‫الرئيسية‬ رأي لا أستطيع التنفس ٣
رأي - أغسطس 28, 2020

لا أستطيع التنفس ٣

كارم عبد المنعم ابو زيد :

الشعب السوداني بين مطرقة القبيلة و سندان الجهل:
كل التأريخ العالمي المحكي و المقروء و كل الدراسات و النظريات الإجتماعية و الانثربولجية و النفسية إنتهت إلى نتيجة واحده مفادها أن انكفاء الشعوب على نفسها و التقوقع حول الذات و توهم النقاء العرقي و بالتبعية نفي الآخر هي بذور فناء الشعوب و الحضارات. هذه البذور أو العوامل بالضرورة و بالتجربة التاريخية لا تزدهر إلا في بيئات يسود فيها جهل مقيم و لا تتنفس إلا هواء مسموما بالعنصرية و القبلية و العشائرية. و التاريخ الإنساني القديم أو الحديث مليء بتجارب مريرة من داخلنا أو من حولنا لشعوب وحضارات ساقت نفسها أو سيقت لحتفها بالاستغلال الشيطاني لتلكم العوامل.
و على مستوي تجربتنا السودانية فإن الاستدعاء المستهتر للقبيلة والعشيرة و ترسيخ مفاهيم الجهوية و المناطقية كان دائما السلاح الأقوى في يد المستعمر في السودان عملا بمبدأ فرق تسد. و من الأسلحة القذرة التي استخدمت بوعي شرير سلاح التجهيل المتعمد لشرائح اثنية و قوميات بعينها و الإبقاء عليها تابعا بالضرورة لشرائح أخرى من بني جلدتها. و من المؤسف أن المستعمر و كل الأنظمة الحاكمة من بعده – استغل ببراعة بعض أبناء هذه المجتمعات و قادتها لإبقاء ذلك الوضع الكارثي على ما هو عليه ، بل و تأسيسه و البناء عليه فقط للوصول لمصالح آنية وذاتية ضيقة تتعلق بالسلطة السياسية و الروحية و الثروة و تراكمها في أيدي وكلاء للسلطة الأعلى. وبالتالي في السودان تشكلت بالتراكم التاريخي مجتمعات تعيش في اقطاعيات و جيتوهات تشبه إلى حد مذهل اقطاعيات القرون الوسطى في أوروبا. مجتمعات تصل نسبة الأمية فيها حد اللامعقول، و تتفشى فيها أمراض سوء التغذية المزمن و الحاد بمعدلات كارثية. أبناء هذه المجتمعات يتم استغلالهم تاريخيا كالقطعان كوقود في الحروب الأهلية و كتابعين للوردات الحرب و للوردات الإقطاع الديني و السياسي المنتشين بسلطتهم اللامتناهية.
و بالرغم من وضوح التجارب التاريخية و النهايات المنطقية المريرة للأنظمة الإقطاعية في كل أنحاء العالم فإننا في بلادي نصر إصرارا قوميا على السير في نفس النهج الشرير و نصر على أن لا نعي الدرس! دونما وعي بالهاوية التي تنتظرنا في نهاية الطريق..و اي نهاية؟
هل يجب على أحدنا أن يتجرع السم الزعاف ليعرف أنه يقتل أو لا يقتل؟ هل يجب على أحدنا أن يقتل نفسه ليعرف ما هو طعم الموت؟ هل يجب على أحدنا أن يريق دمه ليعرف إحساس النزيف؟ هل يجب علينا أن نسير في حقل الألغام نفسه الذي سار فيه ضحايا آخرون أمامنا؟
إلا تكفينا عظة قصة قابيل مع أخيه هابيل؟
إلا تكفينا التجارب المروعة من حولنا و في تاريخنا لنعي الدرس؟ لنأخذ العبرة من تجارب الآخرين؟ هل تعنى مقولة أن العاقل من اتعظ بغيره أن الإنسان يجب أن يسلك نفس طريق التهلكة الذي سلكه الهالكون؟
ما يحدث أمامنا الآن من مظاهر العنف الإجتماعي المتسربل بعمامة القبيلة و التمترس الجاهل الأعمى خلف لافتات العشيرة يعكس بصدق ناصع فشل تجربتنا الإجتماعية تاريخيا و تنبيء للأسف عن تعثر تجربتنا الوليدة لبناء دولة الحرية و السلام و العدالة. هذه القيم العليا لا تترعرع و تنمو إلا في مجتمع معافى و متعلم! ليس علما أكاديميا فحسب بل علم إدارة الحياة و التنوع. مجتمع تسود فيه مفاهيم أخلاقية سامية و تؤمن بمباديء الوطن للجميع و أن الواحد للكل و الكل الواحد، و أن الآخر ليس عدوا بل شريك في الوطن و مكمل أساسي في شخصية الفرد المواطن الصالح.
و لكي نبدأ بداية صحيحة و صحية لابد لنا من تحليل أسباب و جذور الإشكالات المجتمعية المزمنة في السودان بعيدا عن التسطيح و التبسيط المخل لهذه الإشكالات. يجب علينا جلد الذات و الاعتراف بكل خطايانا و اخطاءنا في حق الآخر.و تشريح خلايا و جينات العنف الكامن في كهوف ذواتنا المظلمة تجاه الآخر. البريء. يلزمنا التطهر من كل الأفكار و والمعتقدات البالية و أساطير النقاء و السمو العرقي و الاستعلاء العنصري التي تشكل وجداننا الجمعي، و تكييف و إستثمار و إدارة التنوع الثقافي إيجابيا ليصب خيرا و نماءا في واحة الوطن بدلا من انهار الدم المهراقة في حروبنا العبثية.
و لأن التعليم هو أساس كل شيء فلابد من التوافق على مشروع قومي للتعليم ينادي بالزامية التعليم و التعلم بالذات في المناطق التي لم تنل حظها منه. و أن تستغل كل الموارد المتاحة و تصرف دونما تقتير على التعليم و أن توضع سياسات واضحة و على مدى زمنى محدد للوصول لأهداف استراتيجية محددة في سبيل الوصول لمجتمع متعلم و متحضر يستحق العيش تحت سماء و فوق تراب هذا الوطن العظيم.
و في هذا الصدد فإن هذا الأمر يقع على عاتقنا كلنا و ليس الحكومات فحسب. إن الدولة ليست الحكومة، الدولة هي كل الشعب بكل مكوناته فإذا كانت الحكومات قد قصرت و لقد فعلت ذلك فإننا أيضا كشعب و بالذات الشرائح المتعلمة- يثقل كاهلنا وزر أكبر في التقصير و التعامي عن جهل أو عن عمد عن مكامن القصور في مجتمعاتنا الصغيرة أو الكبيرة. لا استثني أحد، كلنا ملامون و كلنا مسؤولون عما حدث و عما سيحدث. فإذا أردنا الوصول إلى مجتمع الحرية و العدالة و السلام فيجب أن نتحمل المسؤولية كاملة معا. يجب أن نقف هنيهة مع أنفسنا و أن ننظر خلفنا إلى ماضينا في غضب و أن نحول هذا الغضب من أنفسنا إلى طاقة إيجابية جبارة لنحدد ماذا نريد أن نفعل معا ؟ و كيف نفعل ذلك معا ؟ و إلى أين نريد الوصول معا؟
أنا بدونكم لا شىء و أنتم بدوني لا شئ و لكننا معا كل شيء.

و الله المستعان.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …