مباحثات جوبا: تَرقّي المعارج أم حفل العشاء الأخير..!؟
شمس الدين ضوالبيت
مسعى هذه المساهمة مواصلة لتوسيع الحوار حول عملية السلام الجارية في جوبا، بمساهمة أخرى من داخلها، ومحاولة لإلقاء الضوء على بعض جوانبها، مع اقتراب التوقيع على أتفاق في واحد من أهم مساراتها، من جهة، وتصاعد نبرات النقد وتململ الشارع السوداني من تأخر أو تعثر التوصل إلى اتفاقية السلام التي كان يرجوها، من جهة أخرى ..
فبعد شهرين من الآن، في يوم 18 أغسطس 2020 تكون الحرب الأهلية في السودان قد أكملت عامها الخامس والستين. وبذلك تكون ثلاثة أجيال من السودانيين قد عاشت في أتون هذه الحرب، وُلد أولهما ورحل معظم من ينتمون إليه لم يعرفوا شيئاً غيرها ..
أيضاً بعد شهرين من الآن، في يوم 17 أغسطس 2020، تكون الوثيقة الدستورية لثورة ديسمبر قد أكملت عاماً كاملاً منذ التوقيع عليها. وضعت الوثيقة الدستورية في صدر أولوياتها تحقيق السلام الشامل العادل بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها، أما ثورة ديسمبر ذاتها فقد فتحت فرصة تاريخية ولأول مرة في تاريخ السودان المعاصرلتحقيق سلام شامل ومستدام .. كيف ذلك؟
السبب في ذلك هو أن الديمقراطية والسلام متلازمتان في بلدان كالسودان.. فالديمقراطية في بعدها الأساسي المستند إلى المشاركة شرط ضروري للاستقرار(أو بكلمة أخرى السلام)، في البلدان متنوعة التكوين الإثني والثقافي والديني. ذلك أن هذه التكوينات كافة تتطلع بالضرورة الاجتماعية للتعبير عن ذاتها وللمشاركة في إدارة شئونها وتطويرها والمشاركة في الشأن العام لبلدانها (إدارة التنوع).
ومعلوم أن أكثر من نصف قرن من الأنظمة الدكتاتورية بالإضافة إلى مركزية ثقافية قابضة قد قمعت تطلع مكونات التنوع للمشاركة، الأمرالذي أدخل العنف المسلح للعمل السياسي في السودان..
يتأكد هذا التلازم بين الديمقراطية والسلام، أن أياً منهما لم يستمر أو ينجح في غياب الآخر. حدث ذلك بفشل عمليات التحول الديمقراطي بعد الاستقلال ثم بعد انتفاضتي اكتوبر وأبريل لغياب السلام، وفشلت اتفاقيتا سلام أديس أبابا (1972)، وإتفاقية السلام الشامل لغياب إطار سياسي ديمقراطي لتطبيقهما إبان نظام مايو ثم نظام ‘الانقاذ‘. وبالطبع سيكونا متلازمين في هذه الفترة الانتقالية، إما أن يتأسسا معاُ، أو أن تعثر، أو أستهداف، أو غياب أي منهما سيطيح ويقضي بالضرورة على الآخر منهما..!
أما الفرصة التاريخية التي فتحت كوّتها ثورة ديسمبر، فمردها أنه برغم 65 ستين عاماً من الحرب الأهلية لم يعرف الفضاء السياسي السوداني حركة سلام جماهيرية غطت كافة أرجاء البلاد إلا خلال هذه الثورة، وينطبق الأمر ذاته على التوأم الثاني، فلم يعرف الفضاء السياسي السوداني حركة تنادي بالحرية والديمقراطية والعدالة بهذا الاتساع الجغرافي والديمغرافي إلا في ثورة ديسمبر المجيدة. الفرصة التأريخية غير المسبوقة لتحقق السلام المستدام والتحول الديمقراطي المستقر تكمن في هذا التلازم الحادث على أرض الواقع، بسبب الثورة، بعد أن كان شرطاً نظرياً مجرداً ..
وفقاً لهذا التقسيم فإن الوثيقة الدستورية هي التي حملت وفصَلت ركائز التحول الديمقراطي المرجو عبر فترة انتقالية من 3 سنوات، بعدها بأقل من شهر بادر مجلس السيادة، عبر مجلس أعلى للسلام أسسه، وبمشاركة مجلس الوزراء، بالتوقيع في يوم 11 سبتمبر 2019، على إعلاني (جوبا لإجراءات بناء الثقة والتمهيد للتفاوض)، الأول مع الجبهة الثورية والثاني مع الحركة الشعبية – شمال، لاستثمار الإرادة السياسية الجديدة التي أفرزتها الثورة، من أجل الدفع بعملية السلام كقضية استراتيجية وتحقيق تطلعات الشعب السوداني في السلام العادل الشامل، كما جاء في الإعلان. حدد الإعلان من بين مسائل أخرى، مقر التفاوض، وإجراءات بناء الثقة، ومسارات التفاوض وأطراف التفاوض مع حكومة السودان. جاء في الإعلان أن أطراف عملية السلام الشامل مع الحكومة هم: الجبهة الثورية، الحركة الشعبية/ شمال، حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، وأي أطراف أخرى تتفق عليها هذه الأطراف الأساسية.
معلوم أن قوى الحرية والتغيير لم تشارك في هذه المرحلة الأولى من عملية السلام في جوبا، ولا في الجولة الثانية القصيرة في اكتوبر، فقد كانت لها تحفظاتها على دور مجلس السيادة فيها، وعلى بعض محتويات إعلان جوبا، كاعتماد نظام المسارات، وتأجيل تكوين المجلس التشريعي وتعيين الولاة لما بعد اتفاق السلام. لكنها رأت ألا تجاهر بتلك التحفظات تجنباً لخلق أزمة سياسية بعد أقل من شهر من التوقيع على الوثيقة الدستورية. فيما بعد راجعت قوى الحرية والتغيير هذا الموقف، والتحقت، حرصا على تحقيق السلام، بالمجلس الأعلى للسلام وبالمباحثات في الجولة الثالثة، التي بدأت في 10 ديسمبر، بوفد من 11 مشارك، كنتُ أحدهم بصفة مستشار للوفد. وكانت قد عقدت قبلها عددا من اللقاءات وورشة لترتيب موقفها من السلام بناءاً على أوراق قدمتها فصائلها ونقاشات دارت حول السلام في مجلسها المركزي، وذلك إلى جانب موجهات في محاور خمسة: الحكم والإدارة، القوانين والتشريعات، الاقتصاد والتنمية، الترتيبات الإنسانية والترتيبات الأمنية، أعدها المختصون في مجلس الوزراء ..
رسمت اللقاءات التحضيرية لوفد التفاوض التي انعقدت في الخرطوم واللقاءات اليومية التي كان الوفد يجريها حتى ساعات متأخرة مساءً في جوبا الهدف الاستراتيجي للتفاوض على أنه: إيجاد حل شامل للاسباب الجذرية للحرب في السودان، يستبدل الحرب ليس بمجرد وقف الاقتتال، بل بالعدالة الشاملة وتعزيز وتعظيم عائدات السلام (peace dividends) للشعب السوداني وبخاصة للمواطنين في مناطق النزاعات، بحيث لا تعود الحرب الأهلية خياراً لسوداني في المستقبل ..
انخرطت أطراف التفاوض منذ العاشر من ديسمبر 2019 وعلى مدى جولتين، حتى 24 مارس 2020، حينما عاد الوفد الحكومي مع جثمان المرحوم جمال عمر وزير الدفاع، ثم من خلال تقنية الفيديو كونفرنس، لظروف الحظر الصحي، منذ 18 مايو وحتى كتابة هذه السطور- انخرطت في سجالات علمية رفيعة، ذكرتُ في مقال سابق أنني كنت أتمنى لو أنها عمّت كل السودان، حول الأسباب الجذرية للحرب في السودان وكيفية معالجتها، بحيث تحقق السلام الشامل المستدام.
كانت النتيجة في مجملها اتفاقات غير مسبوقة، هي التي من المتوقع التوقيع عليها في غضون أيام، في مجالات الإدارة ونظام الحكم، واقتسام الثروة، والحقوق التقليدية والتاريخية المتعلقة بالأرض والحواكير، والتعويضات ورد الحقوق وجبر الضرر، والعودة الطوعية للنازحين واللاجئين، والعدالة والمساءلة والمصالحة، وتنمية قطاع الرحل والرعاة ..الخ
في السنوات 2002 – 2008، عكفت مبادرة صغيرة كان اسمها (مبادرة المجتمع المدني للسلام) على تحليل ودراسة اتفاقية السلام الشامل (CPA) لعام 2005، أُعِدّت في ذلك الإطار عشرات الأوراق العلمية وانعقدت عشرات ورش العمل واللقاءات في كل أنحاء السودان، وصدرت مداولاتها فيما بعد في 8 كتب وألف وخمسمائة صفحة. شملت دراسات المبادرة أيضاً اتفاقية أبوجا (مايو 2006) واتفاقية سلام شرق السودان (اكتوبر 2006)، وصدرت مداولاتهما في كتابين. ومنذ يناير 2008 وحتى مايو 2010 نظم معهد ماكس بلانك للقانون العام المقارن والقانون الدولي ومعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم، بهايدلبرج بألمانيا، حواراً لمخاطبة جذور النزاع في دارفور، شارك فيه ممثلون لكافة القوى السياسية الدارفورية والمجتمع المدني الدارفوري خرج بالوثيقة الشهيرة باسم (وثيقة حوار هايدلبرج حول دارفور)، صدرت فيما بعد في كتاب، وهي الوثيقة التي رفضها نظام البشير فور صدورها ووصفها قادته بأشنع الأوصاف. في يناير 2013 التقت القوى السياسية المدنية وحركات الكفاح المسلح في كمبالا بيوغندا وصدرت عن لقائها ذلك (وثيقة الفجر الجديد)، التي كانت خلاصة ودمجاً لوثيقتي البديل الديمقراطي (يوليو 2012) لقوى المعارضة المدنية ووثيقة إعادة هيكلة الدولة السودانية (اكتوبر 2012)، لقوى الكفاح المسلح في الجبهة الثورية.
قصدت من أيراد التفاصيل الكثيرة حول هذه الوثائق الثلاثة، التي حوت، إضافة إلى مقررات مؤتمر القضايا المصيرية لعام 1995، خلاصة ما توصل إليه الفكر السياسي السوداني من معالجات للأسباب الجذرية للحروب الأهلية في السودان – قصدت أن أقول، وبثقة كاملة، إنه من خلال صلاتي الوثيقة بهذه الوثائق الثلاث، منسقا ومشاركا ومنظماً ومترجما ومحرراً وناشراً، فإن ما اتُفق عليه في جوبا من معالجات لأمهات القضايا والمسببات الجذرية للحروب الأهلية في المحاور المختلفة لمساري دارفور والمنطقتين، يلبي السقوف الأعلى التي وردت في الوثائق الأربع، بل يتفوق عليها في أحيان كثيرة.
الوجهة التي جهدت المفاوضات في اتخاذها هي العمل على مخاطبة التحدي الرئيسي للفترة الانتقالية والذي أسماه بروفيسور عطا البطحاني في كتابه (إشكالية الانتقال السياسي في السودان)، المأزق الوجودي الذي يواجه البلاد، وهو: “هل يعيد المركز هيكلة مؤسسات الدولة لتستوعب الجميع على قدم المساواة، أم يوسع جلده ليستوعب القوى المتمردة عليه [فحسب] .. ويواصل سيرته الأولى؟”.
كثيرون يرون أن هذه هي الفرصة الأخيرة أمام السودان لتحقيق هذه الهدف، ببساطة لأن ثورة الوعي بالحقوق التي انتظمت البلاد، بما في ذلك في مناطق الحروب، تجعل من غير الممكن القبول باستمرار الحال على ما كان عليه، فإن لم يتغيرالوضع الذي ظل سائداً، فسيعني ذلك تفكك السودان وانهياره ..
لقد حقق ما أتفق عليه حتى الآن في مسارات التفاوض القدر الأوسع من حقوق المشاركة الأصيلة والمواطنة المتساوية المحمية دستورياً، للوصول إلى وحدة طوعية كاسبة: إستعادة نظام الأقاليم، نظام فيدرالي حقيقي، مؤتمر لنظام الحكم والإدارة في ظرف 6 أشهر يتفق السودانيون فيه على السلطات والصلاحيات الدستورية لكل مستوى حكم، حقوق الأقاليم في الاستفادة من مواردها الطبيعية، أسس غير مسبوقة للتنمية وإزالة التفاوتات التنموية، إزالة الاختلالات في التوظيف في الخدمة العامة، اعتماد الكثافة السكانية المعيار الأساسي للحقوق في السلطة والثروة، كل اللغات السودانية لغات قومية يجب احترامها وتطويرها والاحتفاء بها بالتساوي، الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة، تثبيت الحقوق التقليدية والتاريخية في ملكية الأرض، ولأول مرة مفوضية لتنمية قطاع الرعاة والرحل، وزارة للسلام وحقوق الإنسان، مفوضية قومية للحريات الدينية، التعاون الكامل والغير محدود مع محكمة الجنايات الدولية، مكافحة العنصرية بقوانين رادعة .. من بين أخرى كثيرة، إضافة إلى برامج واسعة لإزالة الآثار الناتجة عن الحروب,
صحيح أن الاتفاقات التي تمت جرت مع الجبهة الثورية، وتغيب عنها حركات مهمة لا يمكن أن يكتمل السلام، ولن يكون شاملاً بدونها، كما نص على ذلك إعلان جوبا نفسه: من دارفورحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، ومن المنطقتين الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال، إلا أن الخلافات الحالية بين هاتين الحركتين والحكومة الانتقالية وبينها وبين فصائل الجبهة الثورية هي في غالبها، باستثناء قضية أو قضيتين، خلافات سياسية وإجرائية، وبسبب الانقسامات داخل الجبهة الثورية وليست (في غالبها مرة أخرى)، حول طبيعة الأسباب الجذرية للحرب أو المعالجات المطلوبة. في كل الأحوال سيكون القدر الأكبر من النقاشات والمعالجات للأسباب الجذرية للحرب قد جرى، لن تخرج المباحثات مع الحركتين، كثيرا، عن الموضوعات أو المعالجات التي تمت، وسيتبقى أن تُحسم مع هاتين الحركتين قضاياها الإضافية القليلة العالقة، وأن تضعا طابعهما على بقية القضايا الكثيرة التي جرى حسمها، لنصل إلى السلام الشامل المستدام.
الأمر الملاحظ هو أن غالب الانتقادات التي توجه لعملية السلام في جوبا لا تأخذ هذه الانجازات التي تحققت على أرض الواقع في الاعتبار. أكثر العبارات تردداً في هذه الانتقادات هي القول (إن عملية السلام الجارية في جوبا لن تفضي إلى سلام)، ثم تختلف بعد ذلك مسارات التسبيب. هناك من يرى أنها تفتقد الرؤيا وأن المسارات حولتها لعملية لا تبغي أكثر من اقتسام كيكة السلطة والثروة، وهناك من يرى أن غياب حركتين مهمتين عنها يفقدها جدواها، أو أنهما غير راغبتين في السلام أصلاً، آخرون يشككون في رغبة وفد التفاوض الحكومي، عسكريين تارة، ومدنيين تارة أخرى، في الوصول إلى سلام، أو في قدرة الوساطة والدولة المضيفة على إدارة المباحثات وإنجاحها.. الخ.
تتجاهل هذه الانتقادات أن الوثيقة الدستورية حددت معيار التقدم في مسار السلام بأنه (مخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها)، وبهذا الحرف. وهذا ما كان مرجعية وفد التفاوض الحكومي في كل مرة أشار فيها المتحدثون باسمه إلى اتفاق تم أو تقدم أحرز في التفاوض. هذا ما كان واضحا أيضاً أنه المرجعية في حديث رئيس الجبهة الثورية، د. الهادي إدريس عندما ذكر في لقاء صحفي إن (عملية السلام الجارية في جوبا .. تضع حداً للاحتراب وأن مسار دارفور حقق مكاسب كبيرة لم تتحقق من قبل)، فالحقيقة هي أن ما تحقق في مباحثات السلام حتى الآن لم يكن ليتحقق بالعمل العسكري وحده، وبالأحرى ليس بالتفاوض مع النظام البائد، بل أتاحته الفرصة التاريخية التي وفرتها ثورة ديسمبر واستعداد مؤسسات الفترة الانتقالية الرسمية والوفد الحكومي مدنيين وعسكريين، والدعم الدؤوب من الوساطة، للاستفادة القصوى من هذه الفرصة لتحقيق السلام في السودان ..
صحيح أن السلام لن يكون شاملا ولا مستداما إلا إذا كانت الحركة الشعبية/شمال، وحركة تحرير السودان/ بقيادة عبد الواحد جزءاً منه، ولكن لا الوفد الحكومي ولا إعلان جوبا قالا يوماً بغير ذلك .. في الحقيقة ظل شعار الوفد الحكومي في هذا الإطار هو المصطلح الأثير للسيد وزير العدل د. نصر الدين عبد الباري بأن نجاح عمليات كصناعة الدستور أو عملية السلام رهين بـ(شمول الأطراف وشمولية القضايا)، ومخاطبتها لأسباب الحرب، ومن المؤكد ان الحركتين لا تختلفان في هذا من حيث المبدأ، لا سيما وأن جلّ ما أتُفق عليه كان يعبر عن رؤيتهما لحل المشكلة السودانية كما جاءت في الوثائق التي كانتا أطرافاً أصيلة فيها، ومن المؤكد أيضاً أنه لا يغيب عنهما الحاجة الملحة لجهدهما الثوري لإكمال المهام والعبور بالفترة الانتقالية إلى رحاب الديمقراطية التنموية المستقرة ..
في الواقع قام أعضاء الوفد الحكومي عسكريين ومدنيين مع الشركاء من حركات الكفاح المسلح بأدوار حاسمة في ترجمة التوجه الكلي لعملية السلام باتجاه المضامين التي وضعتها لها الوثيقة الدستورية، وفي إزالة الاختلالات التي صاحبت مسألة المسارات، مثلا، بحيث تجنبت النموذج الفاشل لقسمة السلطة والثروة، وتحولت إلى فرصة لجميع أقاليم السودان غير المتأثرة مباشرة بالحرب لنقاش قضاياها وطرح مشاكلها الإدارية والخدمية والتنموية.
كذلك قام الوفد الحكومي الموحد، مدنيين وعسكريين وسياسيين بدور مفتاحي في بلورة الرؤى وصياغة المقترحات وتبادلها مع المجلس الأعلى للسلام، وقوى الحرية والتغيير، لكسر الجمود الذي وقع في المحاور المختلفة، ونجح في هذا الأمر بصورة جيدة، ما عدا في قضية الدين والدولة التي جمدت المفاوضات وأخرت تقدمها في مسار الحركة الشعبية. في الواقع نظر أعضاء الوفد رجالا ونساء، مدنيين وعسكريين، سياديين ووزراء، موظفين وسياسيين إلى العمل المرهق والمتطاول بعيداً عن الأسر، ضمن الوفد، ليس باعتباره عبئاً أو وجاهة أو تضحية، وإنما شرف وامتياز (privilege) وفرصة فريدة لخدمة الوطن في واحد من أنبل ميادين العمل العام هو تحقيق السلام (أشير في هذا السياق إلى أنني أرجعتُ إلى خزينة المجلس المركزي للحرية والتغيير مبلغ النثريات الذي وصلني كعضو في وفد التفاوض الحكومي).
وكما ذكرت قبل قليل تظل العقبة الحقيقية التي تعثر بسببها مسار الحركة الشعبية/ شمال، الحاضرة في عملية السلام بجوبا، وتؤخر بالتالي إكتمال العملية السلمية (إضافة طبعا إلى غياب حركة تحرير السودان) هي علاقة الدين بالدولة. هنا أيضاً قدم وفد التفاوض الحكومي ومن واقع الصلة اليومية اللصيقة بأجواء التفاوض وبالتنسيق مع أجهزة الفترة الانتقالية الرسمية، مقترحات عدة لتقريب الشقة. وقد حرصنا، زملائي من الحرية والتغيير في وفد التفاوض وشخصي، على إطلاع مؤسسات الحرية والتغيير بصورة راتبة على المجريات في جوبا، خاصة في ما يتعلق بعلاقة الدين والدولة. وقد التقيتُ لهذا الغرض أكثر من مرة بلجنة السلام في المجلس المركزي (وأنا عضو فيها)، واللجنة التنفيذية لتجمع المهنيين، ولجنة السلام بتجمع القوى المدنية، وشاركت مرات عدة في اجتماعات المجلس المركزي للحرية والتغيير لمناقشة هذه القضية، كان آخرها اجتماع للمجلس المركزي استمر لثمان ساعات، وتقرر فيه سفر وفد كبير مكون من 19 من قيادات الصف الأول، وصل جوبا في الأسبوع الثاني من شهر فبراير وقضى فيها عشرة أيام في مساع للتوافق حول هذه القضية مع الحركة الشعبية، ولم ينجح.
خلاصة القول إن التوقيع المرتقب على ما تم من اتفاقات في مسار الجبهة الثورية، سيكون خطوة كبيرة ومتقدمة. أما التقدم في المسارات الأخرى، فسواء كان مقر التفاوض ووسطاؤه في جوبا، الدوحة أو أديس أبابا، وسواء أشرف علي تنظيم المباحثات المجلس الأعلى للسلام، تجمع المهنيين أو مجلس الوزراء، وسواء انعقد التفاوض بنظام المسارات أو مؤتمر دستوري عاجل أو بمائدة مستديرة، يظل التحدي هو توافق النخبة السياسية المدنية وفي حركات الكفاح المسلح حول علاقة الدين والدولة.
في تقديري المدخل الصحيح لحل هذه القضية هو ما قال به السيد رئيس الوزراء في لقاء تلفزيوني قريب، إنه “عندما يتعلق الأمر بالسلام فيجب ألا تكون لدبنا سقوف أو خطوط حمراء”، وما قال به السيد رئيس مجلس السيادة عند لقائه وفد التفاوض إبان زيارته لجوبا، إن “سقفنا الوحيد في عملية السلام هو السيادة الوطنية ووحدة بلادنا”.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …