الدولة العلمانية
متوكل على محمدين
في نظر الكثير من الشعب السوداني أن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة. ولكن في حقيقة الأمر أن العلمانية تعني بجانب فصل الدين عن الدولة فصله أيضا عن العلم وعن الأخلاق. وإذا أردنا الدقة فإن أول مظاهر العلمانية قد تجلت في فصل الدين عن العلم خاصة في الدول الغربية قبل أن يتم فصله من الدولة.
عندما قام ديكارت بنشر نظريته “ثنائية العقل والجسد”
كان يرمي مز وراء ذلك إلى فض الإشتباك بين العلم والدين. يقول فيلسوف العقل جون سبرل في كتابه العقل “أن من ضمن الأسباب التي دعت ديكارت لإبتكار نظريته ثنائية العقل والجسد هو رغبته الشديدو في أن يرضي رجال الدين وذلك بعد إحتدام الجدل بين العلماء ورجال الدين حول بعض النظريات العلمية التي تتعارض مع أساسيات الإيمان،فكان أن عمل ديكارت جزئيا على تهدئة هذا الخلاف وذلك فعليا بإعطاء العالم المادي إلى العلماء والعالم العقلي إلى رجال الدين ” فأعتبرت العقول نفوسا خالدة وموضوعا خارج نطاق البحث العلمي ، بينما كان ممكنا للعلوم كالبيولوجيا و الفيزياء وعلم الفلك أن تبحث في طبيعة الأجساد. إذن الخطوة الأولى نحو العلمانية قد تجلت في علمنة العلم (فصل الدين عن العلم)خاصة إذا علمنا ان العلمانية في نظر الكثير من المفكرين مشتقة من كلمة علم.فصل الدين عن الدولة هو مرحلة تالية. وكان الفيلسوف توماس هوبس هو أول من نادى بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، وكان جيفرسون كاتب إعلان إستغلال الولايات المتحدة، مقتنعا بأن إتحاد السلطتين الدينية والسياسية،معناه الإستبداد والطغيان. أما فصل الدين عن الأخلاق فيعتبر المحطة الأخيرة في مسيرة تحقيق العلمانية في اروبا، وقد تجلت هذه الخطوة في تبني قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان ، لكن فعليا يجب أن نقر أن فصل الدين عن السياسة بالرغم من ظهوره كتنظير سياسي كان مبكرا،إلا أن التطبيق العملي لمبدأ فصل الدين عن الدلة لم يطبق عمليا إلا بعد قيام الثورة الفرنسية ، ذلك لأن وجود الدين في الدولة يضفي على الدولة نوع من القداسة الدينية. كان الملوك الطغاة في عصر النهضة والتنوير يستمدون شرعيتهم من الدين ويعتبرون أي خروج على الحاكم هو ذنبا بحق الله. عندما يكون الدين موجودا في الدولة سوف يستمد الحاكم شرعيته من الله مباشرة، فلا يحق لأي قوة أرضية أن تنازعه في الملك، كما لا يحق للمحكومين محاكمة الحاكم(الملك)ومقاضاته مهما فعل،لأن ذلك من شئون الله وحده. هذه المكاسب التي يحققها وجود الدين في الدولة بالنسبة للحكام الطغاة، هي التي أدت ألى تأخير فصل الدين عن الدولة من ناحية التطبيق بالرغم من ظهوره كتنظير فلسفي في وقت مبكر من تاريخ أروبا.
هذه المقدمة المختصرة لمفهوم العلمانية في اروبا هي خطوة لا بد منها لتناول موضوع العلمانية في السودان. ولكن تأثر السودان بمحيطه العربي والإسلامي يجبرنا إلى الإشارة من حين إلى آخر إلى موقف بعض المفكرين العرب والمسلمين من مفهوم العلمانية، نظرا لإنعدام الكتابات السودانية في هذا الخصوص.
لكي يتيسر لنا فهم العلمانية لا بد أن نفرق منذ البدابة بين الجانب النظري والجانب التطبيقي للعلمانية. الجانب النظري للعلمانية يتمثل في مجموع الأسس النظرية والفلسفية للعلمانية، أما الجانب التطبيقي للعلمانية فيقصد به التنظيمات والمؤسسات العلمانية المنتشرة في دولة علمانية مثل السينما والمسرح والقضاء العلماني ومؤسسات المجتمع المدني والنظام المصرفي الربوي.
الوضع الطبيعي هو أن يسبق الجانب النظري من العلمانية الجانب التطبيقي من العلمانية ويتقدم عليها،حتى لة يخلق ذلك رفض ومعارضة للعلمانية، فأنا عندما أكون مؤمنا بمبادئ معينة لا أعترض عليها عند تطبيقها على المجتمع الذي أعيش فيه. لكن بالرغم من وجود تنظير فكري وفلسفي علماني غزير في مصر منذ محمد عبدو وجمال الدين الأفغاني مرورا بطه حسين وسلامة موسى إلا أن التيار الإسلامي القوي في مصر قد حد بشكل واضح من إنتشار العلمانية وسط الشعب المصري، بعكس ذلك تماما نجد أن التنظير الفلسفي والفكري للعلمانية في المغرب العربي لم يواجه تيار إسلامي قوي لذلك لم تستطع الحركات الإسلامية في تلك الدول وضع العراقيل في طريق علمانية تونس والمغرب.
أما العلمانية عندنا هنا في السودان فقد بدأت مشوهة بعض الشئ، فقد ترك الإستعمار عندما غادر السودان مؤسسات علمانية تتمثل في نظام مصرفي ربوي وقضاء علماني وأحزاب يسارية علمانية و تنظيمات مجتمع مدني علمانية في كل المجالات. أي أن السودان بدأ بالجانب التطبيقي من العلمانية وأهمل الجانب النظري. لم يكن لدينا كتاب ومفكرين يشار إليهم بالبنان في مجال التنظير للعلمانية. العلمانية عندنا هنا في السودان لم تنبع من تحت، وإنما فرضت علينا من فوق في شكل مؤسسات علمانية، لذلك فإن بدايتنا في السودان لتطبيق العلمانية كانت مشوهة.
هذه البداية المشوهة لنشر العلمانية في السودان أدت إلى فشل التجربة العلظانية في السودان. سوف أضرب لك أمثلة عديدة للبرهنة على أهمية التنظير العلماني في المحافظة على العلمانية. عندما حوصر عبدالله خليل وفشل في حماية حكومته من السقوط قام بتسليم السلطة إلى قائد الجيش الفريق أبراهيم عبود، أيضا تم حل الحزب الشيوعي و طرد أعضائه من البرلمان هو مثال آخر على جهل القائمين بالأمر بالأسس الديمقراطية للعلمانية.عندما قام نميري عام ١٩٨٣ بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية كان الطريق ممهدا لإستقبال الدولة الدينية.
كل هذه الأخطاء تبرهن أن العلمانية لكي تنجح محتاجة إلى بناء قاعدة تنظيرية قوية تتضمن لها التحقق على أرض الواقع. ونسبة لإنعدام هذه القاعدة التنظيرية فقد وقعنا لقمة سائقة في فك الدولة الدينية. لمدة ثلاثون عاما أذاقنا خلالها الإسلاميون الأمرين.
عندما إستولى الإسلاميون على السلطة زادو الجرعة الروحية عل الشعب السكران أصلا بخمرة الدين حتى فقد الشعب رشده وبدأت الهلوسة الدينية فزفوا شهدائهم ألى بنات الحور وبدأنا نتطلع ألى سيادة العالم ونحلم بالإستيلاء على روسيا وأمريكا. ولكن هجوم رجال الدين على المال العام ونهبهم له والمظالم التي إرتكبوها في حق الشعب والإبادة الجماعية في دارفور كانت هي بمثابة الصدمة العنيفة التي أيقظت الشعب من الغيبوبة والخدر الديني الذي كان مستسلما له.
لقد تحطمت القناعات القديمة التي كانت تنادي بالدولة الدينية وإنطوت صفحة مظلمة في تاريخ الشعب السوداني بكل ما تحمل في جوفها من مخازي وأصبح الشعب
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …