
في حياة الامام (١: تمهيد)
مهندس محمد فاروق سلمان :
هي الايام شيمتها الفراق
فهل ابقت عيونك ما يراق..
حزني عليه حزن جيل لم يورث ممن سبقوه من اجيال غير التنافر، ممن لم يعرفوا كيف يحبون الوطن من غير ان يبغضون بعضهم، ولم يطيقوا صبرا على امرٍ اذا صار بغيرهم، حتى صار تامرهم على الديمقراطية والانقلاب عليها طاقتهم الوحيدة لتصحيح مسارها وتقويم (اعوجاجها) فشهدت بلادنا في عهدهم انقلابين عسكريين من تدبير النخبة التي انتدبت نفسها كقيم على الحداثة ووصي على وعي الجماهير متهمة الجماهير في اهليتها، وكانما التاريخ قد انصفه اذ أن انقلاب كلا اليساريين والاسلاميين السودانيين كان على شرعية ظل هو من يمثلها في وجهها الرسمي والسياسي، كما حباه الله بطولة بال لم تكن من صفات جيله في قبول النقد وعدم الجهل على من يجهلون عليه، فاجمع الناس في وصفه بعفة اللسان وسماحة الخلق، حتى صار استثناءا بين جيله في التادب عند الاختلاف. حزني حزن محرومين من ترديد محاسن الناس الا بموتهم فصاروا لطلب وصلهم عند فقدهم؛ لذا اخترت ان اودعك سيدي الامام بالحديث عن حياتك وليس بالوقوف عند رحيلك.
و مثل سيرته لا تنتهي بموته، واظن انها فرصة لمراجعة اخطاءنا بحقنا وليس بحقه، كثيرون قد يبدون بعض الندم لكيف تعاملو مع الامام بحياته، ندم لم يطلبه هو نفسه، وكثيرون حزنهم عليه لكونهم فقدوا زعيمهم فعلا، وقلة ايضا تحس براحة لانها تصورت ازمة السودان كانت في وجوده، دون ان يشغلوا انفسهم بكيف تكون حلول نفس الازمة بغيابه، وهذه فئة سنودعها مع الحقبة التي ظل يمثلها الامام وله فيها القدح المعلى اثرا وتاثيرا واختلفنا او اتفقنا معه فالرجل ظل من رموز حقب الديمقراطية عندنا بكل ما حملت من عثرات لم يكن نصيبه منها الاكبر بقدر ما كانت فرصه عبرها هي الاوفر.
نودع بوفاته فعلا حقبة من تاريخنا لن يكون من الممكن العودة اليها ابدا، وَلَن يكون تجاوزها باسقاطها او تجاوز ما مثله الامام الصادق المهدي فيها، وكما كان صعوده هو نفسه بعد اكتوبر ٦٤ تدشين لحقبة جديدة حاول فيها ان يخرج عما كان سائدا قبلها، فكانت مواقفه اكثر بعدا عن المحافظة بشكلها المعروف وقتها: مثقفين اكتسبوا نفوذهم بعقد مصالحة مع اصحاب النفوذ الاجتماعي والديني التقليدي من زعماء الطوائف والقبائلية، لياتي هو كمثقف من ذات بيوت الطوائف ويقبل بان يضع كسبه بين الناس مودعا كسب الولاء والطاعة ويخرج عن سطوة الصمت التي استمد منها الاباء قوتهم ونفوذهم، تماما كما كان صوت الامبراطور الياباني محرما سماعه على العامة وظل اقدس من ان يسمع في بعض المجالس أيضاً. فتحدث للناس وكتب واسهب. فكان فتحًا جديداً واحتفاء بالعقل في السياسة في السودان وتهديد لجدر الوصاية وهدم لها، حتى وهو الغني بامتيازاتها والغني عن تهديد مزاياها، ليتنازل طوعا عن كل هذا مستقبلاً ببلاده افاقا جديدة اكثر التزاما بروح العصر واقدر على مخاطبة الحاضر. ليزاحم بمقدمه ومدخله هذا في زمانه ذلك احتكار الحداثة والقوى الحديثة لفئة من المتعلمين الطموحين سواء ممن التزموا سجادة السادة وعملوا من خلال (قنانة) الراعي للحزب، او من نصبوا سرادقهم مستقلين بحزبهم عن امام الطائفة مبايعين ائمة الحداثة وشيوخها وجنرالاتها حتى. فصار عداءهم لك اوضح وان لم يغلب وان الى ربك الرجعى:
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …