‫الرئيسية‬ رأي الباقر العفيف لحمدوك : لا تجعل الشعب حيطتك القصيرة!
رأي - أبريل 15, 2020

الباقر العفيف لحمدوك : لا تجعل الشعب حيطتك القصيرة!

خطاب مفتوح للسيد رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك

الباقر العفيف

السيد رئيس وزراء حكومة الثورة،
الدكتور عبد الله حمدوك،
المحترم،
أحييك تحية الثورة والوطن،
وضعتك الأقدار موضعا جعلتك فيه على موعدٍ مع التاريخ. أصبحتَ به معقد آمال الشعب وشبابه الثائر، الذي يطمح في العبور ببلادنا من ربقة التخلف والفقر والقهر إلى براحات التقدم والغنى والحرية. فإما أن تنهض لمعانقة التاريخ، أو تنتظر التاريخ لينحني لملاقاتك. والتاريخ قد ينحني، وقد يتعرَّج في مسيرته أو ينتكس أحيانا، ولكنه لا يرجع القهقرى. فإن انتظرت التاريخ لينحني إليك ربما تعطّلت مسيرة شعبنا لعقود أخرى.
أتيتَ رئيسا للوزراء على رأس ثورة من أعظم ثورات العالم. ويسَّر الله لك من القبول والتأييد الشعبي ما لم يُيَسِّره لأحد قبلك في تاريخ السودان الحديث، وما لا أظنه يَتَسنَّى لأحدٍ بعدك في المستقبل المنظور. وكان ذلك فضلا خالصا من الله عليك دون سعيٍ أو كدٍّ منك، “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم”.
وبطبيعة الحال فأنت تعلم بأنك ثالث ثلاثة من غمار الناس وصلوا لهذا المنصب. وفي بلادنا لا يصل غمار الناس إلى المناصب العليا إلا نتيجة انقلاب عسكري أو فترة انتقالية تعقب ثورة شعبية. وما ذلك إلا لأن ديمقراطيتنا معطوبة بالطائفية، لا يصل فيها غير “السادة الأشراف”، أو من يأتي عن طريقهم ويعمل بإشارة منهم، إلى سدة الحكم. وهذا أمر آخر يستحق وقفة ليست هذه السانحة مناسبة لها.
سبقك في مثل هذا المنصب السيد سر الختم الخليفة الذي أتت به جبهة الهيئات عقب ثورة أكتوبر ١٩٦٤. وأسقطه تحالف “الجبهة الوطنية” بزعامة حزب الأمة في نوفمبر ١٩٦٥. دعت الجبهة الوطنية، التي أزعجها غلبة اليسار في حكومة جبهة الهيئات، “لانتخابات مبكرة”. جلب حزب الأمة الأنصار من النيل الأبيض إلى الخرطوم، وهدَّد بأنه سيستخدم القوة لإسقاط حكومة أكتوبر الانتقالية إن لم تَسْتَقِل. كانت جبهة الهيئات التي انتَخبَتْ ودَعَمَتْ سر الختم الخليفة أضعف من أن تُشَكِّل له حماية. فقد ضعضعتها أحزابُ الجبهة الوطنية، وانسحب منها عدد من النقابات بالإضافة لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم. فذهبت جبهة الهيئات أدراج الرياح، ومعها ذهبت ثورة أكتوبر وآمال الشعب الثائر. استقال رئيس الوزراء قبل أن تُكْمِل حكومته شهرها الرابع. وعُقِدت “الانتخابات المبكرة”، وفاز حزب الأمة بغالبية المقاعد. وأصبح السيد محمد أحمد المحجوب رئيسا للوزراء، ولكن فقط إلى حين. فما إن أكمل السيد الصادق المهدي الثلاثين من عمره، حتى أخلوا له دائرة أجبروا نائبها على الاستقالة. فأصبح السيد الصادق نائبا في البرلمان في انتخابات تكميلية مُدبَّرة سلفا. وما إن استوى على كرسي النيابة حتى قال لرئيس وزرائه المحجوب “لا حاجة لنا بك بعد اليوم”. فأزاحه وجلس مكانه في واحدة من أسوأ الألاعيب السياسية التي جعلت من “الديمقراطية” مسخا ومَضْحَكَة لا تستحق التحسُّر على ضياعها.
فالدرس المستفاد من هذه الحقائق التاريخية هو أن الجبهة الوطنية التي صبرت على حكم العسكر ست سنوات عجزت عن الصبر على حكومة جبهة الهيئات لستة أشهر فقط كانت هي عمر الفترة الانتقالية. وما أشبه الليلة بالبارحة. فها هو السيد الصادق المهدي الذي صبر على الإنقاذ ثلاثين عاما حسوما لا يطيق اليوم مع حكومتك صبرا، وهي لما تبلغ عامها الأول. ومثلما دعا “لانتخابات مبكرة” وهو لم يبلغ الثلاثين من العمر عاد يدعو مرة أخرى “لانتخابات مبكرة” وهو يخطو نحو التسعين.
أيضا سبقك الجزولي دفع الله عقب ثورة أبريل ١٩٨٥. وهو لم تزعجه “الجبهة الوطنية” مطلقا. بل كانت سعيدة به وبصنوه سوار الدهب كون حكومتهما الانتقالية كانت “منهم وفيهم” تستمع لهم وتعمل بتنسيق كامل معهم لتسليمهم مقاليد السلطة عن طريق الانتخابات. حينها امتلكت الجبهة القومية الإسلامية الشارع وبان ضعف التجمع النقابي لدرجة لم يكن بوسعه فعل شيء. فأحال نفسه لمقاعد المتفرجين على مسرحية مأساوية أبطالها ثلاثي الجبهة الوطنية، الترابي والصادق والميرغني. انعقدت الانتخابات في موعدها المقرر وفازت أحزاب الجبهة الوطنية الثلاث بأكثر من ٩٠٪ من المقاعد. وهكذا كان يدرك السيد الصادق أن مهمة الجزولي دفع الله هي أن يحتفظ له بالكرسي دافئا إلى أن يستلمه منه. وللمرة الثالثة عادت الأحزاب لسيرتها الأولى، تمارس عادتها القديمة في العبث بالديمقراطية، والكيد لبعضها البعض، وبقية القصة تاريخ كما يقولون.
أما أنت وفي هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا فمسنود ليس فقط بقوى الحرية والتغيير، بل وأيضا بإجماع مفجري الثورة الحقيقيين، “الكنداكات” و”الشَّفَّاتة” الذين أذهلت جسارتُهم قوش وصحبَه وهزمتهم معنويا قبل أن تهزمهم جسديا. أنت تحظى بأجماع شباب السودان من الجنسين الذين قدموا للعالم ثورة وضعت سوداننا الحبيب في حدقات عيون العالم، وفي سويداء قلبه النابض، لأشهر متوالية. هذا الاجماع حولك يتجاوز قوى إعلان الحرية والتغيير، ويجعل ميزان القوة يميل لصالحك بصورة حاسمة، ليس بإزاء العسكر وحسب، بل وبإزائهم هم كذلك. فتحالف الحرية والتغيير تحالف هش يحمل بذرة فنائه في داخله، خاصة وأنه يضم بداخله قوى ما دخلت تحالفا إلا وأصابته بعطب مميت. وأمر تحلله الحتمي مسألة وقت ليس إلا. وكذلك تجمع المهنيين الذي أنهكته الخلافات وأخرجته من ساحة الفعل. فليس من الحصافة التعويل على هذا التحالف. لذلك فإن استقلال قرارك بإزاء هؤلاء، دون قطع الصلة بهم، ودون استعدائهم، أمر ضروري لإنجاح أعمال حكومتك.
إن شعبيتك وسط شباب الثورة أكبر بما لا يقاس من شعبية قوى إعلان الحرية والتغيير مجتمعة. وحتى هذه اللحظة لا أدري لماذا لم تنظم هذه القوى استقبالا شعبيا لك لدى عودتك للبلاد لأداء القسم كرئيس لوزراء الثورة. إذ لا ينتابني الشك بأنهم لو فعلوا ذلك لربما كنتَ حظيتَ باستقبال يفوق الاستقبال الأسطوري الذي حظي به الدكتور جون قرنق عام ٢٠٠٥. كان ذلك سيؤسس شرعيتك الثورية ويُؤكد للعالمَِيِن في الداخل والخارج تفويض شعب الثورة لك. وكنت حينها ستكون رئيس “حكومة الثورة” وليس فقط “رئيس الوزراء الانتقالي”، والفرق بين الصفتين كبير. فحكومة الثورة تتأسس على الشرعية الثورية وهي بذلك مؤهلة لهدم القديم الفاسد ووضع الأسس الصلبة لبناء سودان المستقبل بمخاطبة وحسم جميع قضايا الحكم العالقة منذ الاستقلال. أما الحكومة الانتقالية، فيريدها البعض حكومة ضعيفة مترددة وخائفة. رؤيتها مبهمة وترزح تحت الإحساس بأن شرعيتها منقوصة، ومهمتها محدودة بالاحتفاظ بالأوضاع كما هي، أو بتغييرات طفيفة لا تتجاوز السطح إلى عمق الأشياء، حتى الوصول للانتخابات. وفي اعتقادي أن البطء والتراخي والخوف والتردد في أداء بعض الوزراء مرده لهذه النظرة الأخيرة المغلوطة والخطيرة.
سيدي رئيس حكومة الثورة،
إن الفُرصةَ لم تَضِعْ بَعْدُ. وشعبُك ما يزال يتطلع إليك. وهو على أهبة الاستعداد للاستجابة لاستنفارك. وما تفاعله الفوري والتلقائي مع نداء “القومة للسودان” إلا دليلٌ على ذلك. وأكادُ أجزمُ أنك لو خاطبتَ شعبَك في أي وقت من الأوقات طالبا تفويضَه لخرج عن بكرة أبيه ليمنحك تفويضا يرفعك أمتارا فوق الجميع، ويُرِي الآخرين أحجامَهم بنفس القدر. لذلك فإنني أدعوك لتحويل هذا الرصيد الشعبي إلى قوة حقيقية تسند إرادتك السياسية لاتخاذ قرارات ثورية تعيد الحيوية للثورة والزخم للشارع، وتعمِّدُك ومن سينهضون معك لمعانقة التاريخ آباء وأمهات مؤسسين ومؤسسات لسودان المستقبل.
ومن هذه القرارات الثورية الآتي:
أولا، سيطرة الحكومة على الأموال العامة
إنْ كان هذا شرطا ضروريا لتعافي اقتصاد البلاد بالأمس، فهو اليوم أكثر ضرورة وإلحاحا. بل يصبح فرض عين على كل فرد معني بالأمر، في ظل الجائحة الحالية التي ركَّعَت أقوى الاقتصادات في العالم. إن اقتصادنا العليل أصلا والمُعَوِّل على ضخ المساعدات الخارجية، التي أصبحت، بفعل الجائحة، بعيدة المنال، لا يقوى على تحمل تعطل الإنتاج وتراجع التحصيل الضريبي والخدمي الناتج عن الإجراءات الصحية لحماية شعبنا من ڤايرُس الكورونا. هذا الوضع الطارئ يستلزم الاعتماد على الذات بحزم وعزم. وعليه تصبح قضية استعادة الأموال والأصول والشركات المملوكة للدولة، ووضعها تحت ولاية وزارة المالية، هي الواجب الوطني الأول. إنه من العار الوطني والخيانة الوطنية أن نطلب من الشعب المفقر الاستعداد لرفع الدعم في حين يرى أمواله في قبضة “القبضايات” من قادة الامبراطوريات المالية الخاصة بالجيش والأمن والدعم السريع وغيرهم. ومن الجانب الآخر لابد أن يعرف الشعب الجهد الذي بُذِل في البحث عن أموال البترول الضائعة أو المنهوبة والأموال المُجَنَّبَة داخل وخارج البلاد. لابد من حصر كل ذلك بالأرقام وتمليك الشعب المعلومة عن حجم هذه الأموال وما استعيد منها وما اتخذ من خطوات لاستعادة البقية. إن الصمت المريب عن هذا الأمر، والتعلل بالسِّرِّية والحوارات الهادئة داخل الغرف المغلقة، لا يعني بالنسبة للشعب سوى التسويف والتراخي في استرجاع حقوقه. وبطبيعة الحال، فإن عدم تمليك الشعب الحقائق سوف يُطلق العنان لتفريخ الشائعات عن صفقات وتسويات ومصالحات تجري من وراء ظهر الشعب.
ثانيا، محاربة الفساد
لا شك إنك تدرك أن كشف فساد الإنقاذ، الذي ربما لا يوجد له مثيل في تاريخ الإنسان على الأرض، وفضحه إعلاميا ليراه الشعب رأي العين، ومحاكمة اللصوص، واستعادة المال المسروق، له مردود سياسي واقتصادي كبير. إن الكشف عن، ثم حسم، قضايا الفساد الكبرى، وتفعيل قانون من أين لك هذا، وتطبيقه تطبيقا ثوريا سوف يفضح الكيزان ويكشف سَوْءاتِهم بصورة لا يواريها شيء حتى لو طَفَقُوا يَخْصِفُون عليها من ورق أشجار الأرض كلها. كما أنه يوفر مصدرا مقدرا لخزينة الدولة. وفوق هذا وذلك فإنه سوف ينفُض الرَّماد المتراكم على جذوة الثورة ويُعيد ضرامَها من جديد لتحرق قوى الثورة المضادة التي خرجت من جحورها ظنا منها أن الثورة قد ضعُفَت وتخثَّرت دماؤها وآن أوان الإجهاز عليها.
ثالثا، رفع الدعم عن المحروقات
إن الترتيبات في أولا وثانيا هي وحدها التي ستؤهل الحكومة أخلاقيا وسياسيا لكي ما ترفع الدعم عن المحروقات والدقيق. حينها ستجد سياساتها القبول والدعم وسيصبر الشعب على الضائقة المعيشية لأنه يثق في جِدِّية الحكومة ويعلم أن معاناته سوف لن تطول. أما إذا قررت الحكومة رفع الدعم قبل وضع هذه الإجراءات موضع التنفيذ ورؤية ثمارها بالعين المجردة فسوف تكون تَعامَلَتْ مع الشعب باعتباره الحيطة القصيرة أو ال soft touch واستسهلت الكوارث الاجتماعية المُتُرَتِّبة على إضعاف قدرته على الحصول على قوت يومه. إن قرارا مثل هذا سوف لن يصمد طويلا، وربما انهار حالما تبدأ القنابل الاجتماعية الناتجة عنه في التفجر تباعا، وربما انهارت الحكومة معه.
رابعا، تفكيك التمكين
إن البطء الغريب والتردُّد المُرِيْب والقرارات الخجولة التي تتسم بها عملية تفكيك التمكين في شقها المدني الذي تملكون فيه السلطة كاملة، لأمرٌ حار فيه الجميع. إن أدق وصف للوتيرة السلحفائية التي تسير بها الأمور حاليا هي محاولة “َهَدّ جبل الكحل باستخدام المراويد” أي أنها سوف لن تتحقق في المستقبل المنظور، وعلى التحقيق سوف لن تتحقق خلال الفترة الانتقالية. مما يعني أننا سنظل معطوبين هكذا لأجيال قادمة. أما الغموض التام الذي يلف ما يجري داخل الشق العسكري، الذي أُبْعِدَ عنه المدنيون، فهو من أقوى أسباب عدم الثقة في العناصر العسكرية داخل مجلس السيادة، وفي الأجهزة النظامية كلها. فالشعب عموما، وشبابه بصفة خاصة، ينظر للعسكر باعتبارهم سدنة النظام القديم، ولجنته الأمنية، ويمثلون الخطر الدائم المتربص بالثورة. لابد من تسريع وتيرة التفكيك في الخدمة المدنية باستخدام ما نملك من سلطات وصلاحيات حالية. ولابد من الضغط الحقيقي على العسكر ومحاصرتهم شعبيا وسياسيا وإعلاميا من أجل إشراك المدنيين في إعادة هيكلة الأجهزة النظامية وبنائها على أسس صحيحة وعقيدة وطنية.
هذه هي كبريات القضايا التي تنتظر الحسم لكي تعيد الثورة إلى زخمها الأول. فإذا حزمتَ أمرَك وقُدْتَ هذا الشعب في هذه المعركة المقدسة فسوف ينهض خلفك. حينها تُصبِح موساه الذي يعبر به ليس فقط تيه الثلاثين سنة الماضية، بل تيه الخمسة وستين عاما التي تمثل عمر السودان المُهْدَر. هذا هو موضعك من التاريخ فهلا نهضت لمعانقته؟
مع خالص الود

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …