‫الرئيسية‬ رأي ادركوا القضاء، الباقى ملحوق
رأي - نوفمبر 8, 2020

ادركوا القضاء، الباقى ملحوق

محمد موسى جبارة :

لعل كثيرين لم يطلعوا على تقرير اللجنة الدولية الخاصة بالتحقيق في مسألة دارفور برئاسة القاضي الإيطالي أنطونيو قسيس والمرفوع للأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 يناير 2005

وهو التقرير الذي أوصى بإحالة موضوع دارفور لمجلس الأمن بموجب المادة (13) ب من ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية

أهم ما ورد في ذلك التقرير أن القضاء السوداني غير مؤهل وغير قادر على تناول الوضع في دارفور بسبب إضعافه بصورة كبيرة خلال العقدين الأخيرين (1990-2005) من خلال قوانين منحت السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة حدت من فعالية الجهاز القضائي.

ومن سخرية القدر أن القضاء الذي عبث به البشير صار السبب الجوهري في إحالته للمحكمة الجنائية الدولية.

ذلك التقرير مر مرور الكرام على كثيرين من الذين مارسوا العمل القانوني وقت ذاك. ويقيني إن سعادة قضاة المحكمة العليا الحاليين لم يسمعوا به ناهيك أن يكونوا قد اطلعوا على ما جاء فيه، فقد صدر التقرير باللغة الانجليزية.

اهتمت الحكومة بخلو التقرير من تهمة الإبادة الجماعية التي كانت السبب الرئيسي لتكليف اللجنة، فهلل له قانونيو الإنقاذ وفقا لما يتمتعون به من جهل بالقانون الدولي. وقد تعرضت لذلك التقرير في ابريل من عام 2005 بمقال طويل تحت عنوان “على نفسها جنت براقش” تجدونه في ﷟HYPERLINK “https://sudaneseonline.com/board/6/msg/1113314980.html”(الرابط) المرفق.

رغم ذلك لم أتصور أن يكون القضاء السوداني قد وصل إلى هذه الدرجة من التدني، ليس في الفهم القانوني والمهني فحسب بل في الفهم القيمي العام للأشياء.

وعندما ندرك أن الذين تم تعيينهم في الفترة المذكورة في ذلك التقرير قد وصلوا درجة قضاة محكمة عليا، لن يكون من المستغرب سماع ما جاء في حديث رئيسة القضاء نعمات محمد عبد الله في التسجيل المبذول للكافة.

ظننت بادئ الأمر أن الذي أرسل لي ذلك التسجيل قد أخطأ العنوان، فقد كان الحديث المسجل اشبه بونسة نسوان في جلسة “جَبَنَة” وليس لرئيسة قضاء تجلس في نفس المكان الذي جلس عليه ذات زمن جميل مولانا محمد أحمد أبو رنات الذي يُعتبر من أعمدة القانون في قارة افريقيا بل في معظم المستعمرات السابقة للإمبراطورية البريطانية. والذي بحكمته وحنكته وخبرته وعلمه استطاع أن يحفظ للقضاء استقلاليته وهيبته أثناء حكم الفريق إبراهيم عبود. حيث لم يكن في استطاعة الحكومة التدخل في سير القضاء إلا وفقا للمادة 231 أ من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1925.

وتقف قضية حكومة السودان (ضد) زهره آدم عمر شاهدا على قوة واستقلالية القضاء آنذاك.

وهو الكرسي الذي جلس عليه مولانا بابكر عوض الله الذي من غيرته وحرصه على استقلال القضاء تقدم باستقالته عندما رفضت السلطة التنفيذية بقيادة الصادق المهدي الانصياع لحكم المحكمة العليا برئاسة مولانا صلاح حسن في قضية حل الحزب الشيوعي السوداني في العام 1966، واعتبرته حكما تقريريا لا يلزمها بالتنفيذ.

وهو نفس المنصب الذي شغله مولانا عثمان الطيب ذلك الرجل العفيف الذي كان يستغل المواصلات العامة وهو الأولى بأن يُمنح سيارة طيلة حياته، غير أن تعففه منعه من أخذ سيارة الحكومة بعد تركه الخدمة القضائية حيث تربص به نشال في موقف المواصلات العامة واستل من جيبه مالا شحيحا كان يعده لقوت يومه. وللشعب السوداني أن يقارن بين هذا الرجل وأولئك الذين تحاول رئيسة القضاء استمالتهم بسيارات لهم ولزوجاتهم الأُول والثواني والثوالث والروابع.

لن اذكر خلف الله الرشيد فقد كان وبالا على القضاء يوم وافق على أن يكون عضوا في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي السوداني، ولا فؤاد الأمين عبد الرحمن الذي قاده العته إلى أن يكون عراب وقاضي الطوارئ في 1984. بالطبع لن يأتي على خاطري ذكر جلال علي لطفي إلا بكل سوء يستحقه، فقد كان أحد جلاوزة الإنقاذ.

رغم ذلك، ما سمعته من “رئيسة” القضاء لا يمكن أن يرد حتى على لسانيّ الأخيرين اللذين ذكرتهما. فقد كانت تتحدث في اجتماع للقضاء بأريحية امرأة في جلسة “ست الشاي” يحيط بها ويمدحها بصورة سمجة من يريدون الفوز بسيارات جديدة.

تستمع لقاضي او بالأحرى رئيسة قضاء تتحدث عن قضاة فاسدين ولا تحيل أي منهم للنيابة العامة.

ينصبون على الناس ويأخذون الرشوة ويأكلون المال العام كما ذكرت هي، وتقدمهم سعادة القاضية لمجلس محاسبة مكون بالضرورة من زملائهم الذين لا يختلفون عنهم في شيء.

لا أدرى هل خلت قوانين السودان بعد أن تركنا الخدمة العدلية فيه، من مواد ترفع الحصانة عن القاضي المتهم ومحاكمته إذا ارتكب جرما يعاقب عليه القانون.؟

فإذا تركنا السرقة والابتزاز والرشوة جانبا، هل كانت رئيسة القضاء ستحيل القاضي الذي يقتل شخصا إلى مجلس محاسبة أيضا كما فعلت في الجرائم الأخرى؟ علما بأن كلها جرائم افرد لها القانون الجنائي حيزا كبيرا ويعاقب عليها بموجب مواده؟

لا اعرف رئيسة القضاء ولم اسمع بها في سابق ايامي قبل ترشيحها للمنصب، لكني لم أتفاءل خيرا عند سماعي بترشيحها، وكان عتبي أكبر على الذين رشحوها لهذا المنصب. فقد قادتهم لذلك الخيار أسباب شتى لا اعتقد أن من بينها تقدير الكفاءة المهنية لتولي هذا المنصب الرفيع.

قد يكون من بين أسباب الاختيار مفهوم الجندر، رغم أنها بعيدة عن ذلك المفهوم ويتضح ذلك من طريقة حديثها التي لا تختلف عن طريقة حديث نساء المؤتمر الوطني. وربما بسبب العصبية الاكاديمية فهي تنتمي لمدرسة فقه القانون القاري ومعظم الذين من حولها ينتمون لذات المدرسة. بينما برر آخرون اختيارها بقولهم إنها امرأة قوية. ولا يدري المرء أي قوة تلك التي تجعل إنسان يقضي ثلاثين عاما من عمره القصير في خدمة ديكتاتور أحمق شديد الكره للعدالة.

لم يخبرنا الذين رشحوها بعدد الاحكام القضائية المنشورة لها في مجلة السودان القضائية، ولا بآراء نشرت لها في أي مجلة كانت، محكّمة او غير محكّمة، فذلك أمر لم يسترع انتباههم ولا يهمهم كثيرا. كل الامر أن تكون هناك امرأة في قيادة جهاز مهم حتى نتباهى امام العالم بأن لنا امرأة رئيسة قضاء وأخرى وزيرة خارجية، مما يعني أننا دخلنا عالم الحضارة. ويا له من منطقٍ بئيس.

عندما عاد الجنرال ديغول إلى باريس بعد تحرير فرنسا من النازية ومن حكومة فيشي، سأل عن مؤسسات الحكم في البلاد، فقيل له إنها بلغت أدنى درجات التدهور. فسأل سؤاله الشهير: هل القضاء بخير؟ وعندما اجابوه بنعم، قال قولته التي سارت بها الركبان: “طالما القضاء بخير ففرنسا بخير”. ومن وقتها وفرنسا في تقدم مستمر حتى أصبحت من الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وعضو مجموعة الـدول السبع الأكثر تطورا في العالم G 7

إذن كيف ينهض السودان إن كان قضاته يلهثون خلف سيارة؟

نحن امام مشكلة حقيقية لا بد من الانتباه لها بعيدا عن الوثيقة الدستورية وعبث أحزاب الحرية والتغيير. القضاء يحتاج لمراجعة حقيقية، هيكلا وقانونا. وأتمنى أن يتم ذلك بالاستعانة بالأمم المتحدة، فلها باع طويل في هذا المجال.

كثيرون من القضاة يحتاجون لإعادة تأهيل سريع وقد يتم ذلك بالاستعانة بالقضاة الذين تركوا الخدمة او اجبروا على تركها، ويقتضي الأمر تشجيعهم بالعودة للعمل مرة أخرى طيلة الفترة الانتقالية. على أن يعملوا في كل درجات التقاضي غض النظر عن العمر وطول الخبرة. فنحن نحتاجهم كخبراء يستفيد منهم القضاة الجدد او الذين يُرتجى تحسين أدائهم ممن هم في الخدمة.

العدالة الركن الثالث من شعارات الثورة الظافرة، ولن يتحقق الشعاران الآخران، الحرية والسلام، دون قضاء كفء ونزيه وقضاة مؤهلين مهنيا واخلاقيا.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …