النوبة : ما بين الشيطنة وتمكين الفوضي الخلاقة
بقلم عثمان نواى
ومنذ بداية الفترة الانتقالية بشكل رسمى منذ عام بدأت تتفجر أحداث عنف متوالية فى مناطق عدة فى شرق السودان وفى جنوب كردفان يكون فيها النوبة دوما احد أطراف الصراع. وقد تكررت الظاهرة بشكل متزامن مؤخرا والأسباب متعددة فى ظاهرها ولكن جوهر الأمر يبدو أنه يحمل الكثير خلف مشاهد التمويه المطلية بلون الدماء للأسف. وقد تم استخدام الكثير من الشماعات المعتادة من أمثال محاولات افشال الفترة الانتقالية من الفلول ومخططات الجيش لاضعاف صورة المدنيين فى الحكومة. وهذه كلها عوامل مهمة فى المشهد ولكنها أيضا تتحرك فى اطار عملية أوسع من وأكثر عمقا وذات أهداف اكبر من أهداف الجيش او النظام البائد فى إضعاف المدنيين.
ولكى نرى الأمور بشكل مرتبط بواقع صراعات القوى وتعقيدات ازمة السلطة فى السودان يجب ان نعود قليلا للوراء حتى نرى الصورة الأكبر. فالمشهد على الشاشات الصغيرة المحتوى على العنف القبلى كعنوان صحفى ومانشيت صناعة الرأى العام ،يحمل خلفه تاريخ طويل من أساليب اللعب من قبل الحكام وأصحاب المصلحة فى احتكار السلطة فى الخرطوم. فصناعة الحدث لا تتم ابدا فى كسلا او بورتسودان او حتى جبال النوبة ،انها دائما تخرج من كُتاب سيناريوهات ومخرجين الأفلام المهيمنة على صناعة الوعى الجمعى للشعب السودانى بما يخدم مصالح الحكام فى المركز المسيطر على السلطة. ففى سبيل الحفاظ على كيكة السلطة والثروة والتحكم فى موارد الدولة التى تحمى مصالح بيوتات وفئات معينة من تجار وموظفين وافندية متحالفين مع بعضهم يتوارثون الكيكة ابا عن جد، نجد ان الصراعات التى تنشأ هنا وهناك وخاصة مع تزايد وجود النوبة كلاعب رئيسى فى كل تلك الألعاب النارية القاتلة، له أهداف اكبر ولها تاريخ طويل فى ممارسات تحالف الحكم في مركز الخرطوم.
فمنذ ما قبل الاستقلال كانت عملية الاعداد لفصل الجنوب تتم بعناية من خلال شيطنة الجنوبيين وتصويرهم كمجموعات عنيفة تقتُل بوحشية. فكانت تجرى حياكة اشاعات وسيناريوهات تدفع الى استفزاز الجنوبيين ودفعهم للعنف منذ احداث توريت فى ١٩٥٥ وحتى احداث مقتل جون قرنق. وكل ذلك كان يتم فى اطار عملية شيطنة مستمرة تهدف الى ان يتم زراعة فواصل عميقة وجدانيا بين الجنوبين وبقية السودانين خاصة فى الشمال. وفى النهاية كان الهدف هو التمهيد لكى يتم قبول فصل الجنوب من السودان دون اى اعتراض رغم انه حدث بعد ٥٠ عاما لكنه كان يتم العمل عليه بدقة طوال تلك السنين. وتأُخر انفصال الجنوب الحقيقة كان نتيجة لتماطل القوى السياسية المدنية فى السودان وعدم شجاعتها ورغبتها المستمرة فى ان تكون القرارات المصيرية معلقة فى اعناق الحكومات العسكرية والديكتاتورية،فى عملية تقسيم أدوار بين العسكريين والمدنيين تجرى منذ تسليم عبد الله خليل للحكم لعبود فى اول حكومة ديمقراطية ما بعد الاستقلال، حيث سلم عبدالله خليل الحكم للعسكر وحدثت على يد حكومة عبود اكبر عمليات التعريب القسري والعنف الممنهج الذى قاد الى تمرد الجنوب الأول. فكل ما يجبُن عن فعله الأفندية يستدعون اخوتهم العسكر ليقوموا بتنفيذه بالنيابة عنهم، فاصحاب القمصان البيضاء يريدون ايديهم نظيفة من الدماء حتى يستمرون فى الحكم والسيطرة ولو بعد حين. هذه هى لعبة أصحاب النفوذ الاسري واحفاد البيوتات الحاكمة فى السودان منذ الاستعمار. فقد كانت العمالة لدول الاستعمار بين حزب الأمة المقرب من الانجليز والاتحادى المقرب من مصر، هو ديدن الممارسة السياسية للحكم بالوكالة عن المستعمرين وهى الطبع الغالب الذى لازال يحكم المشهد السودانى الان. فليس الارتزاق ولا العمالة للدول على حساب الوطن بأمر جديد يُقذف به حميدتى والكيزان والبرهان. انه جزء أصيل من ممارسة السياسة فى السودان. وما المرتزقة الجدد الا النسخ المطورة الأكثر جرأة فى السيرعلى ذات الطريق.
ويجب الملاحظة هنا ان كل اتفاقيات السلام تم توقيعها فى عهود الحكومات الدكتاتورية، بينما فى ظل الحكومات الديمقراطية والفترات الانتقالية استمرت الحروب بل واشتعلت من جديد كما حدث فى ١٩٨٥ وأيضا فى ١٩٦٥و ١٩٦٦ ببدء الانانيا ون. وذلك الحقيقة مرتبط بحقيقة ان القوى المهيمنة على السلطة والثروة فى المركز ليس لديها الأرادة السياسية الحقيقة لمشاركة السلطة مع المجموعات السودانية المختلفة. و الشاهد ان المجموعات المسيطرة على الحكم في الخرطوم من تحالف الأفندية وابناء البيوتات ورجال الاعمال والعسكر والمليشيات، جميعهم يعملون بنظرية فيليب روسلر كاتب كتاب( الاثنية السياسية وسلطة الدولة، منطق فخ الانقلابات والحروب الأهلية) وللعلم ان الكتاب ياخذ من السودان نموذجا. ويقول الكاتب ان : ” النخبة السياسية المهيمنة تقوم بعملية الإقصاء السياسي لبعض الاثنيات لأنها تشعر بالرعب من ان اى عملية فتح للمشاركة السياسية سوف تقلل من الريع الذى تحصل عليه المجموعة المسيطرة من احتكارها لموارد الدولة. وبالتالى تختار النخب المسيطرة الإقصاء بدلا عن المشاركة ويكون الأهم هو تركيز السلطة فى يد مجموعات معينة. والنخب المسيطرة لكى تحافظ على السلطة فى يدها وتمنع اى إمكانية شراكة مع المجموعات الاثنية الأخرى يمكن ان تلجأ الى الانقلابات لتحمى احتكار مجموعات معينة للسلطة. وتفضل حكم العسكر على أن تقوم بتحالفات سياسية تشرك فيها الاثنيات الاخري . كما انها قد تخلق حروب أهلية بسبب الإقصاء الذى يولد المقاومة من المهمشين. بالتالي تختار النخب استمرار الحروب الأهلية او قيام الانقلابات على فسح مكان للمشاركة فى ريع الدولة معها. ”
ما يجرى فعليا الان للنوبة هو عملية الاعداد للراى العام السودانى لقبول فصل النوبة عن بقية السودان، و شيطنة النوبة بشكل يجعل بقية السودانيين يعتبرون انهم يجب التخلص منهم لا ان يتم مشاركة الوطن معهم. خاصة وان مطالب العلمانية وتقرير المصير الان يحاول السياسيين المدنيين قبل العسكريين شيطنتها أيضا، رغم ان كل من تقرير المصير او العلمانية هى الان أصبحت جزء من الممارسة السياسية فى السودان بعد اتفاق سلام نيفاشا، ولا يخترع النوبة العجلة. فقد وقع الكيزان من قبل حملاتهم الجهادية على الموافقة على تقرير المصير وفصل الجنوب الدولة فى عام ١٩٩٧ فى اتفاقية ابوجا والتي تراجعوا عنها لاحقا لكنهم وافقوا على امرمشابه فى اتفاق السلام.
وكلما صغرت كيكة السلطة والثروة وقلت قيمة الريع من الدولة باعتبارها مصدر الثروة الوحيد فى دولة فقيرة مثل السودان تزداد الهيمنة وتزداد الصراعات. ما يحدث للنوبة الان لا يمكن ابدا قرائته فى اطار التفلتات وسيناريوهات الفلول. بل يجب قرائته من هذا المنظور الاوسع حتى نستطيع رؤية المخارج والحلول الجذرية. ولكن يجب يعى اللاعبون بمصير الوطن ان الجنوب الان أصبح له بعد آخر ما بعد الانفصال وان النوبة وغيرهم لم يعد من الممكن التلاعب بهم كبيادق لعبة الشطرنج. وما يحدث الان فى شرق السودان يجب ان يصنع الوعى الجمعى للثوار الحقيقين وليس القيادات التى تدعى انها ثورية. بأن خطورة اللعبة الإقليمية والتى تستهدف وحدة الوطن والتى تخدمها قوى كثيرة فى السلطة الان ،يجب ان يتصدى لها كل السودانيين ولن يكون النوبة هم أداة الصراع ولا ضحيته.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …