابق للمسيحية:
(كن يا شهي التجلي
مثل نيزكة
شعت لتروي
متون الضوء
عن زحل)
أما في نص (الربابات العتيقة) فيسترجع بحر الدين صوت (الربابة) الشهيرة للراوي الأفريقي و(الحكواتي) العربي ليتخذ منها معبرًا للتواصل بين (الماضي) والحاضر:
(من عمق أدغــــــــــال الغناء أتيت
ليصب في ليل العــــــــــذوبة زيت
عفـــرت صدري بالضباب ورمله
ولرهط أحفــــاد السنا غـــــــــنيت)
وفي نص (حفل أخير) تطل (روما) أو (صورة الآخر) بقديسيها القدماء وصباياها اللائي:
(سينبتن بمكة أزهارًا
تتلاقح في رئة الكون المحموم
وفي مدن الصلصال)
ثم تنام عيون شقراوات روما ولكن
(لتوقظ فينا
لحن الحب الروماني المتعالي)
ولعل نص (إلى جدي كافور الأخشيدي) أشبه نصوص الديوان بالمانيقستو الذي يعلن فيه الشاعر بنوته لـ (أبي المسك) بكل دلالاته الإثنية والعرقيةوالاحتجاجية. في هذا النص يتجلى أثر (نظرة الآخر) كمحرك أساسي للإبداع الشعري:
(يا أبا المسك كم ولدت بقلبي
وكم المسك يا حبيبي نما بي)
كما يتجلى أثر (نظرة الآخر) في محاولة الشاعر الانتصار لكافور الاخشيدي في مواجهة المتنبئ:
(منذ دهر وابن الحسين سجين
خلف تاريخ مرهق الأعصاب
وأنا قد حملت جــــرحًا جـديدًا
فلأي الجــــــــراح أفتح بابي)
لينتهي بالقول في جملة حاسمة تجسد كل مرارات (السود) الذين يمثلهم كافور من الذي جرحتهم – وما زالت تجرحهم – مقولات المتنبئ (العنصرية) ، حيث يقول:
(يا أَبا المِسك أنت نطفة نورٌ
وأبو الطـــيِّب العظيم ترابيْ
يا أبا المسك أي جــرم أتينا
ليكون الوفاء محض سباب)
أما في (حلم الكوڤيد) فيقترب بحر الدين من روح العصر، خارجًا قليلًا عن إهاب التاريخ. فيأتي نصه مليئًا بالأمل والثقة في أن (الإنسان) سيتجاوز المحنة و:
(سيقتل حلم الفيروسات
ويهزم بالحب
سلالات الكوفيد)
أما نص (نخب العراجين) فقد أهداه الشاعر إلى بودلير (صاحب أزهار الشر) كما اسماه بحر الدين. وفي النص يستلهم الشاعر معالم (باريس) وقاموس (بودلير) مرتحلًا معه حتى مجاهل الكاريبي. يتخذ بحر الدين من بودلير وقاموسه اللغوي والجغرافي (قناعًا) يلج من خلاله لمظالم ومرارات (السود) و(الخلاسيين) و(الهنود الحمر) وكل السلالات التي حاول (البيض) استئصالها عرقيًا أو لغويًا، ليخلص لنبوءة (الخلاص) الحتمي:
(ومن شجر النارنج
تصنع معطفًا
لكل خلاسي يموت بعزة
تؤرخ للحمر الهنود طقوسهم
وتنقذ طفل الماء
من موجك العتي
سيؤيك يا شحاذ كهف أضالعي
ليصدق في حزنيك
بعض نبوءتي)
نص (صبايا الكاكاو) هو تكملة لمانيفستو الشاعر الأفريقاني. فقبل البداية يهدي بحر الدين هذا النص )إلى روح مملكة صونغاي وحضارة سنار ونهر السنغال والبحيرات العُظمى، وإلى الأسمر في كل شيئ).
ويؤكد قاموس النص ذلك المعنى، حيث يتغنى فيه الشاعر (بمالي) و(البحيرات) و(الكاكاو) و(ساحل الأغنيات) و(سنغال سنغور) و(غانا) و(تمبكتو) و(كوش) ليعلن في ختامه الانتماءه لأفريقيا بأدغالها وسخونة طقسها:
(كوعل يقرأ المسك في عيون الغزال
فافتحو لي نوافذ الله أعلو
طالما الطقس ساخن
في الأعالي)
في بقية الديوان يتنقل بنا الشاعر بين نصوصه (مخطوطة)، (معنى التراب)، (مريم)، (الراحلون)، (هش قلب مئذنة)، (تجاعيد)، (إلى بابلو نيرودا)، (للمسافات في جناح الطيور)، (عن جدنا قصب النايات)، (همس أول)، (للذي لم يخن دم الأغنيات)، (إطلالة مبحوحة)، (مجاز لروح الهضاب). وهي نصوص أتمنى أن أعود في سانحة أخرى لقراءتها من جوانبها المختلفة فالديوان رغم احتشاده بالرؤى الفكرية والصور الجمالية، يطرح تساؤلات عميقة حول (تجديد الأخيلة) وكسر القوالب المتكررة، ويطرح عموما سؤال مقدرةالقصيدة العربية العمودية وقصيدة التفعيلة على التجدد والاغتناء برؤى وصور ومفاهيم العصر.. وهي مقدرة نأمل أن تتجلى بصورة أفضل في دواوين بحر الدين القادمة بإذن الله.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …