المهندس جبريل محمد الحسن يكتب عن الفنان الراحل حسين جمعان
دَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك
ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك
يَقرَعُ السِنَّ عَلى أَن لَم يَكُن
زادَ في تِلكَ الخُطا إِذ شَيَّعَك
يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَناً
حَفِظَ اللَهُ زَماناً أَطلَعَك
إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم
بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك
فجعت مدينة كسلا بفقد واحد من أبنائها البررة الذين نهلوا من ضريح سيدها وارتوا من توتيلها واشتد عودهم من أنين سواقيها.. انجبته جبال التاكا فنانا في قامة وطن فتخطى المحلية وسطع نجمه في العالمية .. فأصبح مما تفاخر به هذه المدينة ومن ورائها الوطن كله ويعتز..ان كان الفن هو التناسق فقد كان فقيدنا متناسقا في كل شيء، في داخله وفي لوحاته ..وكان التناسق هو السمة الغالبة في فكره وقوله وعمله .. قلبه سهل منبسط بلا تضاريس او نتوءات..لا يحمل حقدا ولا يعرف الهجر والعتاب ..هو البسام الضحوك، حلو الحديث ،عميق الفكر، غزير الثقافة ،واسع الاطلاع ..محبوب وسط أهله ومعارفه وزملائه ..هينا لينا سمحا..
ولد حسين بمدينة كسلا في 1940 .. وقد كتب بخط يده، كما اورد الاستاذ عون الشريف قاسم في موسوعته عن الأسماء السودانية ،ان جده عمر اتي من عمان وتزوج سودانية من سنكات ولدت له جمعان ..ارتحل جمعان إلى كسلا حيث السيد الحسن وهناك تزوج بنت خال الماحي العوض ومحمدالحسن جبريل من الانقرياب ارتولي ومن مريدي السيد الحسن ، وهما اخوين اولاد ام، وأنجبت له حسين وحسن وعبلة وجوهر ة ..استقرت عبلة وجوهر باروما بعد زواجهما من باجابر وبابعير من حضرموت اليمن ..
درس في مدرسة كسلا الأهلية المتوسطة وكان يسكن في منزل محمد الحسن جبريل ومنها التحق بالمعهد الفني كلية الفنون الجميلة ..وكادت أن تفوته الفرصة للالتحاق بالمعهد ،الذي كان هو حلمه الوحيد في الحياة ، عندما تأخر عن المواعيد المحددة للمقابلة وقررت اللجنة أبعاده لولا تدخل السيد احمد المرضي جبارة ،من اقطاب كسلا، وكان مسجلا بجامعة الخرطوم وقتذاك ..
ولد حسين فنانا كاملا ..وقد ورث من ابوه الفن .. كان أبوه فنانا ورساما .. حاسر الراس، وحافي القدمين ، جلبابه مبرقع بخطوط من الوان الطلاءات التي يرسم ويكتب بها ..كتب جميع لافتات اروما..وتشهد له حتى اليوم ( مجلس ريفي اروما ) ( مستشفى اروما ) ..كنا نجلس في صغرنا بجانب حسين فيرسم خطوطا على الورق ويسألنا عن اي رسمة تكون هذه فلا نعرف ونفاجأ بانها صورة كذا وصورة كذا .. كانت طفولتنا معه من اجمل واحلى الأيام..كانت تجوالا في حدائق الجنان بين اللوحات والضحكات والطرائف والنكات محفوفة بالعطف والحنان والقلب الرحيم ..كنا نذهب معه للسينما والى دكان الحلنقة لاحضار الكيروسين للفوانيس ويشتري لنا اجمل الاقلام والكراسات والحلوى ولكنه لم يفلح في ان يخلق في اي منا فنانا ، فقد استعصت دواخلنا الشرسة عليه ..
في عام 1969 ذهبنا ونحن مجموعة من أبناء كسلا بجامعة الخرطوم لحضور حفل زواجه بالموردة بقيادة الشيخ بابكر درويش ولما انتصف الليل قررنا الرجوع إلى الجامعة وحاولنا الانسحاب من الحفل بهدوء ولكنه شعر بنا وخرج من وسط الحفل ليودعنا واوقف لنا اثنين من التاكسي ودفع الأجرة ثم رجع إلى الحفل ..فقد كانت حياته كلها في مثل هذا النموذج ..
التحق بالمعهد الفني فقط ليلقح موهبته بالعلم فقد دخله والفن يقطر منه ..
درس التصميم بمعهد الكليات التكنلوجية «جامعة السودان حاليًا»
نال الماجستير من الكلية الملكية البريطانية..
الدكتوراه من جامعة جوبا..
فاز بجائزة نوما لأدب وفنون الأطفال باليابان وجائزة الشراع الذهبي بالكويت والعديد من الجوائز في مجال التصميم، شارك في العديد من المعارض داخل وخارج السودان كما كانت له معارضه الخاصة، مُنح نوط الجدارة في الإبداع. عمل عميداً لكلية الفنون والتصميم جامعة المستقبل، كما عمل رئيسا لقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية جامعة السودان.
و كان الفقيد من أعمدة عدد الجمعة الثقافي لصحيفة (السوداني)، الذي كان يشرف عليه الجنرال الراحل احمد طه.
نظمت له مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، بدبي، معرضا على قاعة المعارض في مبنى المؤسسة.
وكتبت عنه تقول :
(جمعان الذي تطغى على أعماله تفاصيل البيئة السودانية، أكاديمي متخصص في الفن التشكيلي، وأستاذ في عدد من الجامعات، كما أنه من أوائل الفنانين السودانيين في الفن التشكيلي.
وشارك منذ عام 1966 في أكثر من ستين معرضاً حول العالم، وحازت لوحاته على عدد من الجوائز العالمية؛ أشهرها الجائزة الكبرى والميدالية الذهبية لأدب ورسومات الأطفال (نوما) في طوكيو 1999.
يهتم جمعان بتفاصيل التراث السوداني، بطريقة أصبحت تمثل بصمة خاصة به، إذ يمزج مختلف الألوان للخروج بتفاصيل مألوفة، تجسد مشاهد عن الحياة العامة والإنسان في بلده الذي يوثقه من خلال خطوطه بأنه مثقل بالهموم والوجع.
الخطوط البسيطة والألوان المشبعة للوحة، أسلوب يظهر قوة جمعان وتمكنه من الإمساك بالتفاصيل، والغور بعيداً في مخيلة المتلقي، وكأنه يسرد حديثاً مسهباً أو قصة مشوقة عن مجموعة من البشر أو مدينة أو قرية مترامية الأطراف، تعيش لأجل حلم قد يتحقق.)
كتب هو يقول : السودان، بلد الأساطير، بلد التعدد، عجينة عجيبة «وثنية ومسيحية وصوفية» «ماعون تختلط فيه العناصر: الروح الإسلامية العربية المتأصلة في خطوط كتبه المورّقة ومساحات الألوان الزاهية الساخنة المجردة ورايات حلقات الذكر، والنمط الإفريقي بنحوته الخشبية وطبوله وغاياته ومعتقدات قبائله، والعهد المسيحي بمفرداته… كل هذه الروافد استوعبها الماعون وصهرها فى شكل من الأشكال الجديدة».
عمل بجامعة الهفوف بالمملكة العربية السعودية وشارك في كثير من المعارض التشكيلية محليا وعالميا..
كان قد كتب مقالة من جامعة الهفوف في جريدة الأيام ووجدت استحسانا كبيرا واعجابا فائقا مما دفع بالجريدة إلى تكرار طباعة تلك المقالة عدة مرات ..فقد استطاع هذا الفنان البارع والمثقف العميق ان يرسم لوحة تشكيلية في غاية الجمال مستخدما الحروف العربية والثقافة العصرية وخلاصة المعرفة من عباقرة الفن قديما وحديثا مستعملا قلمه البارع وخياله الواسع وموهبته الفزة فكانت تلك المقالة المعجزة ..
قال للمطبعجي ،وكان أحد تلاميذه في المعهد ، ما كتب الاستاذ محمود في أحد من ضروب المعرفة إلا ويشعرك انه أحد عباقرة ذلك الفن، لا باحثا او متخصصا فيه فقط، بل هو صاحب ذلك الفن، مثل الموسيقى، والفنون، والتطور، والاشتراكية، والديمقراطية، والتاريخ البشري ..الخ ..نقل المطبعجي هذا الانطباع للاستاذ محمود فقال الاستاذ هذا الفنان غير عادي وعجيب امره وسأل عن أهله ومدينته..
وانا هنا اترحم عليه بمعاني هذه الكلمات من لوحة الجمال للاستاذ محمود ( فقد كانت حياة الراحل كلها خلق للجمال) وارجو الله ان يكون له نصيب كبير منها :
نحن نبشر بعالم جديد وندعو الى سبيل تحقيقه ، ونزعم اننا نعرف ذلك السبيل معرفة عملية .. أما ذلك العالم الجديد ، فهو عالم يسكنه رجل ونساء احرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد ، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات .. فهم في جميع أقطار هذا الكوكب متآخون ، متسالمون ، متحابون .. قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم، وفي ما حولهم من الأشياء، فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب ..تسمو بهم الحياة فيه سمتا فوق سمت ، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة ..تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر ، وجديد من الثمر.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …