طباعة الكاش تفاقم النقاش
معتصم أقرع:
ظلت هذه الصفحة تصرخ ضد ما أسمته دائمًا “الطباعة المفرطة للنقود” وقد حددت هذا الافراط كالسبب الوحيد تقريبا وراء التضخم الجامح وما يقابله من تآكل في قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية.
إن السبب وراء الصراخ حد الهوس ضد “الإفراط في طباعة النقود” واضح للغاية ولا يحتاج إلى تفسير اكثر من القول إن التضخم يزيد من تكلفة المعيشة بشكل مباشر ويترك معظم الأسر أفقر وأكثر حرمانًا من ضروريات وأساسيات الحياة.
كما أن التضخم يضعف الاستثمار وبالتالي يقلل من الإنتاج ويجعل الجميع ، سواء كانوا منتجين أو مستهلكين ، أكثر فقرا من خلال هذه القناة الإضافية.
من المهم ملاحظة أن الصراخ هاجم ” الإفراط في طباعة النقود ” ولم يهاجم مجرد طباعة النقود في حد ذاتها، وهناك سبب لذلك.
إن صياغة الصراخ تعني أن الخطأ هو “الإفراط في طباعة النقود” وليس طباعة النقود في حد ذاتها وفي كل زمان ومكان لأن هناك ظروفًا معينة لا تؤدي فيها طباعة النقود إلى زيادة التضخم ، وهناك ظروف أخري تصبح فيها طباعة النقود أفضل مسار للسياسة الاقتصادية.
لذا ، لا حرج من طباعة النقود في الظروف المناسبة ، فالخطأ هو الطباعة في سياق خاطئ أو الطباعة بافراط عندما يكون المطلوب هو القليل من الطباعة وليس الكثير منها. فمن الممكن ان تكون طباعة مليار محمودة ولكن طباعة خمسة مليار كارثة.
لفهم المنطق، من المهم أن ندرك أن الأسعار يتم تحديدها من خلال تفاعل الطلب مع العرض. ارتفاع العرض، في ظل ثبات الطلب ، سيدفع بالأسعار نحو اتراجع، والعكس صحيح بالنسبة لقلة العرض (الإنتاج) وهذا هو السبب ان أسعار الطماطم تهبط في موسم الانتاج وترتفع خارج الموسم.
بالنسبة للطلب، إذا زاد ، بينما لا يزيد العرض بكمية مكافئة ، فهذا يعني أن الأسعار سترتفع.
لاحظ هنا أن السعر (معدل التضخم) لا يستجيب لطباعة النقود في حد ذاتها ، لكنه يستجيب للزيادة في الطلب الناتجة عن طباعة النقود.
في السودان ، ظل العرض (الإنتاج) ينمو بمعدلات منخفضة للغاية ، وفي نفس الوقت ، استمرت حكومة الإخوان وجميع الحكومات التي حكمت بعد سقوطها في الطباعة المفرطة للكاش، والنتيجة في كل الوقت هي جنون التضخم الذي لا يجامل حكومة ويطبق منطقه بنفس الصرامة وبدون تمييز سواء آل الحكم للإخوان أو السنعبريين السعداء أو المليشيات وأهل الموز.
لكن كما قلت، في ظروف معينة ، يمكن أن تكون طباعة النقود سياسة جيدة. لنفترض أن العرض زاد بنسبة كبيرة لأن الشعب أصبح أكثر إنتاجية ، لذلك دخلت كميات كبيرة من السلع إلى السوق. إذا لم يكن لدى المواطنين ما يكفي من المال أو الرغبة لشراء جميع السلع في السوق، فقد يفشل البائعون في بيع سلعهم، مما يعني أن المنتجين قد يقررون إنتاج كميات أقل في الجولات القادمة لأن لا أحد يرغب في إنتاج شيء لا يريد الناس شرائه. في مثل هذه الظروف، الصحيح أن تقوم الحكومة بطباعة النقود وتمريرها إلى الشعب بطرق مختلفة حتى يكون لديهم ما يكفي لشراء المعروض الإضافي في السوق.
بزيادة الطلب عن طريق طباعة النقود، ستضمن الحكومة أن المنتجين يمكنهم بيع ما ينتجون وتحقيق ربح ، وهذا سيحافظ على دافعهم وحافزهم لإنتاج المزيد وهكذا يتواصل النمو ويزداد الانتاج.
لكن بالطبع ، يعتمد مقدار الأموال التي يجب ضخها بالطباعة أو غيره على الحسابات الدقيقة لتغيرات العرض ، واتجاهات الطلب الإجمالي ومجموعات من المرونات التي لا داعي للدخول فيها.
إذا كان القاريء المستهدف متخصص لن أستخدم كلمة طباعة النقود هنا ، لأن المصطلح الأكثر دقة هو زيادة عرض النقود ، والذي يمكن تحقيقه بطباعة النقود أو بوسائل أخرى مثل خفض معدلات الفائدة ونسب الاحتياطي البنكي أو التخفيف من قيود الائتمان وما إلى ذلك – ولكن لا داعي للدخول في هذه التفاصيل لتفادي تعقيدات ولإبقاء القصة الأساسية بسيطة ولرغبتي في تركيز التحليل علي طباعة النقود لأن فيها يكمن الشيطان الذي دمر الاقتصاد السوداني.
بعبارة بسيطة، إذا كانت حوافز الإنتاج ضعيفة والمنتج مقيد بسبب ضعف الطلب الإجمالي ، فإن واجب الحكومة هي تحفيز الطلب عن طريق طباعة النقود والوسائل الأخرى للحفاظ على تشغيل الاقتصاد بنشاط وتسريعه. أيضًا ، إذا زاد الطلب على النقود ، يمكن للحكومة طباعة النقود دون التسبب في تضخم كبير, وهذه قصة اخري.
إحدى الأساطير ذات الصلة هي أنه منذ الأزمة المالية الكبرى في عام 2008 ، طبعت الحكومات الغربية الكثير من الأموال دون تأجيج نيران التضخم. هذا صحيح بالفعل. لكن تذكر ما قلنا ان أن ما يخلق ضغوطًا تضخمية هو الزيادة في إجمالي الطلب على السلع والخدمات الناتجة عن طباعة نقود إضافية ، وليس عملية الطباعة في حد ذاتها – فلو طبع البنك المركزي مليارات وتركها في خزانته لا تتأثر الأسعار ولو اهدي المال المطبوع لمحسوبية ووضعوه تحت البلاطة لما ازداد التضخم ولكن ذلك لا يحدث في السودان اذ ان المال المطبوع يرفع من الطلب علي السلع والعقارات والمحاصيل وغيرها.
ما حدث في الغرب هو أن الحكومات طبعت الكثير من الأموال ، لكنها لم تنفقها على شراء البضائع ولم تمرر الأموال إلى مواطنيها حتى يتمكنوا من استخدامها في شراء السلع.
ما فعلته الحكومات الغربية بالمال المطبوع هو أنها نقلت معظمها إلى البنوك والمؤسسات المالية، واستخدمت هذه البنوك والجهات المالية الفاعلة الأموال لشراء الأصول في سوق الأوراق المالية مثل الأسهم والسندات والعقارات والأصول الأخرى. مع زيادة الطلب هكذا, لم يتأثر الطلب علي السلع العادية ولكن ارتفعت أسعار هذه الأصول المالية في البورصات إلى السماء وأصبح الأغنياء الذين يملكون الأسهم والسندات أكثر ثراءً.
وسميت عملية ضخ السيولة في الأسواق المالية (بعيدا عن السواق السلع العادية) بالتسهيل الكمي لانها اختلفت نوعيا وقد كان هذا التسير هدية ثمينة للأثرياء الذين يستثمرون في بورصات الأوراق المالية وكان أحد الأسباب وراء اتساع التفاوت الاجتماعي بين من يملكون ومن لا يملكون.
تذكر أنه لا يوجد في السودان بورصات يعتد بها وأن جميع الأموال المطبوعة تستخدم من قبل الحكومة لدفع الرواتب أو شراء السلع والخدمات وعمومًا لتمويل إنفاقها سواء كان إنفاقًا مشروعًا أو إنفاقًا سيئًا. لذلك، ليس من المعقول أن نستنتج أنه بما أن الغرب طبع الكثير من النقود بعد عام 2008، فإن الطباعة لا تسبب التضخم في السودان.
أضف إلى ذلك، على مدى الأشهر القليلة الماضية ، زاد التضخم في الغرب وأصبح الآن التحدي الرئيسي للسياسة لسبب بـسيط هو ان نسبة عالية من النقد المطبوع في العامين السابقين تم تحويله للمواطنين لمواجهة تداعيات الكورونا التي أفقدت الكثيرين منهم عملهم ومداخيلهم. وهكذا وساهم المال المطبوع في زيادة الطلب علي السلع الاستهلاكية العادية في ظل اختناقات في الإنتاج وسلاسل الامداد.
وعندما بلغ التضخم 6 إلى 8 في المائة ، أعلنت الصحافة في الغرب عن أزمة غلاء معيشة ، وفي السودان تجاوز معدل التضخم 300 في المائة ولم يعتبر بعد مشكلة رئيسية من قبل قادة الرأي ولا من قبل الحكومة الحالية ولا السابقة التي أطيح بها في أكتوبر 2021.
بل تعامل بعض قادة الرأي ضمنا، واحيانا صراحة, علي أساس ان مشكلة التضخم لا علاقة لها بسياسات الحكومة الانتقالية وافترضوا (من رأسهم ساي من غير اسناد علمي) ان المشكلة كلها موروثة من النظام السابق ونسوا دور الحكومة الانتقالية في الاستمرار في سياسة رب رب بل ومفاقمتها.
في ملخص الختام، يجوز طباعة النقود إذا زاد الطلب على العملة المحلية لأي سبب من الأسباب أو إذا كانت هناك قدرة إنتاجية خاملة وجاهزة وكان العرض وربحية المنتج مقيدان بضعف الطلب، في هكذا أحوال السياسة الجيدة تستجيب بتحفيز الطلب الكلي عن طريق طباعة المال والوسائل الأخرى.
من ناحية أخرى، إذا كان العرض (الانتاج) ضعيفًا ومقيدًا بكوابح هيكلية وكان معدل التضخم منفلتًا بالفعل ، فمن الحماقة طباعة النقود. في الواقع، في مثل هذه الظروف السياسة الصحيحة هي التي تقيد الطلب بسبل مختلفة منها عدم طباعة النقود ، أو حرق بعض النقود الموجودة بالفعل (أو حبسها في البنك المركزي) وتنفيذ تدابير أخرى لترويض الطلب.
منذ 1989 ظلت كل الحكومات تطبع في الكاش بلا حساب وفقط لتغطية صرفها غير المنتج الاستثناء الوحيد هو حقبة البترول من 1999 الي انفصال الجنوب والتي وفر فيها البترول موارد للحكومة اغنتها عن الطباعة. ولم يلعب الذهب دور البترول لاحقا فيما يختص بالتضخم والاستقرار النسبي في سعر الصرف لسبب بسيط هو ان جل دخل الذهب يذهب للمعدنين وليس للحكومة لذلك فان مساهمته في رتق عجز موازنة الحكومة لا تقارن بالدور الذي لعبه البترول.
عموما لاحظ انه في غياب علاقة سببية بين طباعة النقود (عرض النقود) والتضخم لن يكون هناك فقير في العالم اذ تستطيع كل حكومة ان تطبع ما تشاء من الكاش لتحول كل مواطنيها الي مليونيرات يعيشوا في ثبات ونبات ولكن الحكومات المسؤولة لا تفعل ذلك في أي مكان في العالم لان طباعة الكاش لو تجاوزت الحد العلمي, فسوف يطل التضخم برأسه ويعصف بريح الاقتصاد.
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …