‫الرئيسية‬ رأي من أين أتي هؤلاء الشباب؟
رأي - مايو 28, 2020

من أين أتي هؤلاء الشباب؟

محمد محمود

1
من أين أتوا؟ من أين أتي هؤلاء الشباب؟
أتوا رجالا ونساء من كلّ أركان المدن الثلاثة، يحملون كلّ سَحَنات الوطن الكبير وحُلْما يجرى مجرى الدمّ في عروقهم بوطن جديد وبديل. حوّلوا الميدان لقلب الوطن النابض ولمحجّته الجديدة وصورة مستقبله. وإن كانت المدن الثلاثة هي المكان الذي أتوا منه فإنهم أتوا أيضا من زمان نعرفه ولا نعرفه — أتوا من الحاضر الذي نعرفه ونكتوي بقهره ومن المستقبل الذي نحلُم به. أتوا وهم يدوسون على قهر اليوم ويوقظون فينا حُلْم الغد.
هم جيل جديد وفريد جمع التضحية والبطولة. نشأوا في ظل نظام القهر العسكري الإسلامي واعتبرهم النظام مادته اللَّدْنة الطيِّعة التي سيصوغها وفق رؤيته وقوالبه ليُمْسُوا حَمَلة مشروعه. إلا أنهم ورغم كل ما خضعوا له من تشريب عقائدي عبر المنهج المدرسي والمسجد والإعلام الكثيف المحيط استطاعوا أن يدركوا ويلمسوا خَواء المشروع الذي أراد النظام فرضه عليهم وتجنيدهم لخدمته ورفضوه.
وعندما جاءت لحظة الانفجار والخروج كانوا في قلب الثورة وهم يهتفون بشعاراتها لتنزرع في كل قلب وبيت: حرية، سلام، وعدالة. إلا أن هؤلاء الشباب لم يجدوا أنفسهم وهم يخوضون غمار الثورة في الشعارات التي يهتفون بها فحسب (على أهمية الشعارات) وإنما أيضا في “الوعي الوجودي” بالثورة السودانية، الوعي الذين جعلهم يقولون: من غير الثورة والتغيير لا معنى لوجودنا وحياتنا، الوعي الذي تحوّل لحالة مِقْدامة غير هيّابة تواجه عنف النظام المدجّج بالسلاح بالمقاومة السلمية العزلاء، حالة تتصدّى للطلقة بالصدر العاري.
عندما احتل الشباب الميدان قفزت الثورة لتدخل مرحلة تحدٍّ جديد هو تحدّي الاعتصام والمواجهة اليومية الصبورة. كان الميدان هو ميعاد الشباب مع فرصة من شاكلة فرص التاريخ تلك التي تُلْقي بها الثورات اتفاقا وعَرَضا وتفاجىء بها حتى الثوّار أنفسهم — فجأة انفتحت أمام الشباب ساحة مكانية وزمانية فتحت ذراعيها ودعتهم لإقامة “جمهوريتهم”. وفي الحال أمسكوا بتلابيب الفرصة واقتنصوها ليقيموا “جمهوريتهم”. كانت تلك التجربة التي امتدت ثمانية وخمسين يوما (6 أبريل 2019 – 2 يونيو 2019) تجربة فريدة في تاريخ الثورة السودانية لم تُتَح لثوار أكتوبر وأبريل تجربة تماثلها، وكانت أكبر القَفَزات طموحا للانتقال من معنى “مَنْ غيرُنا يُعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر” وملامسة معنى “مَنْ غيرُنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة”.

2
كان الميدان واقعا جديدا انتصب ناضجا مكتملا منذ لحظة ميلاده. أصبحت شعارات “حرية، سلام، وعدالة” التي كان شباب الميدان يهتفون بها بالأمس هي القيم التي يتنفسونها ويعملون على تجسيدها في حاضرهم الجديد. جسّدوا قيمة الحرية واقعا ديمقراطيا منفتحا. كان الميدان مفتوحا لكل السودانيين (والأجانب) وهم يزورونه بعد خضوعهم لاعتبار سلامتهم وسلامة الآخرين لتفتيش حضاري “بالذوق”. وفي داخل الميدان تجاورت خيم ومنصات مختلف الأحزاب والاتجاهات الفكرية والرُّؤى وكانت كل الأفكار والبرامج مطروحة للنقاش الذي ينطلق من احترام حرية الفكر والتعبير.
وإن كان السودانيون يحلُمون بالحرية والديمقراطية فإنهم يحلُمون أيضا بالاشتراكية — بذلك المجتمع الذي يسوده العدل الاجتماعي الشامل ويختفي فيه الفقر وتتساوى فيه الفرص وتتفتّح وتنمو فيه طاقات الإنسان من غير أن يحدّ نموها قيد. الحُلم الذي عبّر عنه شعار “عدالة” جسّدته “جمهورية” الشباب بقدرما استطاعت تجسيده في واقع المشاركة والعطاء الذي أقاموه وعاشوه والذي لخّصته تلك العبارة البسيطة القوية: “عندك خُتْ، ما عندك شِيل”.
ماذا عن السلام؟ جسّدت “جمهورية” الميدان السلامَ بقدرما استطاعت تجسيده وهي تحتفي بتنوّع الوطن الكبير. في الميدان سادت تلك الروح الجامعة التي شدّت الجميع لهُوية جامعة تعلو على القبيلة والدين. ما كان من الممكن للميدان أن يسمح بإن ينزرع عامل كراهية أو فُرْقة أو تحيّز بفعل القبيلة وحسّها العرقي أو الجهوي أو بفعل التعصب والانحياز الديني.
وقدّمت “جمهورية” الميدان نموذجا وتجربة مهمّة فريدة في تاريخنا الاجتماعي المعاصر — قدّمت ولأول مرة فضاء صحيحا معافي وجدت فيه المرأة حريتها وكرامتها والنظر لها كإنسان وأمست تتحرّك فيه بلا خوف أو شعور بالتمييز والدُّونِيّة. كان هذا من ناحية مظهر تكريم لدور المرأة في الثورة نفسها، إلا أنه كان، وهذا هو الأهم، اعترافا بحقّها في المساواة وبكامل أهليتها القانونية.
وكانت “جمهورية” الميدان أيضا احتفاء بقوة أخرى انتصبت شامخة لتدفع المسيرة هي قوة الفنّ، وخاصة فنّ اللوحة التشكيلية. كانت جداريات التشكيليين، وتظل، من أهم ما أنتجه شباب الثورة وهم يتفحصّون وجوه تجليات الثورة ويبدعون مختلف أشكال المعادِلات البصرية لمعانيها. وفي موازاة ذلك انساب الشعر وانسابت الموسيقى.

3
كان الوطن وكأنه يُعِدّ نفسه لحفل عُرْس. وكان الموعدُ الميدانَ يومَ العيد.

وفي الهزيع الأخير أتى الآخرون،
من شّقٍّ في جدار التاريخ انطلقت جحافلهم.
ضرّجوا العيد وتركوه كساء يقطر دما.
جاءوا مسرعين، واختفوا مسرعين — فهم لا يستطيعون البقاء.
ولكن دمَّ الثوار باقٍ لأنه دوما يحمل بذرة حُلمهم الذي لا يموت.
ويا ميدانُ … العيدُ عائد، العيدُ عائد،
ويا ميدانُ … ستنتشي يوما بحفل عُرس الوطن.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …