الديمقراطية والبيروقراطية الادارية حول استشراف دور جهاز الدولة في الدولة السودانية
بكري الجاك :
في يوم 25 يونيو عام 2015 اصدرت المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة حكما تاريخيا بكل المقاييس، ففي حكمها في قضية ابرقيفيل ضد هودجز ( Obergefell v. Hodges) أقرت المحكمة أن زواج الاشخاص من نفس النوع الجنسي يعتبر قانونيا في كل الولايات الاميركية، فقبل ذلك كان التعريف الفيدرالي للزواج أنه بين رجل و امرأءة مما يعني اذا تزوج شخصان في ولاية تقر بزواج المثليين فزواجمها غير معترف به في ولا ية أخري لا تقر قانونيا بزواج المثليين. صبيحة اليوم التالي تقدم شخص يدعي ديفيد ارمولد David Ermold في ولاية كنتكي ( Kentucky) الي مكتب حكومي معني باصدار شهادات الزواج و طلب من كيم ديفس Kim Davis الموظفة المسؤلة عن مكتب اصدار تراخيص الزواج الفورمات التي يجب علي المتقدمين ملئها و بعد أن ملأ الاوراق ولدهشته قد رفضت الموظفة اعطائه شهادة الزواج وعللت ذلك بأنها متدينة و أن عقيدتها المسيحية لا تسمح لها باعطاء شهادة ستؤدي لزواج رجل من رجل. وبلا غرابة وجدت القضية تغطية اعلامية واسعة و تعاطفت وسائل الاعلام المحافظة مع الموظفة كيم حولتها الي رمز للمحافظين و منحها ذلك فرصة للظهور في الاعلام و هنالك من ذهب لقول أن للمراءة كامل الحق في رفض خدمة المتقدم لأن ذلك يتعارض مع دينها وضميرها الا انها خسرت المعركة القانونية حيث أصدرت المحكمة أمر بسجنها لرفضها استخراج شهادة الزواج اذ أن الوظيفة الادارية التي كانت تشغلها كانت قد انتخبت لها من سكان المحافظة (Rowan County) و انها كانت قد أدت قسم ينص علي انها ستحافظ علي وستطبق الدستور الامريكي و بما أن زواج المثليين قد اصبح جزء من قانون الارض بعد قرار المحكمة الدستورية فالحديث عن انها تدافع عن قناعتها اصبح يخالف المتوقع من أي موظف منتخب او موظف خدمة مدنية وعليه عليها اما آداء واجباتها وفقا للقانون أو الاستقالة. الغرض من هذه المقدمة ليس للدفاع عن حق المثليين في الزواج و ليس للدفاع عن حق كيم ديفس في الاصغاء الي ضميرها ورفض آداء عملها بل هي عن أهم ركن في الدولة الديمقراطية وهو تطبيق الدستور وضمان سيادة حكم القانون عبر جهاز بيروقراطي و قوات منظمة تتحمل مسؤلية تنفيذ القانون. فكرة الدولة الحديثة تقوم علي أن الدولة هي الجهة الوحيدة التي لها حق احتكار العنف و استخدامه أن دعت الضرورة في الامساك بالمجرمين و المخالفين للقانون وفي انفاذ حكم الاعدام في حق المدانين، ولكي تكن الدولة هي الجهة الوحيدة التي تحتكر العنف يعني ضرورة وجود جهاز بيروقراطي لتحقيق ارادة الدولة وهذا هو الركن الرابع في توطين و استدامة الديمقراطية.
مصطلح الدولة الادارية ظهر لاول مرة في كتابات استاذ العلوم السياسية دوايت والدو في كتابه الشهير الذي صدر في عام 1948 تحت عنوان الدولة الادارية: دراسة في النظرية السياسية للادارة العامة الاميريكية (Dwight Waldo (1948) Administrative State: A Study of the Political Theory of American Public Administration) و بشكل عام المقصود بفكرة الدولة الادارية هو توسع الجهاز التنفيذي للدولة في خمسة مجالات هي التحكم، تأجيل التشريع، سيطرة الجهاز التنفيذي علي مؤسسات الدولة، الحقوق الاجرائية و اخيرا حركية المؤسسات. هذا هو جوهر فكرة الدولة الادارية من ناحية مفهومية اما من منظور تحليل اجتماعي سياسي و اقتصادي فالدولة الادارية هي نتيجة طبيعية لتوسع المهام الحكومية عقب الانتقال من مجتمع زراعي في نهاية القرن التاسع عشر الي مجتمع صناعي باوائل القرن العشرين، وقد بدأت الدولة الادارية عمليا باصدار قانون مفوضية الخدمة المدنية في امريكا في عام 1883 ومع اكتشاف النفط و تطور صناعة السيارات و الصناعات الثقيلة التي تلازمت مع نزوح الناس من الارياف حيث الزراعة الي المدن حيث الصناعة اصبحت هنالك حاجة الي جهاز ادراي يقوم بالتاكد من سلامة اللحوم و هذا ما ادي الي صدور قانون اللحوم في عام 1906 و هذا القانون شكل نواة الي قيام ادراة الادوية و الاغذية ( Food and Drug Administration) التي هي الآن الجهاز الفيدرالي المسؤل من التأكد من سلامة الادوية والاغذية في كل امريكا، و في العشرينات وعقب الانفلونزا الاسبانية التي أدت الي وفاة اكثر من 18 مليون شخص في امريكا وحدها بدأت حملة واسعة لتحسين الصحة العامة مما تطلب تطوير هيئات حكومية للاضطلاع بتحسين شروط البناء والسكن ففي اوائل الثلاثينيات تم استحداث ادارة السكن الفيدرالية لانهاء العشوائيات ومن ثم توسيع مهامها في الاربيعنات قبل أن تصبح وزارة في عام 1968، وفي الثلاثينيات و عقب الكساد الكبير تم استحداث قانون الضمان الاجتماعي في عام 1935 للتأكد من أن الناس سيحصلون علي دخل كافي في نهاية حياتهم بعد ذهابهم الي المعاش، و في الاربعينات تم انشاء ادارة لشؤون المحاربين العائدين من الحرب العالمية الثانية و استمر التوسع في مهام الدولة الادارية في الخمسينات و الستينات مع صدور قوانين توفر نظام صحي حكومي للفقراء والمسنين. خلاصة القول أن التوسع الذي حدث في الفترة من 1883 حتي 1948 يعتبر غير مسبوق مما تطلب توسع غير مسبوق في القدرات الادارية للجهاز التنفيذي وتوسيع صلاحياته لتمكينه من آداء مهامه علي حساب الجهاز التشريعي والجهاز القضائي وفكرة الدولة الديمقراطية تقوم علي قدرة هذه الاجهزة في المحافظة علي سلطات متكافئة وفي قدرتها في أن توازن و تفحص بعضها البعض بشكل مستمر، استمرار توسع الجهاز التنفيذي من حيث الكم والحجم و الصلاحيات هو ما جعل دراسة الدولة الادارية موضوع بحث واسع وسط الاكاديمين لفهم تاثيراته علي الممارسة الديمقراطية وعلي قدرة الدولة في الاستجابة لاداء مهامها حسب ما نص عليه الدستور، حاليا هنالك شبه اليقين المعرفي أن الدولة الديمقراطية لا تسطتيع أن تقوم بدورها في المجتمعات الحديثة بدون وجود جهاز اداري بيروقراطي ضخم و فعال. هذا التوسع حدث في كل الدول الصناعية المتقدمة فاستحداث مؤسسات كان ضرورة في كل الدول الديمقراطية الصناعية في غرب اوروبا و لاحقا في شرق اوروبا و آسيا ولكن ببطء شديد في افريقيا وامريكا اللاتينية.
علي المستوي السياسي هنالك مباديء أساسية في الدولة الادارية وعلي رأس هذه المباديء ما يعرف بالاستجابة ( Responsiveness) و المقصود بالاستجابة هنا قدرة الدولة في تحقيق مطالب و رغبات المواطينين، فرفض الموظفة كيم ديفس في آداء واجباتها اضافة الي انه غير قانوني هو ايضا مؤشرالي فشل الدولة في الاستجابة الي حقوق ومطالب المواطنين، مبدأ ثاني هو التمثيل ( Representation) و المقصود بالتمثيل هو أن الدولة في كل جهازها التنفيذي البيروقراطي يجب أن تعكس المكونات الاجتماعية في الدولة من ناحية النوع (نساء و رجال) والاثنية و المناطق الجغرافية و الخلفية الاجتماعية، وكمثال لواحدة من اكثر الاختلالات في التمثيل في الدولة السودانية هي في قواتنا المسحلة اذ ظلت القوات المسحلة منذ الاستقلال ان تكوينها يشير الي أن 99 في المئة من الجنود هم ابناء الهامش بينما 99 من الضباط و القادة العظام من ابناء الوسط والشمال النيلي. المبدأ الثالث هو العدل ( Equity) وفكرة العدل احيانا يتم خلطها بالمساواة فالعدل قد يتطلب المساواة لتحقيقه في بعض الاحيان مثل أن الناس سواسية امام القانون ولكن في احايين أخر فكرة المساواة قد لا تحقق العدل لان مبدأ المساواة يعني بكميات و ليس بنتائج و فكرة العدل تعني في الاساس بالنتائج. المبدأ الرابع هو الفعالية الاقتصادية ( Efficiency) و المقصود بالفعالية هنا مبدا اقتصادي قائم علي توفير الخدمات العامة بأقل التكاليف لتفادي هدر المال العام. المبدأ الخامس هو الفعالية الادارية ( Effectiveness) و المقصود بالفعالية الادارية هو اداء العمل في أقل زمن ممكن و بافضل طريقة ممكنة. المبدأ السادس هو المحاسبة ( Accountability ) و المحاسبة تعني قابلية النظام الاداري للخضوع للرقابة الداخلية والرقابة الخارجية و ان يتم تطوير ادوات لتقييم كيفية اداء عمله كما في تقييم النتائج التي يحققها. المبدأ السابع هو الشفافية (Transparency) المقصود هنا هو أنه يحق للمواطن أن يعرف ماذا تقوم به الدولة سواء كان في المسائل الاجرائية أو غيرها فمثلا اذا تقدم اي مواطن بطلب للحصول علي خدمة ما فله الحق في معرفة لماذا رفض طلبه ومن ناحية عامة يجب ان يتم تشريع قانون المعلوماتية و الحق في المعرفة فهنالك بعض المعلومات التي يجب ان تنشر بشكل دوري و هنالك معلومات يجب ان تكون في متناول المواطن باتباعه اجرءآت محددة في القانون للحصول عليها. المبدأ الثامن هو النزاهة ( Integrity) واذا كان للدولة الادارية من القيام بعملها علي اكمل وجه بمراعاة المبادي المذكورة فلابد لها من أن تتمتع بالنزاهة وهو امر يتطلب تعيين موظفين ذو كفاءة و ضمير وبناء مؤسسات تضمن استمرار قيامهم بعملهم علي اكمل وجه.
وهنالك العديد من القيم التي يمكن أن تتفرع هذه الخطوط العريضة بالطبع اما اذا طبقنا هذه المباديء علي الدولة الموروثة من الانقاذ فاكاد اجزم ربما لا يوجد مبدأ واحد لم تعمل الانقاذ علي خرقه وتنصيب نقيضه وهذا أمرربما غير طبيعي في ظاهره لكنه غير مدهش البتة فكنت منذ وقت طويل اقول أنه في ظل عدم وجود آليات للرقابة فالفساد سيكون هو السلوك الطبيعي للمؤسسات و ليس العكس، و المقصود هنا رقابة داخلية تتمثل في المراجعة الادارية من تفتيش اداري ومراجعة مالية و رقابة خارجية تتمثل في البرلمان و المراجع العام ومن ثم رقابة مجتمعية تتمثل في المجتمع المدني والمواطنين و جملة هذه المكونات الرقابية هو ما يلخص فكرة الحوكمة كمجموعة نظم تضمن انفاذ الارادة المجتمعية بشكل أمثل و فعال. لم يكن هنالك سبب موضوعي لدولة الانقاذ في ان تستجيب لتطلعات السودانيين أو تسعي الي تمثيلهم في جهازها الاداري ففكرة الشرعية التي تستمدها الدولة الادارية من قواعد الممارسة الديمقراطية (كما هو مفصل في المباديء المذكورة في عاليه) ليس لها وجود في الدولة الشمولية التي تؤسس لشرعية اجتماعية من خلال الابتزاز الاجتماعي في توزيع الوظائف وبناء الكباري وتشييد بعض المشروعات التي كان يجب ان تحكمها خطط تنموية و ليس شراء و كسب شرعية اجتماعية، اما في أمر الشرعية السياسية فقد اعتمدت الانقاذ علي اكتسابها بالعنف و القمع و الصلف وابرام اتفاقات سلام لا تكترث لتنفيذها. وما يحدث من تفلتات أمنية في أماكن عديدة في انحاء البلاد رغم أنه مؤسف هو أمر يجب ان يكون متوقع فحراك ديسمبر أنهي شرعيات اجتماعية كان لها قاعدة من المنتفعين وأسس لشرعية سياسية و شرعية اجتماعية جديدة ايضا لها قاعدة من المنتفعين الا أن التحدي الذي يقف أمام الثورة الآن هو الانتقال من دولة الانقاذ التي لم تكن معنية بأمر الحكم بمعني Governance بل كانت معنية بامر التسلط بمعني Ruling.
واذا كان لنا ارادة جادة في توطين و ترسيخ و استدامة الديمقراطية و من ثم تأسيس دولة ديمقراطية فلابد لنا أن نشتغل علي تاسيس دولة ادارية بجهاز بيروقراطي فعال يقدس المواطنة و يتبع المباديء المذكورة اعلاه و أول هذه الخطوات هي ابراز أن لهذا الجهاز مصلحة مادية في وجود نظام ديمقراطي يضمن التعيين علي اساس الكفاءة و ينهي المحسوبية في الترقي والامتيازات و يحمي حقوق العاملين في الخدمة المدنية و في القوات النظامية التي ليس لها مصلحة في وجود دولة ضعيفة وفي حالة احتراب دائم. فعل السياسة هو اعادة تعريف هذه المصالح وهذا هو واجب الساعة لبدء البناء و ذلك لسبب بسيط أن جل الموطنين غير مسيسين بمعني انهم يشتغلون بالسياسة و ينتظمون في كيانات سياسية و ان كان مراعاة مصالح الفرد هو ممارسة سياسية بشكل آخر وفي محاولة الافراد تحقيق و مراعاة مصالحهم لابد لهم من الاحتكاك بجهاز الدولة سوءا لاستخراج شهادات الميلاد و شهادات الوفاة أو صرف المعاش أو اصدار رخصة قيادة أو تجديد تراخيص أو فتح شركة أو ارسال جثمان للبلاد أو توفير مواد غذائية وغيرها من المعاملات، الغالبية من الناس يحكمون علي الدولة و مدي نجاحها فقط في مدي قدرتها القيام بهذه الاعباء الادارية و ليس بمدي وسامة وزيرها الفلاني أو مدي خطابة وزير اعلامها فهذه مشاغل اهل الفيسبوك. تأسيس دولة ادارية نزيهة في واقع ضرب فيه الفساد كل اركان المجتمع وتحول من فساد مؤسسي الي فساد مجتمعي (اي أن الثقافة العامة تبرر للرشوة والمحسوبية و نهب المال العام و تري في الفساد امرطبيعي) هو التحدي الأكبر فاذا لم يتوفر سبب موضوعي يجعل هذه الدولة مطالبة بالاستجابة من خلال الادوات الرقابية فلا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن حكومة الثورة ستكون اكثر نزاهة من غيرها مالم تتوفر المؤسسات التي ترغمها علي أن تكون نزيهة فالتجربة الانسانية تقول ان انزه الافراد في مؤسسة تسودها ثقافة الفساد لا يجعلها نزيهة بل الشيء المؤكد أن الافراد اما ان يخوضوا مع غيرهم أو سيتم افسادهم، و عليه المسألة اكبر من الافراد و النوايا و تتطلب تغيير الثقافة السائدة و بناء مؤسسات حيث علي راس هذه المؤسسات تعزيز قدرة الدولة علي احتكار العنف و تمكينها من انفاذ التعاقد و تنظيم علاقات الافراد و المجتمع كلك وهذا هو الركن الرابع في بناء الدولة الديمقراطية. و بالمناسبة كيم ديفيس خسرت وظيفتها كمديرة للمحلية في انتخابات 2018 لصديق الرجل الذي رفضتة اعطائه ترخيص الزواج.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …