ما بين الشرعية الدستورية العادية ordinary والشرعية الاستثنائية extraordinary
محمد جلال أحمد هاشم:
بخصوص إنفاذ الإصلاحات الهيكلية structural والأدائية performative في المؤسسة العسكرية (الجيش والشرطة والأمن) خلال الفترة الانتقالية (ذلك بوصفها فترة شرعية ثورية، بما يفترض منطقا أن تكون حكومة الفترة الانتقالية ثورية الطابع)، هناك قطاع من العسكريين والمدنيين يُحاجّون ضد ذلك باشتراطهم تشكُّل حكومة مدنية منتخبة لتحقيق الإصلاحات المقصودة في المؤسسة العسكرية.
هذا الموقف لدينا عليه اعتراضان، ذلك لأنه يضعنا داخل حلقة مُفرغة.
الاعتراض الاول هو أنه طالما أن الجيش بحالته الراهنة من حيث احتياجه العاجل للإصلاح المقصود هو نفسه الذي يمسك بمقاليد الأمور، فهذا يعني عمليا استحالة أن يتم تشكيل حكومة منتخبة. إذ إنه من السذاجة بمكانة أن يعتقد البعض أن قادة المؤسسة العسكرية الذين سيُطاح بهم من باب الضرورة حالما تتحق هذه الإصلاحات سوف يعملون على تحقيق التحول الديموقراطي الذي من شأنه أن يأتي بحكومة منتخبة ديموقراطيّاً. وليس أدل على هذا أن هؤلاء القادة (بوصفهم حالة راهنة ومعطاة، نعيشها جميعا) من رفضهم تسليم قيادة مجلس السيادة (وبالتالي قيادة الحكم) للشق المدني قبل عامين إلا بقليل، وذلك عبر فترة انتقالية، تشاركية، ما يعني أنهم سيظلون ضمن تشكيلة الحكم الانتقالي. فكيف لنفس القيادة العسكرية التي عايشنا رفضها للتشارك مع المدنيين في الحكم الانتقالي (بعد انقضاء مدتها العسكرية) أن تقبل بالسماح للتحول الديموقراطي الحقيقي أن يحدث، ذلك بتشكُّل حكومة مدنية منتخبة، خاصةً إذا كانت هذه الحكومة المنتخبة هي التي سأقوم بإجراء الإصلاحات العسكرية الهيكلية والأدائية، بما من شأنه إبعاد المؤسسة العسكرية من السياسة، وبما من شأنه محاسبة قادة المؤسسة العسكرية على أي جرائم قد ارتكبوها، خاصةً الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة … إلخ!!
أما النقطة الثانية التي يقع عليها اعتراضُنا فهي عدم إدراك هؤلاء الناس (عسكريين ومدنيين) لحُجّية الشرعية الثورية فيما يعرف بالدولة الوطنية التي تُستمدُّ فيها جمييييع السلطات من الشعب. وعليه، إذا قامت ثورة شعبية في معنى خروج جماهير الشعب للشوارع مطالبةً باسترداد سلطاتها من البنية السياسية (ممثلة في كلام الحكومة والمعارضة)، فهذا من حيث الشكل يعني أن صاحب الأمانة قد جاء لاسترجاع أمانته. هذا من حيث الشكل، في معنى الخروج والانتشار الأفقي لجماهير شعب بعينه، داخل حدود دولة وطنية بعينها، تستمد سلطاتها وسيادتها من جماع السلطة المفوضة من هذه الجماهير. أما من حيث الموضوع، إذا أصبحت حركة هذه الجماهير بقدر من القوة تقتضي فرض وإجراء تغييرات هيكلية وأدائية في الدولة، عندها لا تكون هناك شرعية أعلى من هذه الشرعية الثورية. وإنما بهذا هتفت جماهير الشعب السوداني – ولا تزال تهتف، قائلةً:
*الثورة ثورة شعب .. والسلطة سلطة شعب*
هذه السلطة الشعبية هي طبعا ذات شرعية استثنائية extraordinary، ليست عادية ordinary، أي شرعية دستورية، ذلك لأنها لا تحدث كل يوم يوم، أو كل شهر، أو كل عام، بل هي أشبه ببيضة الديك، إمعانا منا في توكيد استثنائيتها.
وعليه، الشرعية الثورية أعلى درجةً وأعلى مقاما من الشرعية الدستورية، أولا لأنها تتحقق بفعل الجماهير مباشرةً دون تفويض نيابي؛ ثانيا، لأنها استثنائية، ليس في معنى عدم تكرار حدوثها بين الفينة والأخرى فحسب، بل هي استثنائية من حيث استثنائية الوضع الذي تنهض الثورةُ وتندلع لتصحيحه. والعلاقة بين الشرعية الثورية بمعناها هذا والشرعية الدستورية هي علاقة تجاوز وليست علاقة تناقض؛ فالشرعية الثورية تتضمن داخلها الثورية الدستورية، ذلك بدالّة أن الشرعية الثورية تُفضي منطقيا وعمليا إلى الشرعية الدستورية. وبالتالي يصبح منكرو هذه الشرعية الثورية إما بدرجة كبيرة من الجهل بطبيعة وانواع الشرعية في الدولة الوطنية، أو هم مزايدون ذوو أجندة غير ثورية، وهؤلاء هم أخطر أعداء الثورات الشعبية.
*ختاما*
الوعي الثوري هو وعي جمعي، وليس فقط مجرد وعي فردي أو قطاعي. والوعي الجمعي المتمخّض عبر قدر عالٍ من المعاناة والصبر عليها تجمّلاً عادةً ما يكون بقدر كبير من الاستشفاف والنفاذ إلى عمق الأزمة، ثم القدرة على استشراف الحلول وبأعمق الطرق وأكثرها مباشرةً، ذلك عبر اختزال هذه القضايا في هتافات، آسرة نعم، لكنها تستضمن داخلها الحلول النهائية للقضايا العالقة. وبعد هذا يأتي دور المثقفين والمفكرين لتقعيد هذه الشعارات وتحويلها إلى برامج قابلة للتطبيق، ذلك بتطويرها نظريا وعمليا. أما النخب، نخب دولة ما بعد الاستعمار (مقطوعة الطاري – على وزن نخب الإطاري) فتجدها تلوك على مضضٍ وتمضغ هذه الشعارات مع الجماهير، ذلك ريثما تنحرف بالجماهير إلى أجندتها الخفية التي لا تعدو في كل الأحوال المحافظة على امتيازاتها المتمثلة في جاه الوظائف العامة ليس إلا.
دعونا نستعرض وعي الجماهير الذي استقرّ على هذا الهتاف:
*الثورة ثورة شعب .. والسلطة سلطة شعب .. والعسكر للثكنات .. والجنجويد ينحل*
لقد لخص هذا الهتاف كل شيء، من حيث الشكل ومن حيث الموضوع! وبالفعل، هذه هي العقلة التي وقفت فيها حمير شيوخ الإطاري “مقطوع الطاري”! لقد بلغت الجماهير هذه الدرجة العالية من الوعي الفكري والسياسي شكلا وموضوعا، ثم أشارت إلى ما ينبغي عمله وبطريقة واااااضحة لا لبس فيها ولا غموض. وبالتالي لم يبق غير الآتي:
*أولا* على المثقفين أن يعملوا على تقغيد هذه الهتافات والشعارات إلى رؤية نظرية د، ثورية متماسكة، ثم على ضوء هذا أن يعملوا على بلورة هذه الشعارات إلى برامج سياسية قابلة للتنفيذ؛
*ثانيا* لا يبقى على النخب (نخب دولة ما بعد الاستعمار) مقطوعة الطاري إلا أن تقف في خندق واحد مع الكيزان أعداء الثورة في سبيل أن تحافظ (أو أن تسعى لتنال) امتيازات جاه الوظائف العامة، هي بادعاء تمثيل الثورة والثوار، والكيزان بالصراخ عاليا والغويل داويا بكلمات الحقِّ يُراد بها البال (من قبيل البكاء على التفريط في سيادة الدولة وهم أول من فرّط فيها). وكلا الفريقين تجمعهما لعبة واحدة ولو كانوا فيها مننافسين، بالضبط مثل لاعبين يتنافسان ضد بعضهما البعض في لعبة كرة القدم، فكل فريق يبدو كما لو كان ضد الفريق الآخر، هذا بينما كل واحد منها مكمل للآخر.
*كسرة*
*لا تفاوض .. لا شراكة .. لا شرعية*!
*الثورة ثورة شعب .. والسلطة سلطة شعب .. والعسكر للثكنات .. والجنجويد ينحل*!
الدعم السريع يفرج عن 28 من عناصر الجيش
كادقلي – الشاهد: أطلقت قوات الدعم السريع سراح 28 من الجيش تم أسرهم قبل نحو اسبوع في …