
في السادية الاقتصادية
معتصم اقرع:
في الأيام السابقة قررت الحكومة الحالية تطبيق قرار تحرير الدولار الجمركي الذي اتخذته الحكومة السابقة. استجابة لطلب متكرر من أصدقاء هذا المقال يسعي لتوضيح المعني من القرار وتطبيقه.
من أكثر القرارات قسوة قرار “الغاء” الدولار الجمركي وهذا يعني تعويمه أو تحريره فالمعني واحد. تم اعلان قرار الإلغاء في يونيو 2021 من قبل الحكومة السابقة وفي الأسابيع السابقة بدأت حكومة الانقلاب في تطبيق القرار الذي اتخذته الحكومة السابقة واعلنته في منتصف 2021.
باختصار “الغاء/تعويم/تحرير” سعر صرف الدولار الجمركي يعني زيادة الضريبة على الواردات، لا أكثر ولا أقل. وترتفع هذه الضرائب يوميا مع أي زيادة في سعر صرف الدولار في السوق.
أصلا لا يوجد دولار جمركي على أرض الواقع، فهو مجرد خيال محاسبي يستخدم في تحديد نسبة الضرائب على السلع المستوردة. سابقا كان الدولار الجمركي هو سعر الصرف الذي يتم تحديده بصورة دورية من قِبل وزارة المالية لتحديد الجبايات التي يتم تحصيلها على الواردات، في معزل عن تقلبات سعر الصرف الرسمي أو في السوق الأسود.
وكان صندوق النقد الدولي قد اوصي في تقاريره السابقة بتعديل سعر الصرف الجمركي بشكل تدريجي من 15 جنيهاً سودانياً للدولار اعتبارًا من نهاية سبتمبر 2020 وتوحيده مع سعر السوق بحلول يونيو 2021 كمعيار هيكلي.
قبل تطبيق القرار، عند مستوي سعر الصرف الجمركي البالغ 15 جنيها هو أساس حساب قيمة الجمارك وضريبة القيمة المضافة على السلع المستوردة.
فعلي سبيل المثال، لو استورد مواطن أو رجل اعمال سلعة ثمنها دولارين في السوق الخارجي، يتم تقييمها بالجنيه على مستوي 30 جنيها (15 مضروبة في 2). ويدفع المستورد قيمة الجمارك على أساس 30 جنيها. وإذا استعملنا متوسط معدل التعريفة الجمركية وهو 20%, فان المواطن يدفع جمارك تبلغ 6 جنيهات (0.2 مضروبة في 30). ثم بعد ذلك يدفع ضريبة قيمة مضافة بمعدل 17% تطبق على تكلفة السلعة المستوردة مضافا اليها قيمة الجمارك. أي ان المواطن يدفع ضريبة قيمة مضافة تبلغ 6.12 (أي 0.17 مضروبة في 36) ويكون صافي الجمارك والضريبة 12.12 جنيها. وهكذا تغادر السلعة المستوردة دهاليز الحكومة بتكلفة تبلغ 42.12 جنيها (30+12.12) وبعد ذلك يضيف التاجر اتعابه وهامش ربحه ويبيع السلعة للمواطن بسعر اعلي.
بعد تعويم/الغاء/تحرير الدولار الجمركي لو استورد التاجر نفس السلعة التي تكلف دولارين في السوق الخارجي يتم تقيمها بسعر اليوم للدولار في السوق، أي 580 جنيها. وهذا يعني الجمارك تعتبر قيمتها بالجنيه تساوي 1160 يتم فرض 20% معدل جمارك، وتبلغ الجمارك 132 جنيها بدلا عن 6 جنيهات. ثم يدفع المستورد ضريبة قيمة مضافة تساوي 220 جنيها (0.17 مضروبة في 1292). وهكذا يبلغ اجمالي الجمارك والضريبة 352 جنيها لتغادر السلعة قبضة الحكومة بتكلفة تبلغ 1512 جنيها وبعد ذلك يضيف التاجر اتعابه وربحه قبل ان يبيعها للمستهلك.
لاحظ ان تكلفة السعلة المستوردة قد ارتفعت من 42 جنيها الي 1512 نتيجة لتغير سعر الصرف مع انها في السوق العالمي ما زالت تكلف نفس الدولارين. وارتفعت قيمة الجباية الحكومية من 12.12 الي 352 جنيها.
ولكن هل سيتوقف سعر صرف الدولار عند 580 جنيها؟ قطعا لا. سوف يتواصل تصاعد سعر الدولار نتيجة للسياسات الحكومية المعروفة ومع كل زيادة سترتفع تكلفة السلعة المستوردة ارتفاع ثلاثي: الأول ناجم عن زيادة سعر الدولار في السوق. الثاني ناجم عن زيادة الجمارك المدفوعة عليها. والثالث ناجم عن زيادة قيمة ضريبة القيمة المضافة على نفس سلعة. تزداد قيمة الجمارك والضريبة المدفوعة نتيجة لزيادة قيمة الأساس الذي يطبق عليه نسبة الجمارك والضريبة وزيادة قيمة الأساس نتيجة مباشرة لزيادة سعر الدولار في السوق.
وعلي سبيل مثال توضيحي آخر، تصور ان سعر الصرف في السوق ارتفع الي 650 جنيها بعد فترة ما. نفس السلعة التي تكلف دولارين ستقيم ب 1300 جنيها وستبلغ الجمارك عليها 260 جنيها وستبلغ ضريبة القيمة المضاف 265 وهكذا يكون اجمالي الجباية 525 جنيها بدلا عن 352 جنيها وتبلغ تكلفة السلعة 1825 جنيها بدلا عن 1512 جنيها مع ان سعرها في الخارج لم يتغير من جنيهين.
استعملنا في الأمثلة أعلاه متوسط معدل الجمارك، ولكن المتوسط ليس هو المعدل المفروض على كل السلع المستوردة فبعضها يجمرك على مستويات اعلي اضعافا مضاعفة.
خلاصة الامر انه كلما زاد سعر الدولار في السوق لأي سب من الأسباب مثل رب رب أو غير ذلك سترتفع أسعار السلع المستوردة وتزيد الضرائب والجمارك المفروضة عليها في نفس الوقت. ولا تنسي ان أسعار جميع السلع تترابط مع بعضها البعض وزيادة أسعار السلع المستوردة تقود الي زيادة أسعار السلع المنتجة محليا بلا شك.
يشكو المستوردون هذه الأيام من تراجع الاستيراد نتيجة لتفاقم الجبايات الناجمة عن الغاء الدولار الجمركي. ومن الممكن تصور ان العائد الضريبي والجمركي ربما (فقط ربما) يتراجع عما كان عليه سابقا نتيجة لتدني الاستيراد وبذا تجلب سياسة الحكومة نتائج عكسية على مستوي الإيرادات المستهدفة. وقد عرف المهتمون بالشأن الاقتصادي منذ ان كتب ابن خلدون ان رفع معدل الضريبة فوق حد معين قد يقود الي تدني العائد الذي تحصل عليه الحكومة وتم ادماج هذه الملاحظة الثاقبة في علم الاقتصاد الحديث تحت مسمي منحني لافر الذي يوضح ان الإيرادات الضريبية ترتفع طرديا مع زيادة معدل الضريبة، ولكن بعد حد ما يتراجع الدخل الضريبي مع زيادة معدل الجباية (مع ملاحظة انه في حالتنا هذه لم يتغير معدل الجمارك ولا الضريبة، ولكن ارتفعت القيمة التي يدفعها المواطن نتيجة لتحركات سعر الصرف).
وهذا هو السبب الذي دفعنا لوصف قرار الحكومة السابقة بتحرير/الغاء/تعويم الدولار الجمركي بأنه حماقة شديدة القسوة من الدولة الجبائية الطفيلية في حد ذاته أما اتخاذ ذلك القرار قبل تحقيق استقرار مستدام في سعر الصرف فيدخل في باب السادية بالتعذيب أما المقصود أو سادية من لا يدري النتائج الكارثية لتخبطه السياساتي.
ومع ان الحكومة السابقة هي التي سنت قرار تحرير الدولار الجمركي إلا ان هذا لا يعفي الحكومة الحالية من المسؤولية الكاملة لأنه كان بإمكانها عدم تطبيقه ولا ننسي ان وزير المالية الحالي هو نفس وزير المالية في الحكومة السابقة وجنرالات الخلا والحضر هم نفس الجنرالات.
معتصم أقرع
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …