جاءتنا الحركات المسلحة بالقوة لا بقوة
عبد الله علي إبراهيم :
هذه كلمة ترجع إلى تكوين حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاقية نيفاشا (٢٠٠٥) عن مقتضى تأقلم الحركة الشعبية قرنق كحزب سياسي في الحكم بعد عقدين أو أكثر كحركة مسلحة. وخطر لي إعادة نشرها وبيننا حركات مسلحة بصدد ركوب دست الحكم وأخرى تنتظر.
سألني محرر “حديث الساعة” المميز بالتلفزيون عن رائي في الطريقة التي ستتأقلم بها الأحزاب في بئية السلام المرجو.
ملت في إجابتي في “حديث الساعة” للتركيز علي المطلوب من الحركة الشعبية بوصفها فرس الرهان الجديد في سياستنا. وقلت إن مما يذكر لها أنها حملت قضايا الهامش (بعبارة أدق، ديمقراطية الريف) إلى منتصف مسرح الحكم عندنا. ويشبه انجازها هذا في خطره ما قام به الشيوعيون والحركة الاسلامية. أما الشيوعيون فقد جاءوا بقضايا العمال والريف المتقدم وجعلوها هماً سياسياً شاغلاً للجميع سلباً وإيجاباً. وشددت الحركة الاسلامية علي مساس الدين الجوهري بالحكم وملأت بدعوتها الدنيا وشغلت الناس. وأقول استطراداً إن علي الشيوعيين أن يتأملوا لماذا لم يبلغوا الريف الأقصي حتي سبقتهم إليه الحركة الشعبية. وقد طرأ لي هذا السؤال خلال مشاركتي في الحوار الذي تقوم به هذه الجريدة (الصحافة) مع الاستاذ حسن سلامة. وسلامة تفرغ للعمل الشيوعي في الهامش السوداني في الأربعينات والخمسينات حتي ترك الحزب في 1960. وبدا لي أنه لم يحل بين ذلك الريف الأقصي والشيوعيين سوي الغفلة الناجمة من نقص الديمقراطية في الحزب نفسه. ومن أطرف ما سمعت منه أنه استوحي خطر العمل في الهوامش من همباتي التقي به في سجن كوستي في 1954. فقد علم الهمباتي بفكرة الشيوعيين عن الثورة الاجتماعية من حسن سلامة. وعلق قائلاً: مثل هذه الثورة تبدأ من الهامش كالنار تبدأ في الطرف وتزحف الي قلب الغابة.
ستحتاج الحركة الشعبية الي نقض غزل كبير لكي ينتفع بها الناس فيما بعد السلام. فهي تأتي إلى الساحة خلواً من المهارات في العمل السياسي العادي لأنها أختارت منذ عشرين عاماً أن تكون عصبة مسلحة لا حزباً سياسياً اضطر الي حمل السلاح. وقد روي ملابسات هذا الخيار الباهظ الدكتور لام أكول في كتابه المعروف. وقد جعل هذا الوضع كلمة الجيش الشعبي للحركة هي العليا. فقد فرضوا أنفسهم صفوة حاكمة علي الأهالي. وقد لاحظ السيد بونا ملوال تورد خدود ضباط الحركة بالقياس الي شعبهم لاستيثارهم بالعون الوافد دون الناس. وقد تورط الجيش في استعداء شعوب جنوبية مختلفة لم تقبل جشع بعض ضباط الجيش الشعبي للثراء عن طريق مصادرة أبقار القبيلة. كما نشأ بين طبقة ضباط الحركة مستبدون مشهورون مثل “جزار الاستوائية” في وصف الصحفيين الأجانب له. ولم تكن بالطبع مساحة للخلاف في الحركة. وعبر الخلاف عن نفسه في هجرات الكادر الي صف الحكومة أو في “حروب المتعلمين” مثل تلك التي وقعت في أعقاب صراع قرنق ومشار. وبالطبع سَوّد هذا النهج العسكري صحائف الحركة فأصبحت كحكومة الانقاذ سواء بسواء في خرق حقوق الإنسان. وبلغ ضيق الرأي العام بتجاوزاتها حداً كتبت فيه النيويورك تايمز أن قرنق هو الذي تولي أعدل القضايا قاطبة وحولها الي كابوس.
لتخرج الحركة الى عهد ما بعد السلام ستحتاج الي تأمل ما شاب انجازها الكبير في جلب هموم الهامش الي مركز دائرة السياسة. فخطيئتها أنها استصحبت هذه الهموم بالقوة بدلاً عن “بقوة”. ويا يحي خذ الكتاب بقوة لا بالقوة. وهذا عيب له ما بعده بالطبع.
هامش: تبلغ مسامعي ترشيحات لقيادات من الجبهة الثورية لكراسي الوزارة. ووجدتهم يخصون الوزارة بمرشح واحد. وهذا خلاف ما كان الأمر في تشكيل الوزارة الأولى. فطلب فيها الدكتور حمدوك رئيس الوزراء ثلاثة مرشحين لكل وزارة ليختار منهم ما اتفق له. بل راجع قحت في بعض من رشحت وأقنعها بالترشيح من جديد. وهذه خطة أدعى ليتفق للوزير، مع حزبيته، أنه مرؤوس لرئيس اصطفاه من بين آخرين. وتشتد الحاجة هنا لمثل هذا الإجراء مع حركات محاصصة “قَبَل” لا كأحزاب قحت التي تفعلها وتنكر. وهي حركات مسلحة لا أدرى إن كانت ستقبل إعفاء رئيس الوزراء لواحد منهم كما سبق أن فعل.
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …