مشروع اصلاح المجتمع المدني بين نضالات الصحفيين و منطق الله المستعان
بكري الجاك:
من اكثر ما صار يؤلمني في حواراتنا نحن معشر السودانيون في الآونة الاخيرة هو الطريقة التي ننهي بها حوراتنا حول اي قضية حيث يقول القائل “الله المستعان” و برغم قناعتي ان غالبيتنا شعوب مؤمنة بالفطرة و مسلمة أمرها الي العلي القدير في كثير من امور الحياة و مشاغلها، هذا برغم تبايناتنا الثقافية الاثنية و الجغرافية و الدينية، الا انني علي يقين تام ان مفردة “الله المستعان” تعكس بقدر ما تعكس حالة العجز و احساس الفرد منا بقلة حيلته ازاء تغيير احواله و احول من هم حوله اكثر مما تعكس حالة التسليم و اليقين بأن كل أمرنا هو في يد الله المستعان وحسب بغض النظر عما نفعل. ارجو أن لا يفهم قولي هذا في انني لا أري اشياء أخري تؤلم في حواراتنا، اشياء من شاكلة التناطح في البديهيات، و سجن الافق العام ما بين اوضة الخاص و برندة فقر الخيال، الاحتفاء باللغة اكثر من الاهتمام بالمضمون، التركيز في من القائل بدلا من التعاطي مع ماهية ما قيل، وبشكل عام غياب العقلانية في جل افعالنا. في ظني أن مقولة الله المستعان تشير الي اننا علي علم بان المنطق العقلاني يربط بين الافعال و النتائج و أننا حين تصعب علينا الاشياء و نواجه بقلة الحيلة في تغيير حالنا و مآلنا نجد أن افضل السبل الي قول اننا لا نملك من أمرنا شيئا هو التسليم برد الامر الي علي مقتدر فهو المستعان. في حقيقة الأمر هذا ليس محض تسليم بل هو تنبيه أن وكالتنا في تغيير احوالنا تبدو اقل تأثيرا من المطلوب و قد جُبلت طبيعة الذات السودانية (و ربما البشرية) في الهروب الي الله بدلا من التدبر في تغيير معادلات القوة المادية علي الأرض. ما تجسده نضالات الصحفيين المتمثلة في تكوين نقابتهم عبر عملية طويلة و شاقة و معقدة انتهت بانتخابات عامة هو أن بالامكان اكثر من الاكتفاء بقول أن “الله المستعان” بل أن خير تخريج الي أن الله هو المستعان هو ان يقوم الفاعل السياسي بدوره كاملا اولا قبل أن يترك الأمر لله و هذا ما فعله الصحفيون في مسيرة نضالاتهم الطويلة التي توجت بتكوين نقابة حقيقية تعبر عن ارادة الاعضاء لأول مرة منذ ما يزيد عن الثلاثة عقود. الا أن مسيرة اصلاح المجتمع المدني في بلاد السودان ما تزال في خطواتها الاولي.
التعريف المتفق عليه اكاديميا أن المجتمع المدني هو “ اي شيء ليس جزءأ من الحكومة و لم ينشأ كمبادرة حكومية أو تموله الحكومة” و بحكم هذا التعريف الواسع فأن المجتمع المدني يشمل النقابات و اتحادات العمال، الاحزاب السياسية، الاندية الرياضية، الطرق الصوفية، الادارات الاهلية، صندوق الختة و المنظمات الطوعية الغير حكومية الغير ربحية. هنالك تعريف ضيق للمجتمع المدني و هو لا يعبر عن المتوافق عليه علميا، و هذا التعريف يحصر المجتمع المدني في المنظمات غير الحكومية من منظمات طوعية و غيرها من المنظمات غير الربحية و هذا هو الشائع في اوساط السودانيين. اصل فكرة المجتمع المدني في التصور الليبرالي للعالم كما ورد في كتابات Hobbes and Locke, John Stewards Mills and Jan Jack Russo تشير الي أن المصالح متعددة و متنافسة و متضارية في المجتمع و أن جوهر دور الجتمع المدني في مجتمع مفتوح Open Society يتمثل في تنظيم هذه المصالح و تأطيرها و التعبير عنها عبر عمليات تعريفها و اعادة تعريفها و هذا جوهر فكرة السياسة كممارسة ليست حصرا علي نخبة او طبقة سياسية. و قد جادل كل من توماس هوب جون لوك في أن المجتمع ليس من صنع الطبيعة و انما انعكاس و تعبير عن عقد اجتماعي قائم علي تأطير هذا المصالح و التعبير عنها . و في كتابات لاحقة أكد Alexis de Tocqueville اليكس توكفيل علي فكرة تأطير و التعبير عن المصالح من خلال مشاهداته لكيفية عمل منظومات المجتع المدني الحية و الفعالة في التأطير و التعبير عن المصالح المتعددة و المتضاربة و المتنافسة في المجتمع الامريكي في اوائل القرن التاسع عشر.
اذا نظرنا الي المجتمع المدني من هذا المدخل المفاهيمي سوف يكون من السهل تلمس مدي تشوه المجتمع المدني السوداني منذ نشأته و تأسيسه، اذ دُمغت منظمات المجتمع المدني في بلادنا من نادي رياضي او نقابة او اتحاد عمل او طريقة صوفية او حتي منظمة غير ربجية بلعب دور الوكالة السياسية. من المفهوم أن يكون المجتمع المدني بكافة تشكيلاته واجهة لعمليات سياسية اذا ما اخذنا في الاعتبار أن القوي السياسية التي تدعي انها داعمة للديمقراطية كانت في حالة مقاومة لانظمة شمولية من صنع احداها لاكثر من 55 عاما من عمر دولة ما بعد الاستعمار. توظيف كل كيانات المجتمع المدني للعب دور سياسي في مقاومة الاستبداد صار هو الصبغة التي شكلت و تشكل خيال و مفهوم و طريقة عمل المجتمع المدني و ان كانت المحصلة تشوه كلي في بنيات المجتمع المدني و سوء فهم لدوره في ظل مجتمع مفتوح و في نظام ديمقراطي.
و بهذه الخلفية يحق للمحتفين بتجربة نقابة الصحفيين الاحتفاء باعتبار أننا نتلمس الخطوات الصحيحة التي تعيد بناء المجتمع المدني وفق التصورات الصحيحة في تأطير مصالح فئة بعينها و التعبير عنها و ربما التنسيق مع قطاعات مجتمعية أخري في اطار عملية تاطير هذه المصالح عبر تعريف و اعادة تعريف المصلحة العامة و الخاصة. اذا ما اخذنا في الاعتبار التجريف الذي حدث للفضاء العام بشكل عام و للعمل في النقابات و اتحادات العمال و التظيميات الطلابية بشكل خاص، فمن المنطقي أن يكون الاحتفاء بأمر كان يجب أن يكون طبيعيا مثله مثل شروق الشمس و تجول الناس في الاسواق هو شيء منطقي و يعبر عن حالة التطلعات السياسية في افق مسدود سياسيا اكثر من العملية في حد ذاتها. نقابة الصحفيين رغم اهميتها في ضبط بوصلة السلطة الرابعة الا أنها بحكم الامر الواقع سوف لن تغير حياة الناس في شيء ولا في تغيير معادلة توازن الضعف الماثلة.
خلاصة القول اذا كانت مهمة النقابات تنحصر في وضع ضوابط و اطر عامة لممارسة المهنة بما في ذلك بيئة وشروط العمل، تطوير و تعليم المهنة، و الدفاع عن مصالح الاعضاء فأتمني أن تكون النقابة المنتخبة علي قدر مسؤولية التاسيس لعهد جديد يقطع العهد مع تاريخ تليد من توظيف النقابات كابواق سياسية و يصرفها عن القيام بمهامها الاولية. هذا لا يعني أن النقابة سوف لن تخرط في عمل سياسي بل العكس أن فكرة النقابة هي عمل سياسي في الاساس اذا ما كان تعريف السياسية هو عملية تعريف و اعادة تعريف المصلحة الخاصة و العامة. ليس المقصود أن لا يكون لقيادات النقابة و اعضاء مجلسها القيادي توجهات سياسية، بل في اغلب الاحيان سيكون هنالك توجهات سياسية لكل قيادة نقابية، بل المقصود أن لا تتحول النقابات لابواق لاحزاب سياسية كاستمرار لحالة العمل السياسي الذي لا تقوم به الاحزاب التي في الاصل يجب أن تسعي الي تأطير مصالح عريضة تعبر عن تطلعات قطاعات عريضة من الشعب. الاصل في اصلاح المجتمع المدني أن تتعدد المصالح و ان تجد هذه المصالح القنوات الصحيحة للتعبير عنها، و الأصل في اصلاح نقابة الصحفيين يتمثل في الحفاظ علي استقلالية النقابة و التزامها بمهنيتها و مهامها الاساسية و الكف عن افتراض انها وكيل عند الحكومة لتحسين شروط الخدمة و حسب فجل العمل الصحفي لا علاقة له بالخدمة المدنية او في افتراض انها ستقوم بالعمل السياسي نيابة عن الاحزاب و بقية الفاعلين السياسين. و صحيح أن الله هو المستعان الا أن ما فعله الصحفيون في هذا الظرف الحرج يؤكد أن لكل منا دور يمكن أن يلعبه مع الاستعانة بالله، و خطوة الصحفيين نطفة في بحر و كما قيل مشوار الميل يبدأ بخطوة، و لكل صحفي بلادي باختلااف مشاربهم نقول مبروك و لقدام.
بكري الجاك
30 اغسطس 2022
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …