‫الرئيسية‬ رأي منصور بين عالميه
رأي - أبريل 25, 2020

منصور بين عالميه

احمد محمد البدوي

عرفت منصور خالد في المدرسة الأولية، يوم استعرت كتابه الذي طبعه مكتب النشر، ويباع بقرش واحد، ولكنني أعدته مرغما بعد أن قرأته، وكان عنوانه: رحلة إلى إيطاليا وهو كتابه الأول.
وطبع عام 1954.
في مرحلة تالية وبعد سنوات، وقفت علي نسخة من مجلة يصدرها طلاب مدرسة وادي سيدنا الثانوية ربما عام 1949، وأمعنت النظر في مقال الطالب منصور خالد عن التجاني يوسف بشير، بعيد نشر ديوانه، في طبعته الأولي عام1943،
كان المقال عملا نقديا حصيفا وحقيقيا لأنه مزدان بتذوق يسبر الغور ويستجلي الجمال. ولأنه أنيق في مجتلاه.
هذا ثاني مقال نقدي متميز عن شعر التجاني، المقال الأول كتبه النوبي، المواطن المصري، محمد خليل قاسم صاحب الشمندورة، في مجلة أمدرمان، التي تحررها كوكبة سودانبة في القاهرية عام1946.
ولكنه اول مقال يكتبه سوداني، وستمر سنوات حتى يظهر مقال الطالب الأزهري تاج السر الحسن في جريدة الميدان عام1957، وتظهر من بعده المقالات السودانية الناضجة: صلاح احمد إبراهيم وعبد الله الشيخ البشير، وعز الدين الأمين في مقاله البديع عن أنشودة الجن الذي اذاعه المبارك إبراهيم في الراديو ولم ينشره مؤلفه في كتاب. شعر التجاني منعرج ومرتقى،
ولا تنهض قيمة شعر مختلف عما عداه إلا حين يرتقي التذوق المدون إلى مستوى المنعرج والمرتقى.
في عام 1968،تظهر مقالات منصور في جريدة الأيام مدوية بصخب ساخن ضد حل الحزب الشيوعي، ومن عنوانها:يوم أكل الثور الأبيض؛ تدرك ان أسلوبها الأدبي الرنان اجتذب القراء، أكثر من الموضوع، وتلك ميزة منصورية متبرجة بالمحاسن التزيينية إلى حد الاجتهاد في توليد الاشتقاقات غير المألوفة، والمتراقصة موسيقيا وتشكيليا،مثل افتنانه
في ارتداء أزيائه الحداثية المتفرنجة، فكأنه وكأنها لوحات تشكيلية حداثية، هنا فقط ندرك قول الفرنسي: الأسلوب هو الرجل.
قبيل مايو، يمكن استجلاء شخصيته في حدود أنه مثقف كاتب متمكن مرن القلم، وتدل كتابته العربية منذ المرحلة الثانوية، علي حسن استفادته من بيئته الأسرية، حيث تستقي الناشئة ذوبا من أصول اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وهو شبيه في هذا المنحي بمحمد أحمد محجوب الغردوني الآخر، الذي لن تجد كتابا من الحواشي والمتون، يدرسه طلاب المعهد العلمي إلا وقف عليه بل حفظه، وبذلك تقترن عند الأفنديين الثقافة الحداثية بجذور الثقافة العربية الإسلامية السنارية، ولهذا ترد إشارات خفية في كتابات منصور إلي أصول الفقه او البلاغة لا يدركها إلا من له قدم هنا وهناك.
صحيح عمل منصور في الصحف مثل الوطن الجمهورية الاشتراكية والناس الممالئة لحزب الأمة بل والنيل مع الشامخ عبد الرحيم الأمين المعلم،وكانت له صحيفته الحائطية في الجامعة، التي أدت الي تعرضه لاعتداء ذات ليلة داخل حرم الكلية الجامعية المتطورة الي جامعة كاملة الدسم.
ولكنه حتي جاءت مايو، يغلب لون الكاتب على تعريفه وبطاقته. وستجد مجلة الطليعة المصرية بماركسيتها الناصرية، برئاسة تحرير: لطفي الخولي، حين تنشر مقاله عن نكروما، تقدمه بصفة الكاتب التقدمي، وصفة الكاتب هي مزيته، وستبقي صفة التقدمي ملائمة، مالم تكن محصورة بفرمان، أيدلوجي في فريق اليسار او تيم حي ما.
في مايو، يبرز منصور في حكومة عسكرية، وليدة انقلاب ناصري مصري، ليست من ليلاه ولا سمره، وتموج فارضة مخالطة من لا يلائمه، وفي وزارة جديدة، مستحدثة متأسية بمصر، هدفها تكوين حزب خاص بمايو، ولم ينجح في إكساب أفق التنظيم رحابة تستوعب القوات المسلحة بوصفها فصيلا مثل العمال والمزارعين، مما استثار نايف حواتمة في الجبهة الديمقراطية ، ليقول في المؤتمر الذي أقامه ورعاه منصور بمكر، قال نايف:منصور أيش بدك، خل العسكر يطرح فكره!!
وتبوأ وزارة الخارجية، وحشدها في أحدث عمارة فخمة مصقولة جديدة، كانت خاصة فصادروها، وقد تذكر أنه وهو وزير، اختطفت السلطات السودانية الأمنية محمد مكي رئيس تحرير جريدة الناس التي كان منصور يعمل بها وبمثابة قلبها النابض ومحاميها أمام المحاكم،
وقتل المختطف في سجنه، ولم ينعم بحماية صديقه القديم، وما نحسبه تشفع فيه حتي يقال إنه لم يشفع. أو تجلس في استقبال الوزارة، فيأتي الوزير، ويهب موظف الاستقبال بربطة عنقه، واقفا يصيح : السيد الوزير! فيقف بعضهم، ومن لا يقف يبوء بالنظر الشذر من قبل موظف الاستقبال، والوزبر ماض غير آبه. وهو مدرك لما حوله. وتشده للموقف الدرامي غير المعهود في دواوين الميري السودانبة.
يبدو ان صفوة مثقفينا حين يتركون أقلامهم وصحائفهم وراءهم في معتزلاتهم، ويساومون بقبول ممارسة العمل العام، يبين أنهم غير ناقشين وغير ملمين بأصول في التعامل ومسالك الأعراف، مما هو واضح بالبداهة، ويتورطون ويغرقون في شبر ماء آسن.
ولا يعلمون ان العيون ساهرة تحصي عليهم سكناتهم وحركاتهم. هل تزعلل السلطة البصيرة والحصافة او تصيب التفطن بخدر او التباس!
منصور وهو وزير مقيم أول أيامه في منزل عائلته. وتنصب له الحكومة كشك حماية ومعه شرطي، فيقبل بذلك، ويقره ولكن الكشك يسحب من أمام المنزل ويعاد من حيث أتى، في اليوم التالي، لأن المرحومة والدته أقسمت، وتبرأت من أي حماية رسمية، لأن هذا البيت مذ قام على سوقه، لا يحميه إلا الله، وهي هنا تمثل ضمير أهل البيت وديدنهم الملتزم في التعامل، بالتزام التواضع والمسكنة. ويختفي الكشك.
هذه مفارقة بين النمط التقليدي الأصيل وبين مستحدثات الأفندية طلبا للتميز.
ومع كل هذا فإن منصور خالد يحق له أن يدق صدره اليوم، ويقول إن الفضل في اكتشاف البترول وحفر آباره، والاستعداد لتسويقه، يعود إليه، فقد أفاد من علاقاته في الغرب ومتابعته لحركة الاكتشافات العلمية والتكنواوجيا، أن يعرف وان يعمل وان ينجح مسعاه، وهنا تبرز صورته في أنه سوداني سخر علاقته مع الغرب ودوائره، لمصلحة شعبه، ولكن ما أن تحقق من أمر قرب تسويق البترول، حتي تحرك الطرف المناويء في مايو، مثل البهاء:الذي يسميه منصور: السيد10٪، واستمالوا أبا عاج الأرعن، وحدث تحول بسيط، نقلوا منصورا إلى وزارة التربية. ومات المشروع أو تأجل دهرا وكان قاب قوسين او أدنى. البترول بترول منصور.
مرة ثانية، في سنته الأولى وهو وزير خارجية، استطاع متأبطا علاقاته وخبرته، أن ينجح في عقد اتفاقية أدبس أبابا، وتوقفت الحرب، وعم السلام أمدا. ستجد طابع بريد صادرا عن حكومة السودان متداولا، يمجد الاتفاقية يضم صور منصور وعمر الحاج والباقر النائب وابيل اللير، من بين الأربعة، ستجد المجهود الأساسي والعبء كله من نصيب منصور وحده.
المركز الإسلامي الأفريقي أنشأه منصور وانتقى له دبلوماسيا ماجدا ومثقفا حداثيا درس في الأزهر والسربون. هو السفير د. ياجي، فأحسن تشييده، وتعميره،
فسال لعاب الكيزان وتلمظوا، واستنصروا بنميري من بعد مغادرة ياجي، فوضعه جعفر في يدهم، فأحالوه إلى مسخ مشوه، جامعة نعم، ولكن يرغم طلابها زغب الحواصل علي الخروج في مظاهرة قرب القصر الجمهوري، بعد إزاحة المخلوع وخراب سوبا. صار حظيرة لتفريخ براعم الدواعش وليس منارة حضارية ذات رحابة في أفقها.

ثم تأتي نقلة مهمة في تاربخه، مرحلة قرنق في الحرب وفي الحكم، بكل ما يقول منصور عن مزايا قرنق ومناقبه، فما حدث هو انفصال وتقسيم للبلد، صحيح أن منصورا وقرنق، كانا يريدان سودانا جديدا موحدا، متحررا من أسر العبودية وإدمان الفشل واللهوجة، ولكن الأمريكان رفضوا، وأرغموا قرنق تحت وطأة التهديد بالتصفية، وصار منصور مستشارا في القصر بضع سنين، ولكن كان الرضوخ للتقسيم الذي أملاه الأمريكان باسم الكنيسة والمصالح الأمريكية الاستراتيجية أمرا إدا، لانسميه عمل غير صالح وإنما نسميه عملا آثما،
منصور يتحمل مسؤوليته هنا، ويتحمل قرنق وزره، فهو ليس بطلنا، إنه الرجل الذي ساوم وقسم بلدنا مرغما، وباع استراتيجيته بالفائظ، والخسران المبين ،وفي النهاية تخلصوا منه. مثل زجاجة هشموها فاندلق ما فيها من الإكسير على شجر الغابة والجبل، وصار استمداد البرء مستحيلا على رجل أفريقيا العيان من الداخل.
وتكاد كل كتابات منصور تكون تبربرا لممارساته في مجال العمل العام، ومعها مساجلاته، مع أبناء جيله، وهو يعرف كيف يجادل بمقدرة تذكرك بمحمود محمد طه، ويعرف كيف يفحم، ويغوص في المصادر محتفيا بالدقة.
ويظهر أن مثقفي الصفوة في ذلك الجيل لا يتورعون عن استخدام الرفث في الإفحام ولكنهم قد يضيفون إليه أمشاجا من العنصرية وقد استخدمها علي ابي سن في كتابه :المجذوب والذكريات، وتساءل عن أهل منصور الذي يتباهى بتقاليدهم العلمية، حتى أن أطفالهم يشبون علي حفظ مختصر خليل، وبادر منصور فأصدر الثلاثية الماجدية في جزءين عن تاريخ جده وتصانيف آبائه وشعرهم.
هذا من تاريخ ذلك الجيل وكسبه. ومن عبئه على أكتاف تاريخنا.
الجيل الذي يترك ما تقول وراء ظهره، ويعمد الي القائل مختتلا وقاتلا ومستبيحاحرمة الخصم!
هكذا كان يجري الخلاف بين صفوة الجيل،
ولقد أحسن منصور حين أنصف مبارك زروق في ثنايا سيرته الذاتية ذات المجلدات الاربعة.
علي أن ضراوة الخصومة في ذلك الجيل الغردوني، قد تتخذ زينتها بين ابناء أمدرمان منهم، انظر الي ضحايا المحاكم العسكربة ،
ومن عانوا ويلات الفصل وفقدان مورد المعيشة، والمقالب المؤذية، ستجد حظ الأمدرمانيين هو الأكبر، في الزمن الديمقراطي وفي العهد العسكري.
يبقى لنا من منصور، منصور الشاهد المطل من عل ، الموثق للسودان المستقل وخيباته، وفجيعته في الصفوة التي انتدب نفسه للحوار معها، فانتهى به الأمر مدفوعا إلى شن حرب ضروس ضدها،
جندل رؤوسا كثيرة، كانت في المقدمة، تعنو لها الوجوه، ولكنه مضى مثخنا بجراح اوقعتها به، المرحلة التاريخية الموبوءة، يموت مدثرا بكتاباته مثل التجاني مدثرا برقاعه، ينزف.
كل صادق في السودان كله ينزف.
كانت مصيبة لم ينج أحد من ويلاتها.
يبقى الكاتب المثقف الذي لم تجمع مقالاته النقدية في كتاب، وخاصة ما قدمه من إذاعة لندن، في فترات متباعدة. صاحب أهم مكتبة سودانية بما حوت من اوراقه
ومقتنياته من الكتب والمجلات، ورصيده من محافل الفن التشكيلي والغنائي السوداني، وأضابير الأسرار،
لا تضاهيها إلا مكتبة خاله الماجد الأمير ومكتبة المحجوب ومكتبة جمال محمد أحمد،، ومكتبة مولانا الشيخ مجذوب مدثر في مجال الدراسات العربية الإسلامية والمخطوطات ووثائق المهدية.
انبهر الناس بأناقة ملبسه، ولكن وسامة الأناقة الحفيقية هي في الباطن مخبوءة، وسامة عقله ودأبه في تحصيل الثفافة، وفروسية قلمه.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …