‫الرئيسية‬ رأي يومياتي في زمن الكورونا(9) : الانتخاب
رأي - يونيو 8, 2020

يومياتي في زمن الكورونا(9) : الانتخاب

نازك الملائكة الرشيد

في معمل التربة للهندسة المدنية توجد تجربة يتم علي أساسها تعيين مقاسات حبيبات الركام الخشن والناعم (الحصي والرمل) وذلك بإستخدام عدة غرابيل قياسية بمقاسات مختلفة، يتم عن طريقها اجراء عملية الغربلة للوصول لمعايير محددة وذلك لمعرفة مدي مطابقة هذه المقاسات لمتطلبات معينة في البناء والتشييد، فكل بناء يتطلب قوة وصلابة معينة وبذلك تتم عملية هذه الغربلة للركام بشقيه للوصول للقوة القصوي لهذا البناء.

فالإنسان وهو يمثل أكرم المخلوقات علي الأرض حينما يتم إنتخابه لحدث معين أو مهمة معينة في الحياة أو ترفيعه لمقام عالي، تمحصه هذه الحياة بالتجارب ليتم إعداده بشكل جيد لما هو مقبل له، وبحيث يكون أكثر قوةً وحكمةً وتأهيلاً لهذا الموقع الجديد. وتكون هذه التجارب في شكل إيجابي أو سلبي تصقله وتشد من عوده وتوسع له آفاق المعرفة والفكر وتبصره بالحقيقة من حوله.
وكما تتساقط ذرات الرمال والحصي غير المرغوب فيه لمرحلة معينة من القياس، كذلك البشر هذه التجارب تساقط منهم كل السمات والأخلاق والأفكار الغير مرغوب فيها لمرحلة الترقي في طور الإنتخاب…

“كان أمة”، تجد في هذه الحياة من له القدرة علي التغيير الإيجابي في الأمة لأنه هو في حد ذاته أمة.
ولم يصل إلي هذه الدرجة العالية من التأثير في الغير إلا بعد أن يكون قد خاض فيض من التجارب و الإعدادات تؤهله لهذا المنصب القيادي التغييري المُلهم.
يحضرني هُنا في خضم ما يسود العالم من هجمة عنصرية بُنْيَت علي درجة لون البشرة، ذلك القائد الملهم مالكوم أكس. ذلك الرجل ألذي أحدث تغيير جذري في مفهوم العنصرية وإسترداد الحقوق و إنصاف بني جلدته والتعريف الصحيح بالإسلام في بلد مُتعدد الأعراق والديانات ومعقد في تركيبته الإجتماعية التي قامت علي أساس أخذ الأرض من سكانها الأصليين بالقوة وبالإبادة وإستجلاب إناس أُخر وإستعبادهم لكي يعمروا هذه الأرض.

فمالكوم أكس خضع لسلسة من الغرابيل القياسية إلي أن وصل لهذه الدرجة من الإنتخاب والإصطفاء البشري.

فأول تجربة للغربلة خُضع لها، كانت نشأته في بداية طفولته يتيماً، حيث فقد والده قتيلاً وفقد والدته مريضة في مستشفي للأمراض العقلية، وتم أخذه ليُربي عند إحدي الأُسر. فوألده كان قسيساً وناشطاً سياسياً في واحدة من كبريات المنظمات التي تعني بتقدم الأمريكان من أصول إفريقية المُلقبون حسب لون بشرتهم بالسود، وكان محارباً لعنصرية الرجل الأوروبي الملقب بالرجل الأبيض .كما كان حريصاً علي إصطحاب طفله مالكوم وحضوره لإجتماعات هذه المنظمة، إلي أن تم اغتياله علي يد أحد العنصريين البِيض.
من تجربة اليتم هذه في صغره تم إعداده أولياً علي خصلة الإعتماد علي الذات والتقويِ بالنفس ومجابهة صعاب الحياة وحيداً بدون سند ودعم من الآخرين، أما إستفادته من تجربة التبني وكما أخبر بنفسه فهي: ” لقد تعلمت باكراً أن الحق لا يعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد”.

أما المرحلة الثانية من تجربة الغربال فكانت سجنه الأول وهو في السادسة عشر من العمر.
فكانت تجربة السجن له أولاً :لأبعاده من المحيط الذي تردت أخلاقه فيه وأصبح ميالاً للجريمة.
وثانياً: لإرتياده المدرسة الثانوية وتفوقه الكبير فيها علي جميع أقرانه وظهور ذكائه ونبوغه.فتم إعداده ليكون أكثر قبولاً للعلم والتفكر ومعرفة ملكاته العقلية.

وفي مرحلة الغربال الثالثة تم سجنه للمرة الثانية. في السجن الثاني له وبعد أن أصبح أكثر نضجاً هَيئت له العُزلة الروحية والنفسية مراجعة نفسه وخط سير حياته وبدأ بزوغ فجر الشخص الرسالي الذي تم إعداده وإنتخابه ليصيره.
فأولاً: أصبح إنسان ذو إرادة قوية يستطيع فيها تغيير نفسه للأحسن بالتخلي عن كل عاداته السيئة.
وثانياً: حصلت له أكبر نقلة بإعتناقه للإسلام علي طرح وعقيدة حركة أمة الإسلام التي كانت لها أفكار ومفاهيم خاصة بعيدة بعض الشئ عن روح الإسلام الحقيقة. وبإسلامه تبين له مفهوم المساواة وعدم تفوق العرق الأبيض علي الأسود كما كان سائداً في بلده وإن كانت حركة امة الإسلام تدعو هي أيضاً الي تفوق العرق الأسود علي الأبيض، كما حصل له إرتقاء خُلقي وتوازن نفسي فأصبح شخصية مختلفة عن ما كان عليه.
وثالثاً: أصبح مثقفاً ثقافة عالية في كل نواحي الفلسفة والفكر وتحليل الجنس البشري والتاريخ واللغة، فبيئة السجن مكنته من قراءة العديد من الكتب.
ورابعاً أصبح قيادياً مفوهاً قوي الشخصية ومن ذوي الملكات الخطابية الحماسية وقادراً علي الجدال المقنع والمناظرة ومقارعة الحجة بالحجة.ومكنته هذه الملكات من إقناع الكثيرين بالدخول في الإسلام وتبوئه لأعلي المناصب في حركة أمة الإسلام بعد خروجه من السجن.

وبخضوعه للغربال في مقاسه الرابع ،إنشق عن أمة الإسلام وأسس مؤسسة المسجد الإسلامي، وبذلك خطي أول خطوة بشجاعة في إستقلاله برأيه الشخصي عندما يري أنه الرأي الصحيح ولا يكون ضمن مسلوبي الإرادة والرأي.

أما في أهم مرحلة من مراحل تجربة الغربال وفي مقاسه الخامس كانت تجربة الحج ، وهي تمثل أكبر نقلة له والظهور الفعلي للمهمة التي تم إنتخابه وإعداده لها. فبها تم قطف خلاصة تجاربه كلها وتبيان إصطفائه.
ففي الحج قُدر له أولاً :التعرف علي الإسلام بوجهه العملي و الروحي وتعاليمه وفرائضه الصحيحه.
ثانياً : تركه للعنصرية السوداء ونبذه لها فقد عرف روح الإسلام الحقيقة فصرح بالآتي؛” في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها”.
ثالثاً: تصالحه مع نفسه وترك الأحقاد جانباً وبذلك حصل له سمو روحي ورقي أخلاقي، ولخص تجربته هذه في قوله ” لقد أوسع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سنة، رأيت كل الأجناس من البيض ذوي العيون الزرق حتى الأفارقة ذوي الجلود السوداء وقد ألَّفت بين قلوبهم الوحدة والأخوة الحقيقية فأصبحوا يعيشون وكأنهم ذاتٌ واحدة في كنف الله الواحد”.
رابعاً: الدعوة للإسلام بجوهره الحقيقي وبدون عنصرية، وتكوين جماعة جديدة بإسم جماعة أهل السنة. وذلك بعد قدومه لبلده من الحج بأفكار ورؤي صحيحة عن الإسلام.

في المرحلة السادسة والأخيرة من مراحل تجربة الغربال، كانت إغتياله. ليرتقي شهيداً تعلو وجهه إبتسامة الشهادة والنصر والقبول، ولتجد دعوته القبول من الكثير وأصبح المسلمين من أصول إفريقية أقرب ما يكونوا إلي تيار الإسلام الوسطي. كما تم إصدار مرسوم قانوني بعد وفاته بشهر ينص علي حق التصويت للأمريكيين من أصول إفريقية.

لقد جَرَّبْتُ هذا الدَّهْرَ حتَّى** أفَادَتْني التَّجَارِبُ والعَناءُ
هكذا هي الحياة تجارب تلو تجارب، والحكيم العاقل من فهم وأدرك المغزي من هذه التجارب وعَرف ما يتم إعداده له، فإستعد وأَعَد عِتاده وترك الغفلة. فقطف ثمارها اليانعة دنيا وآخرة.

ملحوظة:
الشكر لإستاذي الموقر بروف/ عابدين محمد علي صالح ،لحواره ونقاشه المطول عن مالكوم إكس وكان هو من معاصريه ومؤيديه، فأثار في الفضول لمعرفة مالكوم إكس وقراءة مسيرة حياته الذاخرة.
وأشكر الصديقة العزيزة ريم جكنون التي ألهمتني إسقاط تجربة التحليل المنخلي (الغربال) بتجارب الحياة.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …